قضايا وآراء

مسارات التاريخ الموصوفة!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
يقولون إن التاريخ يعيد نفسه فقط عند من لا يقرؤونه..!! ولعل أحد أخطر عيوب السياسة والسياسيين العرب أنهم لا يقرأون..! وعلى درجة غريبة من الضعف المعرفي.. ويتصورون أن القراءة خاصة في السياسة والتاريخ ترف هم غير معنيين به.. والمتأمل في الأحداث الأخيرة في المنطقة العربية (ما بعد الثورات) سيجد أن هناك خيطا تاريخيا ممدودا إلى تجربة حدثت في الشرق الأوسط عام 1953 وتحديا في إيران وهى تجربة الانقلاب على الرئيس محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني وقتها الذى كان (يتحدث عن آلام المضطهدين ويخاطر بحياته لتحسين أحوال شعبه كما وصفه أحد الصحفيين الأمريكيين. ولا أدرى بالفعل كيف فات على كثيرين قراءة هذه التجربة والاعتبار بها.

كانت تجربة الانقضاض على محمد مصدق بعد سنتين فقط من حكمه.. تجربة جديدة على أجهزة المخابرات لكنها توفرت لها كل عوامل النجاح.. فنجحت.. ووقع الانقلاب على حكومة الزعيم الإيراني محمد مصدق(19/8) وعاد الشاه..!! وتم وضع الخطة الناجحة في الأدراج إذ قد تأتى الحاجة يوما ما إليها وقد أتت.. وطبقوها تقريبا كما هي ..تماما مثلما طبقت إسرائيل في حرب 1956م و1967م نفس الخطة ..وحين سئلت جولدا مائير في ذلك قالت أن العرب لا يقرأون..! 

والمثير للدهشة أن الإسلاميين المفترض فيهم الوعى بقوله تعالى (اقرأ).. للأسف الشديد يقدمون نموذجا سيئا لهذا البعد في تكوين وتربية الشخصية الحركية الواعية بالمشروع الإصلاحي الإسلامي.
     
هم على درجة من التواضع الفكري والمعرفي مثيرة للسؤال حول مدى صدقهم في الانتماء للمشروع الإسلامي.. وعما إذا كان الأمر فعلا في حقيقته تمثل صادق للرسالة.. بكل ما يحمله هذا التمثل من(إسلام الوجه لله) أم أن المسألة مختلطة بدرجه لا تليق ؟ وليس عيبا على فكره أن تطلب خيرات الدنيا.. ولكن أن تطلبها وأنت تقف تحت هذا العنوان العظيم هو العيب.!

وعودة إلى موضوعنا الأساسي سنجد أن مراكز الأبحاث والتفكير في أمريكا على وجه الخصوص لعبت دورا متقدما في تزويد صانع القرار في واشنطن والعواصم الأوروبية بآليات ومناهج احتواء أي محاولة للخروج من مجال الهيمنة الأمريكية والغربية بوجه عام صاروا على درجة بالغة الخطورة من الخبرة والوعى بطرق الاحتواء والاختراق والسيطرة على الثورات والحركات السياسية والاجتماعية ..وخنقها في مهدها وقبل أن يقوى عودها.

أدركت هذه القوى بعد الربيع العربي -وهذا المصطلح على فكرة أشرف من أن ينسب إلى الببغاء الظريف توماس فريدمان وربيع براج 1968 مثل على ذلك- أدركت هذه القوى أن هناك معطيات جديدة بصدد التشكل على الأرض العربية.. ولها طابع حضاري وتاريخي ضخم.. وستؤدى إلى تغيير جذري في واقع العلاقة التاريخية بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي.. سيظهر اسم (صموئيل هنتجتون) كثيرا في أروقة ودهاليز مراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار.. وسيتأكد لديهم أنه من الصعب مواجهة ما يحدث الآن.. بالطرق التقليدية في القمع.. وانتهت كل الآراء إلى أن التعامل مع ما يجرى الآن يجب أن يتسم بقدر كبير من (البراغماتية) عبر سياسة احتواء ناعمة ومسايرة للموجة إلى حين فهم كل مكوناتها وطبيعة تشكلها..

قد يأتي الأذى إليك من عقر دارك وقد تكون سببا في أن ينال منك خصمك وعدوك ..وقد كانت هرولة الإسلاميين إلى السلطة نموذجا تاريخيا لذلك.. فغير أنهم أخطأوا خطأ جسيما بعدم الحسم في الاختيار بين عقد تسوية مع النظام القديم الذى كان موجودا بكل قده وقديده رغم إزاحة رأسه الكبيرة كما في تجربة جنوب إفريقيا.. أو السير في خيار الثورة إلى نهايته متضافرين مع باقي القوى السياسية الاجتماعية والثورية بغرض إعادة ترتيب وبناء النظام الاجتماعي من قواعده الأولى.. لم يحدث هذا ولا ذاك... حتى بتنا أمام مشهد متناقض وغير قابل للاستمرار..

ورغم أنه لا يمكن الركون للتفسير التآمري فقط والذى لا يمكن إغفاله.. إلا أنه من السذاجة المفرطة تصور أن عالم السياسة يخلو من الدسائس الخفية والظاهرة وعلينا بأريحية شديدة أن نسلم بأن ثورات الربيع العربي قد خضعت لخطة مدروسة لاحتواء تأثيرها ونتائجها.. خطه تواصل فيها الداخل بالخارج على نحو غير عادى من التوافق والالتقاء على المصالح والوسائل والأهداف وقد بدت هذه الخطة واضحة في الغواية التاريخية الكبرى للإسلاميين بمسألة (السلطة والحكم) كون تطبيقها - هذه الخطة- ..توفر لهم أجواء الانقضاض الآمن على(الفكرة الدينية)البداية بمن ينادى بها ويدعوا إليها.. ثم الانتقال بعدها إلى قلبها وفكرها.  

التقت كل النوايا وتقاطعت كل المصالح على أن هذا هو أكثر الأوقات ملائمة لغلق هذا الملف نهائيا وإلى الأبد (ملف التيار السياسي الإسلامي) والذى يمثل الرافعة الكبرى في قصة المطالبة التاريخية بالإصلاح والحكم الرشيد.. ومن لا يعجبه هذا التوصيف بإمكانه أن يعطينا نموذجا واحدا لما يدعيه.. فقط ألفت انتباهه إلى دراسات وبحوث مالك بن نبي -ابن الثقافة الغربية- عن نهوض وقيام الأمم والمجتمعات(نهضة مجتمع ما تتم في نفس الظروف العامة التي تم فيها ميلاده الأول).

المنطقة العربية كلها بصدد تحول كبير سيأخذ وقتا قد يطول أو يقصر والأرجح أن تستغرق عملية التغيير سنوات طويلة من الكر والفر إلى أن تستعيد المنطقة كلها توازنها واستقرارها على أسس جديدة قوامها الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي.. (الجمهورية) في فرنسا لم تستقر مبادئها وقيمها وممارستها إلا بعد أن مرت بمراحل حالكة.

من الوهم تصور أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورات العربية.. أو أن تستسلم الشعوب لسطوة القوة المفرطة والدعاية المضللة
التعليقات (0)