يتساوى حجاج بيت الله الحرام في أداء مناسك
الحج وأعماله الظاهرة، لكنهم يتفاوتون تفاوتا كبيرا في استشعار معاني تلك الأعمال وأسرارها وحِكمها، فثمة مسافة شاسعة بين من يحج ببدنه وبين من يحج بروحه ووجدانه.
الحج رحلة الإنسان من عالمه المزدحم بالأشياء، والمترع بالفواصل والفوارق الاجتماعية بين البشر، إلى حيث التجرد القسري، والانخلاع من ذلك كله، ليستذكر الإنسان حقيقته بعيدا عن زيف الاستعلاء بشهوات الدنيا ومقتنياتها الفانية.
في سياحة وجدانية تحتشد فيها وقائع التاريخ، وقصة الخلق الأولى، ورحلة الإنسان في هذا العالم، منذ أن كان عدما ولم يكن شيئا مذكورا، إلى أبدية الحياة وسرمديتها، والتحليق في فضاءات روحانية العبادات وأسرارها، تترادف كلمات المفكر الإيراني (الثائر) الدكتور
علي شريعتي، لتنسج نصا أدبيا أخاذا، تتعانق فيه جمالية التصوير مع عراقة المكان العابق بشذى الأنبياء والصالحين.
كتاب "الفريضة الخامسة" للدكتور علي شريعتي (1933– 1977) كما وصفه أبو الحسن عبد الرزاق، في مقدمته للترجمة العربية "نص أدبي يحتوي على نظرة فريدة وصياغة مبتكرة تصل بالقارئ إلى درجة الدهشة والإعجاب.. تناول فيه الفريضة الخامسة في الإسلام بمدخل جديد ونظر مجتهد مبدع،... وعمق فهم متميز لهذه الشعيرة.. وهو يصف الحج فيقول: هو الإسلام في حركة وليس في كلمات..".
ما يدهشك في هذه السياحة الوجدانية المحلقة في فضاءات أسرار مناسك الحج وروحيته، قدرة المؤلف الفائقة على استخراج المعاني الكامنة والحكم المضمرة في تلك الأعمال التعبدية، وتفننه البارع في الاستشهاد بالآيات القرآنية بتفسير إشاري أمكنه من اقتناص تلك المعاني، والظفر بتلك الحِكم، بممارسة "تثويرية" قارب فيها توجيه عبد الله بن مسعود حينما قال: "ثوروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين".
يتساءل شريعتي في مدخل كتابه قائلا: "ما الذي تعلمته أنا الباحث الشغوف من الحج (الركن الخامس للإسلام)؟". وإلى أي مدى أستطيع أن أستنبط وأن أدرك من معاني هذه التجربة؟.. ليتمدد بعدها على صفحات كتابه محاولا تقديم الإجابة عن هذين السؤالين، وليشرك قارئه في المعاني التي تجسدت في وجدانه من تلك المناسك، والتي ستعينه على تفهم الحكمة التي من أجلها شرع الله الحج، أو على الأقل تدفعه للتفكير في تلك المناسك؟
الحج بعث لمقصد الحياة وتجديد بغايتها
تبدأ رحلة "الفريضة الخامسة" حينما يعزم الحاج على الانطلاق من بيته قاصدا المشاعر المقدسة لإقامة المناسك تعبدا لله، فهي رحلة الخروج عن مألوفات الحياة، وتجديد للمقصد الأعلى والأسنى من وجود الإنسان فيها، "فالحج مضاد لحياة اللا معنى واللا هدف"، "وأداء الحج خلاص من شباك الحيرة المعقدة".
يحلق شريعتي عاليا في تصويره لحياة الإنسان اللاهثة وراء امتلاك الأشياء واقتنائها، مع افتقاده لمقصد الحياة ومغزاها الحقيقي: "إن حياة الناس التي يعيشونها ليست هي الحياة كما ينبغي لها أن تكون، فهي لا تعدو كونها تدور في حلقة مفرغة، أو هي حركة لا تقصد إلى هدف ولا ترمي إلى غاية، أو هي كبندول الساعة يغدو ويروح بلا معنى.. فيبدأ الإنسان دورته نهارا لينهيها ليلا، ويبدؤها ليلا لتنتهي مع خيوط الصباح: وبين هذا وذاك يجلس ليراقب لعبة الفأر الأبيض والفأر الأسود وهما يمضغان نسيج حياته حتى يفضيان به إلى الهلاك".
ما حال الإنسان حينما يفتقد وجهته، ويضل عن مقصد حياته؟ تأتي كلمات شريعتي لترسم حركة الإنسان في حرصه على الاستكثار من الأشياء، "فالإنسان إذا استشعر حاجته إلى شيء ما فإنه يكافح في سبيل الحصول عليه، وإذا توصل إليه فإنه ينظر إلى هذا الشيء وما بذله من جهد للحصول عليه بشيء من الاستخفاف! فيا لها من حياة مادية لا معنى لها نغرق أنفسنا فيها.. إن افتقاد الإنسان للوجهة، وجعل هدفه من الحياة هي الحياة ذاتها، وسلوك سبيل المتفرج السلبي لتعاقب الأيام يجعل منه روحا ميتا في جسد حي".
ووفقا لتأملات شريعتي وسياحته فإن "الحج جاء ليغير هذه الحياة السقيمة.. فعندما تقرر أن تؤدي فريضة الحج وتبدأ الخطوات اللازمة لذلك، تكون قد دخلت بالفعل في الحج.. فقبل الشروع في الذهاب للحج تكون ساكنا في بيتك مستقرا هادئا.. وما أن تهيئ ذهنك للحج فإنك تنهض وتتحرك بعيدا عن
أجوائك الرتيبة".
يخاطب شريعتي الإنسان المثقل بهموم الدنيا المقعدة، والمكثر من شهواتها وملذاتها الجاذبة له إلى الأرض، والتي أضاعت عليه وجهته ومقصده قائلا: "لقد انحدرت إلى درك الحمأ المسنون الذي كنت فيه قبل أن ينفخ الله فيك من روحه، فأين هي روح الله اليوم؟!.. انهض أيها الإنسان من هذه الأوضاع المزرية وتحرر من هذا الموت البطيء..".
ويضيف: "اخرج من أرضك واذهب إلى الأرض المقدسة لتلقى الله تحت أديم السماء العامرة بالإلهامات المفعمة ببركات الوحي: سماء المشعر الحرام لتهزم الغربة التي تعاينها.. وأخيرا: ستلقى نفسك!.. حرر نفسك من رغباتك وأطماعك التي تنأى بك عن الله، وانضم إلى الفوج البشري الخالد المهاجر إلى الله في الحج.. وهناك ستلقى الله..".
أسرار المناسك وروحانياتها
يقف علي شريعتي عند كل منسك من مناسك الحج، متأملا أسراره وحِكمه، ومنغمسا في أجوائه الروحانية المشرقة، ليسجل مشاعره المتدفقة، وليستخرج تلك المعاني السامية التي لا يتوقف عندها "حجاج الأبدان"، فشريعتي يرى "أن أعمال الحج هي نقل لتلك الرسالة (رسالة الإسلام) التي حملها لنا القرآن بالكلمات".
فحينما يدخل الحاج إلى الميقات، يجب عليه خلع ثيابه، واستبدالها بالثياب البيض (الكفن)، "لماذا يجب عليه خلع ثيابه؟ لأن ثياب الإنسان تكسوه من الخارج ماديا كما تكسوه الشخصية من الخارج معنويا.. بعبارة أخرى: فإن المرء لا يرتدي ثيابه، ولكن ثيابه هي التي تغطيه، فملابسنا هي التي تعبر عن أنماط حياتنا وتميزنا وتحدد طبقتنا ووجهة تفكيرنا، وهي التي تقيم الفواصل والحدود بين الناس مما يسبب التفرقة بينهم في معظم الأحوال..".
ويقول: "اخلع ثيابك الآن عند الميقات وارتد الكفن المؤلف من قماش أبيض خالص.. أصبحت ثيابك مثل ثياب أي فرد، وبدا الجميع في زي واحد.. تحولت إلى جزء ينضم إلى الكتلة العريضة، وإلى قطرة تدخل في المحيط .. لا تكن مختالا فخورا فلست هنا لتلاقي ندا أو نظيرا، بل تواضع وانكمش واخشع لأنك ستلقى الله.. كن الحي الذي يقترب من الموت، أو الميت الذي يستشعر وجوده..".
وتتابع مناسك الحج وأعماله، وتتدفق المعاني السامية في تأملات شريعتي، إلى أن يصل الركب إلى يوم عرفة (الحج الأكبر): "الآن وصلت إلى (عرفة) وهي المسافة الأبعد من مكة حيث يمتد سهل جاف تغطية الرمال الناعمة.. في الوسط يمكنك رؤية جبل الرحمة وهي ربوة صخرية صغيرة حيث وقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وخاطب الأمة بوصيته الأخيرة (خطبة الوداع).. إن عرفات لمدينة عجيبة حقا! تزورها لمدة يوم واحد ثم تذهب المدينة مع الريح بعد الغروب..".
على صعيد عرفة تنثال المعاني السامية فيسطرها شريعتي بكلماته النابضة: "هنا تزول الفواصل والحدود لتتحد الأمة التي لا تقوم على التعصب لجنس ولا لعرق إنما على الإنسانية العالمية؛ حيث ينخفض التمايز إلى الحد الأدنى وسط مجموعات تمثل العالم كله في هذا السهل تحت الخيام البيضاء الممتدة من الأفق إلى الأفق، وحيث الأرستقراطية هي منتهى الضعة والجمال المصطنع..".
ويضيف: "إنك قد تسأل نفسك: ما الذي يفترض أن أراه هنا؟ ما الذي ينبغي أن أنجزه؟.. والإجابة: لا شيء.. إنك حر تفعل ما تشاء، بإمكانك أن تقضي اليوم سابحا في المحيط البشري أو تقضيه نائما.. فقط تذكر أنك في عرفات. يقول أندريه جيد: ينبغي أن تكون العظمة في نظرتك لا فيما تراه... دع فطرتك وطبيعتك تشرق تحت الشمس الساطعة في عرفات.. وأخيرا (وعلى عكس عادة الإنسان عبر التاريخ): لا تفر بعيدا عن أشعة الشمس والضوء والحرية والزحام.. دائما اظهر مع الناس".
ويقول: "في الماضي كنت تعيش تحت نير القهر جاهلا، كالطحلب في المياه الراكدة، أما الآن عليك أيها الإنسان أن تخرج من خيمتك دافعا نفسك إلى عميق المحيط البشري تاركا (الأنا) تحترق تحت شمس عرفات المتوهجة، ليوم واحد فقط.."
تنتهي رحلة الحاج بعد فراغه من طواف الوداع، وتتوقف سياحة شريعتي في فضاءات أسرار الحج وروحانيته ليخاطب الحجاج قائلا: "بعد الولوج في الطواف انبذوا الذاتية، وطهروا النفس، وتبينوا شخصية إبراهيم، لقد عاهدتم الله على اتباع طريقه والله على ذلك شهيد..
لكي تكون مثل إبراهيم:
*اجعل أرضك حرما آمنا، إنك في الأرض الحرام..
*بدل زمانك واجعله كالأشهر الحرام كأنما دائما في مقام إبراهيم..
*اجعل الأرض مسجدا حراما.. فقد جُعلت الأرض كلها مسجدا لله..".