مقالات مختارة

المجاملة هنا والشغل هناك

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
العنوان الرئيسي للصفحة الأولى في جريدة الصباح جاء مثيرا للتساؤل والفضول، كان العنوان الذي تصدر جريدة الأهرام في 28/3 كما يلي: "تعاون مصري صيني للنهوض بجودة التعليم"، لم أتوقع أن يثمر التعاون المفترض نهوضا بجودة التعليم في الصين، ورجحت أن يكون العكس هو المقصود. 

في هذا الصدد، كانت لدي معلومات عن إنجازات في مجال التعليم في سنغافورة وهونج كونج واليابان وكوريا الجنوبية، كما قرأت عن تفوق الطلاب الصينيين في الرياضيات ومجالات البحث العلمي، إلا أنني لم أسمع عن نموذج تصدره الصين للنهوض بجودة التعليم في مصر، أما نموذج التنمية الذي تقدمه فهو الذي طبقت شهرته الآفاق، حتى وصفت الصين بأنها "مصنع العالم"، رغم أن وسائل الإعلام تتحدث هذه الأيام عن تراجع نسبي في معدلات النمو هناك.

دفعني الفضول إلى مطالعة التفاصيل الواردة تحت العنوان، فوجدت أن محورها لقاء تم بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونائبة رئيس الوزراء للتعليم العالي والبحث العلمي ليو يان جونج، وخلال اللقاء تبادل الطرفان عبارات المودة والرغبة في التعاون المشترك في المجالات التعليمية والسياحية. وذكرت رئيسة الوفد الصيني أن بلادها تعتزم زيادة عدد المنح الدراسية المقدمة إلى مصر لتصبح 1500 منحة خلال خمس سنوات، واعتبرت جريدة "الأهرام" أن زيارة نائبة رئيس الوزراء الصيني لمدينة الأقصر "حملت رسالة صادقة عكست أهمية زيادة أعداد السائحين الصينيين إلى مصر"، وأضافت الجريدة أن هذه الخطوات تتم في إطار "الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين.

من الناحية المهنية لم أجد في مضمون الخبر ما يرشحه لأن يتمدد على ثمانية أعمدة على الصفحة الأولى لجريدة عريقة مثل الأهرام. واعتبرت أن المبالغة فيه وإبرازه على ذلك النحو من أصداء الموقف التقليدي للجريدة التي باتت تعتبر أي لقاء أو حديث للرئيس أهم "خبر" في الكرة الأرضية.

بعد الزيارة توجهت نائبة رئيس الوزراء الصيني إلى إسرائيل وبدافع الفضول أيضا تتبعت نشاطها هناك. حينئذ وجدت أن أهم ما ذكرته التقارير الإعلامية في هذا الصدد أنها بحثت مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عقد اتفاق للتبادل الحر بين البلدين، بمعنى إطلاقه بغير قيود بما يؤدي إلى تنشيط حركة التجارة بين البلدين (حجمها في الوقت الراهن يعادل 8 مليارات دولار سنويا وستتضاعف في ظل الاتفاق الجديد، علما بأن الصين تعد الشريك التجاري الثالث لإسرائيل في تجارتها الخارجية). 

هذا التطور اعتبره نتنياهو مهما جدا وصرح بأن بلاده مستعدة للدخول فيه على الفور، خصوصا أنه سيؤدي إلى التوسع في التعاون التكنولوجي وإزالة الحواجز الجمركية بين البلدين. وهو ما يمثل قفزة إلى الأمام في علاقاتهما المزدهرة منذ التسعينيات خاصة في مجالات التعاون العسكري، الأمر الذي يعبر عن شراكة استراتيجية حقيقية.

لم يكن هناك مفر من المقارنة بين حصيلة زيارة المسؤولة الصينية والوفد المرافق لها لكل من القاهرة وتل أبيب. لم يعد هناك محل لاستدعاء صفحة العلاقات التاريخية بين مصر والصين التي فرضت على بكين يوما ما أن تتباعد عن إسرائيل وتقف في موقع المناهض لها. فمصر انفصلت عن ماضيها وتغيرت كثيرا وكذلك الصين في سياستها الخارجية على الأقل.

في المقارنة وجدت أن زيارة الوفد الصيني لمصر كانت خليطا من المجاملة والسياحة وأن حصيلتها كانت بسيطة ومتواضعة. ينطبق ذلك على حكاية المنح الدراسية التي قدمت على مدى خمس سنوات، بمعدل 300 منحة كل سنة، لأن مصر رغم ظروفها المعروفة تقدم أضعاف ذلك الرقم إلى الدول الصديقة أغلبها لطلاب الأزهر، وفي الأسبوع الماضي وحده قدمت ألف منحة دراسية بالكليات والمعاهد العسكرية للدول الإفريقية، مع ذلك نفخت الأهرام في موضوع الزيارة واعتبرته أهم خبر في ذلك اليوم. وقدمته بحسبانه إحدى ثمار "الشراكة الاستراتيجية".

هذا الذي تم في مصر لا يكاد يقارن بحصيلة زيارة الوفد لإسرائيل التي استهدفت مضاعفة حجم التبادل التجاري البالغ 8 مليارات دولار في الوقت الحالي والدخول في طور التبادل الحر الذي يفتح الأبواب على مصراعيها أمام التعاون التكنولوجي.

ما أريد أن أقوله إن مصر المنهكة والمثقلة بهمومها وصراعاتها الداخلية فقدت الكثير من عافيتها وجاذبيتها، ناهيك عن سمعتها التي أصبحت محل انتقاد واسع في المحافل الدولية، وحين يحاول الإعلام أن يجمل الصورة أو ينفخ فيها فإنه يبيع للناس الترام فيزيف الوعي ويسوق الأوهام. وفي النموذج الذي بين أيدينا وجدنا أن الوفد الصيني قام بزيارة مجاملة لمصر، وبزيارة عمل لإسرائيل، ومن ثم فإنهم جاءوا إلى القاهرة كسياح وذهبوا إلى إسرائيل كشركاء. وتلك معادلة لا سبيل إلى تصحيحها إلا باستعادة مصر لعافيتها السياسية والاقتصادية وقبلها استعادتها لوعيها. وهو طموح نرجو ألا يطول انتظارنا له.

عن صحيفة الشروق المصرية

0
التعليقات (0)