قضايا وآراء

"موت الصحافة؟"

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
من المبالغة حقا الادعاء بأن لجوء العديد من المنابر التقليدية، المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، بطريقة كاملة (عبر تحولها إلى منبر إلكتروني قائم الذات)، أو بطريقة جزئية، (بالإبقاء على الصيغة الورقية، بالموازاة مع التواجد على الشبكة) من المبالغة القول إن الأمر يشي بالموضة، أو بسلوك للهروب إلى الأمام، أو تطلع ما لإنقاذ ما لا بد من إنقاذه، أمام "الطوفان الرقمي" المتصاعد.
 
قد يبدو الأمر كذلك لأول وهلة، إلا أن ملاحظة واقع الحال، وتحليل صيرورة تفاعل المنابر الإعلامية في الزمن والمكان، إنما يبينان أن ثمة ثلاثة معطيات موضوعية ثابتة، لم يعد هناك من مجال للمكابرة بشأنها، أو التجاوز على الضغط الثاوي خلفها:
 
 - المعطى الأول، ويكمن في ضخامة الاستثمار الصناعي الذي تستوجبه عملية "الإنتاج" بالمنابر الإعلامية التقليدية، ليس فقط فيما يخص رأس المال القار المفروض ضخه في العملية، بل أيضا فيما يرتبط بالمدة الزمنية الضرورية لاسترداده. كل الإشكالية هنا مرتبطة بنجاعة قرار الاستمرار في الاستثمار "الثقيل"، في منابر يطاولها التجاوز تدريجيا، بالقياس إلى واقع حال سمته الأساس تزايد منافسة وتنافسية الشبكات الرقمية.
 
 - أما المعطى الثاني، فيرتبط بمسألة نقط التوزيع، فيما يخص الصحافة المكتوبة (كما المجلات والدوريات وما سواها) والتكاليف المترتبة عن ضرورات تزويدها بانتظام، وبمجال جغرافي تتزايد طلباته ومتطلباته بتزايد سعته. هذا الإكراه غير قائم بالمرة بالنسبة لشبكات التواصل الجديدة، حيث يقوم كل حاسوب مرتبط بذات الشبكات، مقام "نقطة" التوزيع أو البيع، دونما ضغوطات الزمن، أو إكراهات تغطية كل المجال الجغرافي.

 - المعطى الثالث ويكمن، كما سبقت الإشارة لذلك، في قدرة هذه الشبكات على ضمان الآنية في إيصال المعلومة والخبر، ومرونتها الكبيرة في توفير عنصر التشاركية والتفاعلية، الذي لا تمكنه المنابر الإعلامية التقليدية، أو لا تمكنه إلا في حدود معينة.
 
كل هذه العناصر تعطي الانطباع بأن مستقبل المنابر التقليدية إنما بات مهددا وإلى حد كبير (إنه "موت الصحافة" يقول بعض المستشرفين). إلا أن المعطيات الإحصائية بالعديد من الحالات، إنما تبين بجلاء أن الشبكات إياها، قد تحولت إلى حافز قوي لدى عدد من المنابر، لولوج عالم الشبكات، وتكييف نموذجها الاقتصادي مع تحديات ذات العالم ورهاناته.
 
والقصد، بهذه الجزئية، إنما القول بأن العديد من المنابر التقليدية قد بدأت تلج مجال الشبكات، وبدأت ترفع من درجة ومستوى تواجدها بها، من خلال عرض مضامين جديدة ومتنوعة، بالقياس إلى الصيغ الورقية المعمول بها لديها، من عقود طويلة مضت.
 
ولعل المستوى الأول في ذلك قد تمثل في استعادة مضامين وشكل الجريدة الورقية، ووضعها على الشبكة كما هي. إلا أن الإشكال الذي من شأنه أن يقوم هنا، كامن في المفارقة التي قد تترتب على صورة منبر مجاني بالشبكة، ومؤدى عنه بأرض الواقع، أي بنقط التوزيع والبيع المادية.
 
لهذا السبب، وهذا مستوى ثان، عمدت العديد من المنابر إلى تجاوز هذه المرحلة "البدائية"، وإن كانت ضرورية، عبر تطعيم مواقعها بالشبكة بمضامين خاصة، حيث تعمل هيئة تحرير الصحيفة الإلكترونية، على إضافة مقالات وصور وروابط مع مواقع أخرى، لا سيما مع مواقع وكالات الأنباء الوطنية أو الدولية، مع إدراجها لحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا الفيسبوك والتويتر.
 
أما المستوى الثالث، فقد تم تكريسه بلجوء العديد من المنابر "التقليدية" أيضا، إلى اعتماد سبيلين إضافيين اثنين: إدماج المضامين المتعددة الأقطاب في قطب واحد، يمرر بالتزامن وبالآن معا، للكلمة والصوت والصورة والفيديو، ثم تطوير وظائف الجيل الجديد للإنترنيت (جيل الويب 2.0)، حيث إغناء المضمون الرقمي بما ينتجه المبحرون "الهواة" من مواد ومحتويات. وهو ما يعطي هذه المنابر قوة تفاعلية لا بأس بها.
 
من هنا، بات بإمكان متصفح مواقع الجريدة اليومية أو الأسبوعيات أو المجلات، أن يطلع على المقالات المدرجة، وأن ينصت للإذاعة أو يشاهد التلفزة، أو يقوم بتحميل أفلام سينمائية أو سلسلات إذاعية، ناهيك عن الإمكانية التي منحت له لتقاسم هذه المضامين مع "أصدقائه" بشبكات التواصل الاجتماعي.
 
ولعل قبول العديد من المنابر الإعلامية التقليدية بتواجد مدونات على مواقعها، أو روابط مع مواقعها الأساس أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، يمنح الصحفيين وهيئات التحرير سبل التواصل والتفاعل مع زوار مواقعهم، والرفع من منسوب "ثقافة القرب" التي يرفعها هذا المنبر أو ذاك، أو التي تسعفه في قياس مستوى الزيارات، التي تتوجه للمنبر إياه.
 
هل نحن حقا بإزاء "موت الصحافة" (الصحافة التقليدية تحديدا)؟ قد يكون الجواب بالإيجاب قياسا إلى محددات نموذجها التقليدي، المرتكز على الاستثمار الضخم وتوافر أسواق للتوزيع والبيع. لكنه قد لا يكون كذلك لو استحضرنا قدرة هذا المنبر أو ذاك على التأقلم مع الواقع متزايد المد، واقع "البيئة الرقمية" الذي يستوجب ابتكار نماذج اقتصادية جديدة، تحافظ على طبيعة الرسالة، لكن دونما أن تفرط في عناصر استمراريتها وديمومتها.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل