قضايا وآراء

في البحث عن جذور الإرهاب

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

في الموقف الأخلاقي المبدئي نعيد تأكيد حرمة الدم الإنساني، وأن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن القتال المشروع دينيا محصور ضد المعتدين البادئين: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".

لكن يبدو أن هذه التأكيدات المبدئية لم تعد كافية في عالم يضج بالقتل والدماء، وتتسع فيه رقعة الخوف لتطال دولا كانت تظن أنهم مانعتهم حصونهم من الإرهاب، ويمارس في هذا العالم الإرهابَ من يمارسه غير عابئ بنظريات الأخلاق ونصوص الدين. في واقع كهذا لا بد من تناول القضية بأبعادها السياسية والاجتماعية، فالدين والأخلاق يقولان لنا ما ينبغي فعله، أما التناول السياسي والاجتماعي فيتعامل مع ما هو كائن فعلا، ويبحث في الأسباب العملية التي أنتجته وفي الحلول العملية التي يمكن أن تواجهه.

العنف يمارسه الضعفاء والأقوياء، فأما الضعفاء فيلجؤون إليه لأنهم يشعرون باليأس والفشل والعجز عن إثبات حضورهم في ميدان الفاعلية الاجتماعية والسياسية والحضارية، وأما الأقوياء فيمارسونه ظلما وعلوا واستكبارا في الأرض، فهم يرفضون كلمة السواء التي تنزع منهم امتيازاتهم التي أخذوها من غير وجه حق، وتعطي الضعفاء الحقوق ذاتها، هم يعتقدون أن القوة تمنحهم سلطانا للعلو على الضعفاء وقهر إرادتهم، فيستعملون كل وسائل القوة لإبقاء الضعفاء في مواقع الاستعباد والامتطاء لخدمة مصالحهم ورفاهيتهم، ويمنعون كل محاولة لنهضتهم مخافة أن يتحولوا إلى منافسين أنداء.

لكن سنة الله ماضية في أن لكل فعل ردة فعل، وقد اقتضت سنة الله أن الإنسان لا يصلحه إلا العدل والإحسان، فإذا عومل الإنسان بالعدل والإحسان كان الأمن والتنمية والرفاه للجميع، قويا أم ضعيفا، حاكما أم محكوما، وإن غرت القوة أصحابها فظنوا أن بمقدورهم استعباد الناس بالظلم والإكراه، فإنهم يبذرون بذورا من الكراهية والعنف تتراكم تحت التربة، وتنمو على مكث وفي خفاء، فإذا حانت اللحظة المواتية تفجرت الكراهية والخوف من كل مكان، وتزلزل أمن المجتمعات والدول، وتمزق الناس شيعا، فيتساءل الناس حيارى: أنى هذا! وهم غافلون أنه مما كسبت أيديهم وأنها بضاعتهم ردت إليهم، وأن المفاجأة لا تصح إلا للحمقى الغافلين، أما الذين يعقلون فهم يربطون النتائج بأسبابها وينسبون الثمار إلى بذورها، فحيثما وجد الخوف وفقدان الأمن فابحث عن الظلم، وحيثما سادت الكراهية فابحث عن التمييز والاضطهاد، وحيثما اندلعت الثورة فابحث عن سوء توزيع الثروة.

من الضروري التأكيد أنني أتناول سنة جماعية لا قانوناً فرديا، إذ لا يشترط أن كل ضحية للإرهاب ضالع شخصيا في الظلم الواقع على المستضعفين، والأغلبية الساحقة بل ربما جميع ضحايا هجمات فرنسا وبلجيكا وغيرها أناس أبرياء، وهو ما يجبرنا على إعادة تأكيد الموقف الأخلاقي المجرِّم لاستهدافهم، لكن وجه الاستدلال هو في الصورة العامة المتمثلة في اتساع رقعة الخوف في العالم وفقدان دول كانت تظن نفسها في مأمن من النيران المشتعلة في بلادنا. القدرة على توفير الأمن والحماية لمواطنيها، هذا الحصاد المر هو إيجابي من أحد جوانبه، وهو ترسيخ قناعة بأن تكلفة الظلم باهظة ومقسمة على الجميع، وأن الاستثمار في العدل وردم منابع الشعور بالقهر والضيم يتلاقى مع منطق المصلحة الذي يحكم السياسات الغربية، وأن دعم الأنظمة الاستبدادية التي تقتل شعوبها وتهجرهم وتصادر حريتهم وكرامتهم، بالإضافة إلى كونه عملا غير أخلاقي، فهو أيضا عمل مناف للمصالح الغربية في مداها الاستراتيجي، إذ إن وجود نظام مستبد مجرم في أي رقعة من العالم، هو بمنزلة قنبلة موقوتة؛ لأنه يشحن شعبه بوقود الكراهية التي تتراكم وتتعاظم في النفوس وفي العلاقات بين الناس، لتمثل فيما بعد تهديدا خطيرا للسلم والأمن العالميين.

العنف لا يأتي من فراغ إنما ترعاه حاضنة اجتماعية تغذيه وتسقي شجرته بمداد أسود، والشخص الذي يتبنى ثقافة العنف هو شخص قد اشتعلت نفسه بالنقمة على العالم، فإذا ساد العدل والسلام وحلت مشاهد التعايش والوئام بدل مشاهد الموت والدمار القادمة من البلاد المنكوبة مثل سوريا والعراق، وإذا خلقت فرص حقيقية لمكافحة البطالة والفقر وتأسيس التنمية والازدهار، فإن جزءا كبيرا من هذه المشاعر السلبية سيزاح، لتحل محله مشاعر إيجابية مفعمة بالأمل وحب الحياة، لا نقول إن المدينة الفاضلة ستولد حينها فالنفوس المريضة سيظل لها وجود ما دمنا في مجتمعات بشرية، لكن الذي يحدث هو أن المناخ العام سيعمل ضد فكر التطرف والعنف، وسيكون أي فعل إرهابي فعلا معزولا لا يباركه أحد أو يبرره، فلن يتولد عنه مزيد من الأفعال المشابهة لأن الوسط الثقافي والاجتماعي غدا معقما.   

شمعة الأمل وسط حالة الفوضى والجنون التي تضرب العالم شرقا وغربا، هو أن مزيدا من الأدلة تؤكد أن دعم العدالة ليس مطلبا أخلاقيا وحسب، بل هو من صميم المصالح السياسية لجميع الأطراف عدا المستبدين والمفسدين، وأن نار الظلم لا تحرق الشعوب المستضعفة وحدها، بل يطال البلاد المتحضرة نصيبها منها أيضا.

 لست متأكدا من انتصار العقل على الجنون، فالخيارات البشرية مفتوحة على كل الاحتمالات، وربما تتجه أوروبا إلى مزيد من التطرف ضد المسلمين في أعقاب هذه الهجمات، لكن الرد على هذه الهجمات بالمنطق الأمني أو الإقصائي لن يكون سوى هروب من مواجهة حقيقة المشكلة، وسيكون كمثل الطبيب الذي يعالج العرض ويغفل عن جوهر المرض.

إن الإرهاب لم يولد إلا من رحم الاستبداد، وكل تساهل تجاه الأنظمة التي تقتل إرادة شعوبها في الحياة والكرامة والحرية، هو تساهل تجاه أمن كل دول العالم ومصالحها، فالعالم اليوم غدا متشابكا متداخلا، ومنطق المصلحة هو ذاته منطق الأخلاق، إذ لا تنمية ولا استثمار إلا بتوفير بيئة آمنة ومناخ إيجابي، فهل يعي العالم الدرس ويختصر المعاناة ويستثمر في العدل بدل الحرب، وفي الإحسان والمساواة بدل القهر والاستعلاء، أم إنه لن يتعلم قبل دفع مزيد من الأثمان الباهظة؟؟

"يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم"..
0
التعليقات (0)