قضايا وآراء

في موجبات الثورة وفي السؤال عن تأخرها..

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
تأتي مواعيد انبعاث الثورات في التاريخ الفلسطيني كما تأتي قطرات الغيث إذ تنزل على أرض هامدة فإذا بها تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. 

الثورة ليست قرارا يتخذه الفلسطينيون في حالة أريحية، بل هي اضطرار تلجئهم إليه طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، فهو احتلال ذو طبيعة إقصائية إحلالية لا يقبل بأي صيغة تعايش، ولا يمنح الفلسطينيين أي تنازل مهما كان شكليا من شأنه أن ينزع فتيل الانفجار وأن يسمح لمن يرغب منهم في العيش الهادئ بتطبيع نسبي لحياته.

العقلية الإسرائيلية عقلية أمنية من الطراز الأول لا ترى في الفلسطينيين شعبا يناضل في سبيل حقوقه السياسية بل ترى فيهم مجرد حالة تهديد أمني يتم التعامل معها بمزيد من الحواجز والإغلاقات والاعتقالات، وهي أيضا عقلية أيديولوجية تعيش في مشروعها المتخيل أكثر مما تعيش الواقع، فلا تفتأ عن التوسع الاستيطاني والتهام الأراضي وتهويد القدس واقتحام الأقصى غير عابئة بما تسببه هذه الإجراءات من ارتفاع منسوب التوتر في نفوس الفلسطينيين ومراكمة الغضب في صدورهم.

طبيعة الاحتلال الإسرائيلي قادت الفلسطينيين إلى اليأس من إمكانية تحقيق أي إنجاز سياسي عبر التفاوض معه وأعدمت أي أمل في المستقبل، هذه القناعة لم يتوصل إليها الفلسطينيون المؤمنون بالمقاومة وحدهم، بل توصل إليها حتى رئيس السلطة محمود عباس الذي لم يؤمن يوما في حياته بجدوى مقاومة الاحتلال، إذ عبر عن يأسه من إسرائيل في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة ولوح بحل السلطة..

في ظل حالة انسداد الأفق السياسي التي يشعر بها الفلسطينيون جميعا وفي ظل تزايد شعورهم بالذل والعجز واستمرار اعتداءات جنود الاحتلال ومستوطنيه كان لا بد أن يأوي الفلسطينيون إلى ركن شديد في ذاكرتهم الوطنية وأن ينمو في قلوبهم الحنين إلى المحطات المشرقة التي حررتهم من عجزهم وأشعرتهم بالألق النضالي وبلذة تحطيم كبرياء إسرائيل، هذه المحطات حاضرة في ذاكرة مختلف أجيال الفلسطينيين بدء من معارك منظمة التحرير مرورا بانتفاضتي الحجارة والأقصى وانتهاء بحروب غزة، وهي تمثل محرضا مستمرا يعيد الفلسطينيين إلى هويتهم الوطنية وإلى التصالح مع تاريخهم الثوري كلما جفَت عليهم السياسة وهيمن عليهم شعور الاغتراب، لذلك فإن السؤال المشروع ليس عن مبدأ الثورة القادمة بل فقط عن توقيتها. 

أما لماذا لم تندلع الثورة الفلسطينية في الضفة في السنوات الماضية رغم حضور كل موجباتها، فيبدو أن من أهم معوقات ذلك هو مشروع السلطة بأبعاده الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأقصد بالبعد الأمني التنسيق بين أجهزة السلطة ودولة الاحتلال، هذه السياسة هي التي نالت بقدر كبير من نشاط المقاومين ووفرت للأخير بيئة أمنية سهلة للعمل.

أما البعد السياسي فهو نهج رئيس السلطة محمود عباس الذي لا يؤمن بالانتفاضة حتى من باب التلويح بها كورقة ضغط ضد دولة الاحتلال، وأما البعد الاقتصادي فيتمثل في تكون طبقة من المتنفذين الذين ترتبط مصالحهم التجارية ببقاء الأوضاع السياسية على حالها، هذه الطبقة نجح الاحتلال في إماتة أي نزعة ثورية فيها عبر ربط مصالحها بأدوارها الأمنية والسياسية التي تعجز عن تجاوز السقف المسموح به إسرائيليا، لكن خطورة البعد الإقتصادي لا تقف عند حدود المسئولين بل تتجاوزه لتنال الإنسان الفلسطيني أيضاً الذي ربطه مشروع السلطة بمصلحته الخاصة وراتبه مما أثر في انطلاقته الثورية ورسخ لديه قناعةً أن أي انتفاضة جديدة ستكون عبئاً شخصيا عليه..   

لا يمكن أيضا إغفال دور الانقسام الفلسطيني الداخلي في تأخير موعد الثورة الفلسطينية، إذ إن هذا الانقسام خلق شرخاً سياسيا واجتماعيا حادا وعزز مشاعر الخوف وانعدام الثقة بين الفرقاء، ونجحت إسرائيل في اللعب على هذا الوتر، فهي تلوح بفزاعة حماس في الضفة لاستفزاز عباس لإحكام قبضته الأمنية وعدم التهاون مع أي مواجهة مع إسرائيل خشية استغلال حركة حماس لها.

واقع الانقسام حرم الفلسطينيين من تنسيق خطواتهم والتكامل بين جهودهم، فلا عباس يتعامل مع حركة حماس بأنها جزء من مكونات شعبه، ولا حماس في المقابل تثق بأي خطوة سياسية لعباس، ويبدو العبء الثقيل لسنوات الانقسام حاضراً حتى اللحظة في طريقة تعامل كثير من الفلسطينيين المؤطرين لأي من حماس أوفتح مع مواجهات الضفة المحتلة، فلا يزال الخوف وانعدام الثقة والتساؤل عن الجدية وإمكانية الاستمرار يحتل مساحةً تنال من قوة المشهد الثوري.

لكن هذه المعوقات تمثل فقط عوامل تأخير للثورة وليس عوامل نفي لها، لأن الفلسطيني في نهاية المطاف حين يقف في مواجهة الجدار ويستشرف مستقبله فلا يرى إلا اليأس ويعجز عن ممارسة حياته في شروطها الدنيا، في هذه الحالة لن يكون أمامه سوى خيار المواجهة والثورة، إذ وفق الموازنة بين خياري الثورة واللا ثورة فإن الخيار الأول سيعيده إلى التصالح مع ذاته ولو من ناحية نفسية على الأقل، أما الخيار الآخر فسيبقيه في حالة اللا حياة واللا موت و سيتجرع الذل والهوان مع شعور قاتل بالعجز، وحين تستحضر الذاكرة بعد ذلك محطات التاريخ المشرقةفلن يكون الخيار إلا الثورة.

من المبكر لأوانه الحكم على مواجهات الضفة إن كانت ستمتد لتمثل بداية مرحلة ثورية في تاريخ الشعب الفلسطيني، لكن إن أراد الفلسطينيون لها ذلك فعليهم أن يواصلوا هذا الحراك الشعبي بطبيعته المتحررة من أي صبغة فصائلية، وعليهم ألا يستهينوا بقوة الحجر، فهو رمز مقدس يختزل حقيقة الصراع بين شعب يبحث عن الحرية والكرامة وبين قوة غاشمة قامت على الظلم واغتصاب الحقوق، وعليهم أن يعلموا جيدا أن هذه المواجهات مزعجة ومستنزفة لدولة الاحتلال أمنياً وسياسياً وأخلاقيا، فدولة تقوم روايتها على أساس نفي وجود شعب آخر لن تكون سعيدة بالتأكيد حين يخرج هذا الشعب إلى الشوارع محطماً صمته ومعلناً للعالم عن تجذره في أرضه. 
التعليقات (0)