قضايا وآراء

من يسترد المنبر المسروق؟

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
صعد المنبر بوجه متجهم ليوحي بالمهابة و بدأ خطبته بتصعيد حنجري لا مبرر له اهتزت له أركان المكان، و بعد مقدمة طويلة حفظها المصلون من كثرة تكرارها بدأ حديثه بالتذكير بأمجاد الأمة الضائعة يوم أن كان الخليفة يخاطب السحابة في عنان السماء أن أمطري حيث شئت فإن خراجك عائد إلي، وكيف كان سلفنا عظيماً يعيش حياةً أقرب إلى المثالية منها إلى البشرية وكيف أن الغرب الكافر الذي يفتتن به شباب المسلمين اليوم كان غارقاً في الجهل وكل ما أنجزه من حضارة معاصرة كان بفضلنا، ثم ثنى خطبته بالتحسر على ضياع أخلاق شباب المسلمين وانشغالهم بالكرة والأفلام والدردشات وعلى ابتعاد الناس عن الدين وانشغالهم بالملهيات، ولم ينس في خطبته الثانية أن يقدم عرضاً أسبوعياً لآخر المستجدات المحلية والإقليمية والدولية مرفقاً بآرائه السياسية، أو آراء حزبه إن شئت الدقة، من قبيل أنه لا مصالحة مع الخونة، والتحذير من المؤامرات الكونية التي يدبرها العالم لنا، ومن قبيل تبرير بعض القرارات الحكومية واستحضار شواهد من القرآن والسنة لتسويغها ثم ختم بالدعاء على العدو بأن ييتم الله أطفالهم ويرمل نساءهم وأن يهلك اليهود ومن هاودهم والنصارى ومن ناصرهم والشيوعيين والشيعة ومن شايعهم وأن يحفظ أهل السنة والجماعة مما يدبر لهم!

هذا هو النمط التقليدي الذي بات شائعاً لخطبة الجمعة لدى قطاع كبير من الخطباء، ومن باب الإنصاف فإن فريقاً من الخطباء لا يزال محافظاً على سمو الرسالة الأخلاقية والروحية لهذا المنبر فيستثمر هذا الملتقى الأسبوعي لبث الأخلاق الحميدة بين الناس وتنبيههم لمشكلاتهم الاجتماعية التي يسببها الطمع والتحاسد وتذكيرهم بالعودة لمبادئ القرآن في علاقاتهم الاجتماعية والمالية وإمدادهم بشحنة روحية من كلام الذكر وقصص الصالحين تكون مثل روضة من رياض الجنة تريحهم من عناء مشوار الحياة الطويل وتنزل عليهم برداً وسلاماً وسط قيظ الصحراء القاحلة. 

كيف تحول منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى طائفة غير قليلة من الخطباء إلى منبر لبث الكراهية والفرقة بين الناس ولتعزيز الشرخ الاجتماعي بدل تطبيبه وكيف تقزمت هذه الفرصة الأسبوعية العظيمة التي تمثل جزءً أصيلاً من المكون التاريخي والثقافي لأمتنا فتحولت إلى مجرد بيان حزبي سياسي في الوقت الذي لا يحتاج فيه الحزب إلى هذا المنبر في زمن الفضائيات والإذاعات ومواقع الانترنت، أليس الأجدى أن نستثمر هذا الملتقى الأسبوعي للناس بكافة انتماءاتهم ومشاربهم في بث روح الرحمة والحب والتآلف وفي إيجاد مساحة مشتركة يلتقي عليها الناس بعيداً عن اختلافات السياسة، هل هناك فرصة أعظم من خطبة الجمعة نواجه فيها مشكلات الناس الواقعية ونقدم حلولاً عمليةً تقع مسئولية تنفيذها على مستمعي الخطبة فيتحول هذا الملتقى إلى لبنة بناء بدل أن تفرغ فاعليته بشعارات فضفاضة و لغة عاطفية واستثارة الكراهية ضد البشرية!

تتميز خطبة الجمعة بأنها تخاطب عموم المسلمين ويحضرها القطاع العريض من الناس، تتميز كذلك بأنها محررة من مركزية السلطة فالخطيب يفترض فيه أن يأتي من نبض الجمهور مباشرةً ويمثل صوتهم ومعبراً عن اهتماماتهم لا أن يكون ناطقاً باسم السلطة الحاكمة.

في واقع خطبة الجمعة اليوم يدور فريق من الخطباء في فلك السلطة الحاكمة وتملي عليهم وزارة الأوقاف ما يقولونه حتى لا يخرجوا عن الخط العام، ولا تتعدى المواضيع التي يتناولونها إما تبريراً لأفعال الحاكم إن هم اقتربوا من السياسة، وإما ابتعدوا عن السياسة وأثاروا قضايا فقهيةً مفرغةً من أي حيوية اجتماعية وسياسية وروحية مثل أحكام الصوم والصلاة والحج مما يستطيع المرء أن يتعلمه في خمس دقائق دون الحاجة إلى تكراره في اجتماع أسبوعي عام، ويبلغ الانفصال عن الواقع مداه حين يتحدث الخطيب عن أركان الحج ومناسكه بينما الحجاج قد سافروا إلى الديار الحجازية فهم لن يسمعوا خطبته ولن يستفيدوا منها، لكنه تجلي حالة الانفصال عن الواقع فالخطيب لا يفكر حين يختار موضوعاً لخطبته ما هو الأثر العائد على المصلين بعد فراغ الخطبة، بل يتعامل معها بأنه طقس تقليدي ينبغي المحافظة على صورته.

تجد فريقاً من الخطباء قد غلب عليهم الحفظ دون قدرة على الفهم والنقد وتقديم بصمتهم الخاصة، فهم يحفظون قصصاً وأشعاراً استمعوا إليها من خطب أخرى أو قرأوها في كتاب ثم يعيدون تكرارها دون ملل ودون القدرة على تجديد أنفسهم، هؤلاء الخطباء في كل جمعة ومنذ عشرات الأعوام يبدؤون بنفس المقدمة ويستشهدون بذات القصص وذات الأحاديث الضعيفة وذات الأشعار، عدتهم الوحيدة لغة السجع والحماسة وقوة حناجرهم حتى حفظ المصلون خطبهم فلم يعودوا يذهبون إلى الجامع استشعاراً لحيوية الخطبة بل بهدف إسقاط الفريضة، وفي صورة معبرة تجد من الناس من يتخذ من وقت خطبة الجمعة وقتاً للاستراحة والنوم في دلالة مؤسفة على تفريغ أعظم الدروس الدينية من مضامينها وفاعلياتها.

خطبة الجمعة فرصة عظيمة للبناء الاجتماعي والنهضة الحضارية، لكن الأمم الحية وحدها هي القادرة على التقاط الفرص واستثمار الإمكانيات، قيمة خطبة الجمعة في أنها تمثل القاعدة العريضة للأمة لذلك فإن احتواءها من قبل السلطة الحاكمة وفرض نمط واحد ومحددات ومقيدات على الخطباء يمثل إضعافاً للأمة وتعطيلاً لطاقاتها وقتلاً للتنوع الذي يثريها، إن خطبة الجمعة يمكن أن تقوم بدور تثويري عظيم عبر تعزيز سلطان الأمة في مواجهة الطبقة السياسية الحاكمة فتصبح الأمة ثقلاً لا يستهان به ولا يمكن تجاوزه تستطيع التعبير عن نفسها والتصدي لميل السلطة نحو الاستبداد والطغيان.

يطرح الكاتب الليبي الصادق النيهوم رحمه الله فكرةً متقدمةً في أن يتحول اجتماع الناس يوم الجمعة إلى منبر شعبي، ففي كل حي تقريباً عبر أمتنا مترامية الأطراف هناك جامع كبير يجتمع فيه أهل الحي أسبوعياً بدافع روحي ذاتي دون حاجة إلى عناء الترتيب والتكاليف، فلماذا لا تتحول هذه المراكز القاعدية إلى مجالس ممثلة عن الأهالي، فيناقش كل حي قضاياه ويعبر عن آرائه السياسية وينتخبوا من يمثلهم في مجالس أكبر وصولاً إلى سدة اتخاذ القرار على مستوى الدولة!

إن التفكير في هذا الاتجاه سيعيد لخطبة الجمعة حيويتها وللأمة فاعليتها وإرادتها المصادرة وسيمكننا من إنشاء نظام سياسي راشد تكون الكلمة فيه للأمة لا للحاكم المتغلب. 
التعليقات (1)
قاسم
الأحد، 28-02-2016 01:21 م
اعتقد لو اننا كنا في الزمان المثالي--لوجب الاخذ برايك --وبما اننا في هذا الزمان وجب وجبت هكذا خطب---ربما لكي لا ننسى مصيبتنا. واعدائنا