كتاب عربي 21

أحزاب النهضة العلمانية.. مرحلة رمي السلالم بدأت!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
سيصيران فرعان أحدهما دعوي والآخر سياسي. أما الأول فسيدعو إلى مبادئ الإسلام باعتباره الحل لكل ما تعيشه الأمة من ضيق. وأما الثاني فدعواه دنيوية باعتبارها الغاية والمنتهى وفق قوانين وضعية تتلاءم وخصائص المجتمع الذي "ارتضاه" أهل البلاد نهجا وسبيلا.

إن بدأت مع الجناح السياسي فالأبواب لك مشرعة للمناصب والمسؤوليات. وإن بدأت حياتك مع التيار الدعوي واصطدمت بإفك وانتهازية "إخوانك" السياسيين، فأبواب جماعات الخرافة السلفية أو الدولة الإسلامية، كما تقدمها داعش مستجيبة لكثير من نصوص الجناح الدعوي التي تربيت عليها، هي الأمل والخلاص. يومها، لن تتوانى في توجيه السلاح وجهة من "خانوا" الكتاب والسنة من "إخوانك" ومن والاهم بعد أن آثروا الاشتغال بدستور وضعي.

لم يكن مستغربا من الذين غسلوا أيديهم من التفويض الشعبي للتونسيين وارتضوا أن يتحولوا إلى مجرد رقم فائض وتكملة عدد في الساحة السياسية بالبلد، أن يعلنوا في مؤتمرهم العاشر بعد كلمة الترحيب بلغات العالم، أن الاشتغال في إطار مرجعيات "الإسلام السياسي" لم يعد السبيل الأوحد لتحقيق طموحات الأمة، فالمرحلة مرحلة انفتاح ديمقراطي بعد ظلام استبداد كان يستلزم "التشدد" في مواجهته ولو اقتضى الأمر استغلال الدين وتطويع آياته وأحاديثه. لقد صار فصل الدعوي عن السياسي أولوية بعد أن تذوق "الإخوان" حلاوة المناصب وشهد السلطة ولو لم يستمروا فيها طويلا. لكن العين كلها على المستقبل فهم الرقم الصعب الذي يتودد إليه كل طامع في السلطة ويستجدي دعمه ومساندته.

لقد صار الحديث عن منهج سياسي أساسه أدبيات "الإسلام السياسي" شبهة في المحيطين الإقليمي والدولي وعند رموز "الثورة المضادة" المنتشرين في كل مكان قد تقود أصحابها مجددا إلى السجن والاعتقال أو المنفى. هم اختاروا الدنيا ومن رغب في الآخرة فالأجنحة الدعوية سبيله إلى ما أراد إن تركوه. الدعوة عندهم، في البدء والمنتهى، مرادف لاستقطاب الأتباع والمريدين الذين يتحولون غداة أي استحقاق انتخابي إلى خزان استراتيجي من الأصوات.

لم يكن الأمر وليد لحظة "طيش سياسي" أو "وخز ضمير" بل هي لبنة، قد تبدو الأهم، في سياق تاريخي بدأته الأردوغانية في تركيا وصارت معه نبراسا حاولت كثير من حركات "الإسلام السياسي" العربية تقديمه نموذجا يحتذى. هم يعتقدون أن جرة قلم تفصل الدعوي عن السياسي كفيلة بإعطائهم شرعية الانتماء للحداثة ومن تم تحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة. لأجل ذلك، لا يتوانون عن التبرؤ من فكر "الإخوان المسلمين" بعد أن كانوا جنودا في صفوفها لعقود وسنوات. ولتأكيد الأمر كان تجاهلهم دعوة من لا يزال من "الإخوان" طليقا خارج معتقلات عبد الفتاح السيسي وكأنهم يصرخون ملء أشداقهم: احنا مش معاهم.. 

أنا مش معاهم، 2007، المخرج أحمد البدري.

داخل زنزانة الحجز، مجموعة من الطلبة اعتقلوا على إثر تظاهرة طلابية بالجامعة. بين المعتقلين كان عمر وزملاؤه الثلاثة الذين وجدوا أنفسهم في التظاهرة وهم على غير ما تدعو إليه. 

يقترب حلواني، وهو الطالب إسلامي، من عمر.

حلواني: بارك الله فيك يا أخ عمر. ايلي حصل النهار ده منك وايه؟ على مرأى ومسمع الجميع، أكبر دليل على انتمائك لدين الإسلام وغيرتك ومناصرتك لأخواتك المسلمات.

عمر: يا عم اقعد بقا في حته خنقتني.

حلواني: مالك يا أخ عمر؟

عمر: معلش يا أخ حلواني، الظاهر الخبطة ايلي أخذتها على دماغي أثرت علي.

حلواني: عذرك معاك يا أخ عمر. عذرك معاك. احنا جميعا مقدرين المهام الجسام ايلي انت مكلف بيها والدور القيادي العظيم ايلي انت بتقوم بيه. ولكن انت بعزيمتك القوية وارادتك الحديدية قادر ان شاء الله على تعليمنا أسس ومبادئ البذل والعطاء.

وأمام رئيس النيابة حُوِّل عمر وزملاؤه الثلاثة.

رئيس المباحث: وانتوا بقا تبع أي جماعة؟

عمر: جماعة ايه يا باشا؟ يا باشا أنا بشرب حشيش ومن أجود الأنواع. وذوق بنفسك يا باشا لو مش مصدقني.

رئيس المباحث: لأ صايع يا واد. عايز تورط نفسك في قضية ثانية علشان تخرج من ده. العبوا غيرها يا دكاترة.

صديق 1: يا باشا أنا مش دكتور، أنا في تجارة. متقولوا يا عمر.

رئيس المباحث: يعني كل واحد منكم حيطلع لي بحجة. أنا ما بيكولش معايا الكلام ده.

صديق 2: ممكن يا باشا لو سمحت؟

رئيس المباحث: نعم، انت كمان!

صديق 2: (وهو يبرز سلسلة متدلية من عنقه) أنا يا باشا مسيحي. والله العظيم مسيحي.

رئيس المباحث: نعم يا خويا؟

صديق 2: ايوه يا باشا صدقني وعمر ايلي جماعات .....

يوافقه الأصدقاء جميعهم.

عمر: فعلا يا باشا. أنا عملت الحاجات ده كلها بس الأخ كريم هو المساعد بتاعي، والأخ هيثم هو قائد الجناح العسكري في الجماعة، وبالنسبة للواطي الثالث ده فهو مندوب الجماعة في كلية التجارة.

رئيس المباحث: أيوه كده. الكلام أخذ وعطا. مش تقولولي مسيحي وتجارة وأنا مش معاهم. عيب..

"أنا مش معاهم" صارت شعار المرحلة ابتدأت من شركاء الداخل بمصر لتمتد إلى "إسلاميي" المغرب وإلى آخرين كثر قبل أن تنتهي في المؤتمر العاشر لحركة النهضة "الإسلامية" رغم أنفها. فلا الأحزاب المنافسة ولا أبواق الإعلام المعادي ستقفز عن حقيقة تاريخ الحركة وسوف تستدعيه كلما كان للأمر ضرورة، و"الشبهة" التي يحاول فاصلي الدعوي عن السياسي ردّها ملتصقة بهم إلى أبد الآبدين.

الموضوع المطروح اليوم هو تغييب قضية فلسطين من خطاب الحركة/ الحزب المدني الجديد، حيث أن الذي رفع شعار "احنا مش معاهم" في التصريحات الإعلامية في ترجمة واضحة للتوجهات الجديدة، لن يتوانى غدا عن نفض اليد من المقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة ويجاري التوجه الإقليمي والدولي في حصار القطاع ومحاولات تصنيف حماس "الإخوانية" منظمة إرهابية كما حال الشقيقة الكبرى جماعة الإخوان المسلمين.

يبكي كثيرون كيف أن ما يسمونه "ربيعا عربيا" قد فشل. والحال أن المطلوب البكاء على "نجاحه" في تحقيق أهم مكسب تمثل في القضاء على كل الإرث التراكمي لتجربة "الإسلام السياسي" بدءا من "القضاء" على الإخوان المسلمين بمصر وإعادتهم إلى السجون والمنافي بل ضرب المصداقية والتعاطف الذي كانت تحظى به الجماعة في الداخل والخارج، مرورا بترويض بقية "الحركات الإسلامية" سواء بإدماجها في بنية الاستبداد أو إثارة الخلافات التنظيمية داخلها بما يعجل بنهايتها أو تهميش دورها في مراحل "النهضة العلمانية" القادمة.

 إنه زمن الخلطبيطة كان وسيبقى..

خلطبيطة، 1993، المخرج مدحت السباعي

بعد اعتقاله بتهمة قتل مسؤول حكومي، يُتهم حسان بالانتماء لمنظمة إرهابية، وبأمر من السلطة تسهب الجرائد في الحديث عن بطولاته وأمجاده. تزوره زيزي في السجن.

زيزي: ابسط يا عم. كل جرايد البلد مبقالهاش سيرة غيرك. شوية يطلعوط بطل وشوية يطلعوك مجرم بس الناس مبيصدقوش عليك أي كلمة وحشة وكلهم بيحبوك وبيتحاكوا عنك وعن شجاعتك وبطولاتك ضد الانجليز وبشاوات السرايا.

حسان: الناس نفسهم يلاقوا بطل، بطل شجاع منهم يغنوا له ويحكوا عنه الحواديث.

زيزي: حتى لو كان البطل ده مش حقيقي وحدوته كلها كذب وتلفيق؟

حسان: يعني أبو زيد الهلالي ايلي قتل عشرة بضربة واحدة ولا الزناتي خليفة ايلي كان بيشخط في السباع يتنططوا ولا عنتر بن شداد ايلي غلب جيش لوحده، كل دول عملوا ده حقيقي؟ لأ، ده كلها حواديث ألفها الناس علشان يغنوها فحكاوي . حواديث كلنا عارفين أنها مش صحيحة ومع ذلك بنسمعها واحنا بنهلل بفرحة ومبسوطين لحد ما صدقناها. عارفة صدقناها ليه يا زيزي؟ لأن كل الناس بيحلموا ببطل شجيع بطل يخلصهم من اعاديهم ويحقق أحلامهم بضربة واحدة.

زيزي: وتفتكر أن مهما حكوا وغنوا عن ابو زيد وعنتر والزياني خليفة حيطلع البطل يعمل زيهم؟

حسان: من عارف يمكن يجي يوم ويطلع فيه البطل ايلي يحقق للناس كل أحلامهم.

زيزي: واذا ما طلعش؟

حسان: حيفضلوا يحلموا بيه ويغنوا له علشان يجي.

زيزي: اهو انت دلوقتي بقيت عن الغلابة بطل.

حسان: علشان كده مش حاخذلهم ومش حخلي حلمهم يطلع على فشوش.

في آخر الفيلم، أفرج عن حسان لأنه كان مجرد متهم بالخطأ تم النفخ فيه، وصار يتخيل المدافع وطلقات الرصاص تهوي عليه في الصحراء الفسيحة الخالية.

هو ذا زمن الأوهام ورمي السلالم بعد الصعود..
0
التعليقات (0)