ثمة حالة رثائية تتخذ الطابع الشتائمي، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي، تتصاعد كلما تصاعدت الاعتداءات الصهيونية على
المسجد الأقصى، بالرغم من أن الاعتداء الفعلي على المسجد الأقصى بدأ مع الخطوة العملية الأولى في المشروع الصهيوني، والتي توجت باحتلال كامل
فلسطين، في عملية كشف عن حال الأمة التي فقدت واحدًا من أقدس مقدساتها، ليستحيل هذا المقدس إلى رمز كاشف عن واقع الأمة صعودا وهبوطا، في تعبير بالغ عن الدور الوظيفي للمسجد الأقصى، من جهة موقعه المركزي في تحرير الأمة.
لا تخفى الدلالات السلبية التي تحيط بأنماط التعبير حول حركة الشعب الفلسطيني والأمة تجاه المسجد الأقصى، حيث يكتفي عدد من المدونين والكتاب بالحديث عن "تخاذل الشعب والأمة" مع استثناء أنفسهم من هذا "التخاذل"، وكأنهم يفعلون شيئا أكثر من غيرهم، بعدما حولوا مواقع التواصل الاجتماعي إلى الميدان النهائي للمواجهة، بما جعله في النتيجة محض أداة لتنفيس الغضب، أو لتسجيل المواقف المجردة، أو لإثبات الحضور.
إلا أن أخطر ما في هذا النمط من التعبير هو رثاء الأمة، وازدراء الشعب، وبالتالي إشاعة أجواء ثقيلة من الإحباط واليأس، لا بد وأنها تستقوي ببعض المعطيات في الواقع، كقوة الجدران التي تقف في وجه الحركة الجماهيرية في القدس والضفة الغربية، وتصاعد الحصار على قطاع غزة من طرف النظام الانقلابي في مصر والذي يستهدف قطع خطوط الدعم والتسليح عن المقاومة وتأليب الجماهير عليها، وانسداد المشهد في مصر على وجود نظام غير مسبوق لا في مستوى الطغيان ولا في التفاني في خدمة العدو الصهيوني، وكل ذلك يأتي في سياق تحولات الثورات العربية من اللحظة الرومانسية الأولى إلى لحظة انتفاش الثورة المضادة واستفحال العنف والفوضى.
لكن وضع هذه المعطيات في إطار التحليل التاريخي، سواء للحركة التاريخية الراهنة، أو للسيرورة التاريخية، بالإضافة إلى الفهم الصحيح للوقائع وطبيعة الجماهير، يعطي نتائج أخرى، لا تتنكر لقسوة الواقع، لكنها لا ترى حركة التاريخ من خلال هذا الواقع فحسب.
باستثناء الجماهير الفلسطينية، صاحبة المبادرة التاريخية في تجاوز النخب والقيادات، لأسباب متعلقة بظروف الاحتلال ميزتها عن الجماهير العربية، فإن الجماهير العربية كانت غالبا خارج عملية صناعة الأحداث والتدافعات التاريخية، والتي احتكرتها النخب العسكرية والمدنية، وهي ذات النخب التي ورثت "الدولة العربية" من الاستعمار، واستمرت تحافظ على هذه الدولة كأداة وظيفية في خدمة الاستعمار ومشروعه المتقدم في فلسطين، بالرغم من تداول الشعارات الإيديولوجية والسياسية الذي ميز الانقلابات والتحولات النخبوية في حكم الدول العربية.
هذه هي المرة الأولى التي تنافس فيها الجماهير على المبادرة، وتزاحم بذاتها كفاعل مركزي وكبير بقية الفاعلين التقليديين من نخب سلطوية عميلة وقوى دولية كبرى، وذلك بالنظر إلى الحجم والأثر والاستمرار وتراجع قدرة النخب العسكرية والمدنية المرتبطة بالمستعمر عن التدبير.
ولا تحتاج حركة الجماهير إلى النقاء الخالص من أي مؤثرات خارجية، أو إلى الانسجام الكامل بين كل مكوناتها، أو إلى استغراقها كل الجماهير؛ لاعتبارها تحولا تاريخيا هاما من بعد "الاستقلال"، فالمهم أن العامل الجماهيري صار عاملا فعليا في إحداث التغيير ويملك قدرا من التحرر من هيمنة قوى التحكم التقليدية.
وإذا كانت النخب السلطوية العميلة هي مجرد أدوات وظيفية مهّدت لوجود الكيان الصهيوني، ثم لتوسعه وترسيخ وجوده، ثم لحمايته وضمان بقائه؛ فإن المفاصلة مع هذه النخب، وتعظيم تخلص الجماهير من سيطرتها، وتعزيز حركة الجماهير ودفعها نحو التوسع والشمول، بصرف النظر عن الشعارات المختلفة والتباينات الحاصلة والانقسامات البدهية في هكذا تحولات كبرى؛ تعني الحركة الفعلية الضرورية لخلخلة الشروط التاريخية التي أوجدت الكيان الصهيوني وجعلت المسجد الأقصى تحت الاحتلال ومهددًا بالتقسيم أو الهدم.
وإذا اتفقنا على طبيعة النخب السلطوية الحاكمة، ودورها الوظيفي التاريخي رغم كل الانقلابات والتحول في الشعارات، فإنه لا بد من إعادة النظر في الموقف من الاحترابات والانقسامات الراهنة، وقراءة "الحروب الأهلية" الحالية ضمن الحركة التاريخية الراهنة وفي إطار النظر إلى التجربة التاريخية مع النخب السلطوية الحاكمة، ومن ثم فضرب الشروط العربية للوجود الصهيوني (أي هذه الأنظمة الحاكمة وطبائعها)، رغم كل ما يمكن قوله عن حركة الجماهير وشعاراتها وتبايناتها، لا يتعارض بالضرورة مع مركزية القضية الفلسطينية، وإن كانت تتطلب هذه الحركة جهدًا مستمرًا لربطها بفلسطين، وتوعيتها بالعلاقة الجدلية بين التحرر العربي وما يليه من نهضة مأمولة وبين تحرير فلسطين، فهذه الأنظمة فاسدة وطاغية، لأن الفساد والطغيان شرطان أساسيان في أولياء الاستعمار ومن ينبغي أن يؤدي دوره في خدمة الكيان الصهيوني، ومن لم يكن منها فاسدا وطاغيا لهذا السبب، فإنه فاسد وطاغ لمناخات الفساد والطغيان المرتبطة بالاستعمار ووجود الكيان الصهيوني.
فواهم ذلك الذي يعتقد أن المصالحة مع هذه الأنظمة على أساس من الشروط السابقة على انعتاق حركة الجماهير؛ تخدم بالضرورة القضية الفلسطينية، وتوفر طاقات الأمة لمواجهة العدو الصهيوني، وكأن هذه الطاقات المدخرة اتجهت بالفعل ضد العدو الصهيوني من قبل، وفي أحسن الأحوال، وحتى في حالات المواجهة الملتبسة والخاضعة للجدل، لم ترسخ في النهاية هذا الوجود الصهيوني!
والحركة الجماهيرية، لا تتطلب أن ينخرط فيها كل الأفراد لاعتبارها حركة جماهيرية، فهي تتسع وتضيق، والناس يتفاوتون في الوعي والشجاعة، وهذا ينطبق على الجماهير الفلسطينية، كما ينطبق على الجماهير العربية، لكن المهم هو وجود حركة جماهيرية تملك القدرة على التأثير، وتتسم بالاستمرار، وهذا هو الذي لا يزال حاصلاً في الحالة العربية.
وفلسطينيا، ينبغي وضع نضالاتنا في السياق الكبير، فأي جهد نضالي جادّ ومخلص، هو في كل الأحوال جهد يتجه لتحرير المسجد الأقصى، فآخر حروب المقاومة الباسلة في قطاع غزة، والتي نعيش ذكراها الأولى هذه الأيام، تأتي في هذا السياق الكبير، وهذه المقاومة انبثاق مجتمعي بامتياز في عملية استمرار لانتفاضة الأقصى، الشعبية والجماهيرية، والتي لولاها ما تحصل هذا البناء المقاوم في قطاع غزة.
وإذا كانت الظروف المتفاوتة بين كل من الضفة الغربية وغزة، قد ضمنت استمرار انتفاضة الأقصى بشكل مختلف في قطاع غزة، فإن الحركة الجماهيرية في الضفة الغربية بقيت من جهة تخضع لظروف نضالات شعبنا التاريخية، ومن ثم تخبو وتشتعل، انتفاضة فهدوء فاشتعال، دون أن تملك قدرة ذاتية على استمرار الاشتعال بنفس الوتيرة، ومن جهة أخرى تخضع للطارئ الذي قيد قدرة الجماهير الفلسطينية على المبادرة، أي لوجود سلطة فلسطينية، دون أن يعني ذلك استمرار هذا القيد كقدر مطلق لا حد ولا نهاية له، ومن ثم لا بد من تقدير نضالات الجماهير مهما بدت أقل من المطلوب، وأخذ الظروف التي فرضت على الجماهير بعين الاعتبار قبل رثائها والحكم عليها بموتها.