(لماذا يضعف المسلمون؟
لأنهم أهملوا الدين الذي نهضوا به..
ولماذا أهملوا الدين؟
لأنهم جهلوا لبابه وأخذوا قشوره..
ولماذا جهلوها؟
لأنهم فقدوا الهمة وقنعوا بالضعة واستكانوا إلى الخور والتسليم).
هذه مقتطفات من (طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد) أعظم ما كتب عبد الرحمن
الكواكبي في كشف هذه العورة التاريخية القبيحة المسماة بالاستبداد وفضح أبشع الانحراف بالكرامة الإنسانية والمسمى بالطغيان.
يقول أيضا تاركا الاستبداد يقدم نفسه بنفسه ..(أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدروأختي المسْكنة وعمي الضُّروخالي الذل وابني الفقروبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب..أما ديني وشرفي وحياتي فالمال.. المال المال..).
(إن العقل والتاريخ والعيان كلها تشهد أن المعين الأول للمستبد هو اللئيم الأعظم من الأمة ثم من دونه لؤماً.. وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات.. والحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفرّاش إلى كنّاس الشوارع. وقد اتبع الاستبداد على تسمية النصح فضولاً والغيرة عداوة والشهامة عتواً وشراسة والإنسانية حماقة والرحمة مرضاً والنفاق سياسة والنذالة دماثة والدناءة لطفا ًوترك الحقوق سماحة وقبول الإهانة تواضعاً والرضا بالظلم طاعة وحرية القول وقاحة...).
يصفه العقاد في دراسته القيّمة عنه فيقول: "إن فضل الكواكبي في ثقافته أكبر من فضل واحد.. إنه فضل المثقف الذي تلقى ثقافته من ثمرة اجتهاده، وفضل المثقف الذي بلغ بوسيلته ما لم يبلغ أنداده بأضعاف تلك الوسيلة، وفضل المثقف الذي انتفع بثقافته ونفع بها قومه وجعلها عملاً منتجاً ولم يتركها كما تلقّاها أفكاراً وكلمات".
أول ما أنتج من هذه الثقافة كان كتاب (أم القرى) الذي يتناول فيه قضية العالم الإسلامي وأسباب ضعفه وبواعث الأمل في إصلاحه.. حيث تخيل مؤتمراً سرياً عقد في مكة المكرمة فيه مندوبون ينوبون عن العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب ويمثلون شمال إفريقيا والشام والعراق واليمن والحجاز والهند والصين والأفغان وتناولوا في هذا المؤتمر أسباب تدهور العالم الإسلامي.. وتنتهي الأسباب كلها إلى سبب الأسباب في عقيدة الكواكبي وليس هناك سبب لجميع الأسباب غير الحكومة المستبدة.
يذكر الباحثون أن كتاب أم القرى شارك في كتابته وتنقيحه الشيخ الإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا..ونصحا المؤلف بحذف بعض العبارات السياسية التي وردت فيه..وأخذ الكواكبي بما أبدياه من نصح.
ويعد الكواكبي من حكماء الإصلاح في العصر الحديث..ويرى الباحثون أن أفكاره التي قدمها في كتابيه الشهيرين تنتظم في عداد الفلسفات الإصلاحية..وتزيد على ذلك في كونها"برنامجا" محضرا للعمل والتنفيذ الفوري.. فغطت رؤيته مطالب الإصلاح في الدين والدولة ومسائل السياسة والأخلاق والثقافة والثروة الاقتصادية والتربية.
فهو يرى أن الإسلام دين إيمان وليس دين مراسم وطقوس وأن المتشددين في الدين كالحكام المستبدين لأنهم يجعلون الدين حرجاً ثقيلاًعلى نفوس الناس. كان يؤمن بفكره الخلافه الاسلاميه و أن يكون الخليفة عربياً وأن ينتخب وأن تكون وظيفته شرفية وأن يعاونه مجلس شورى تمثل فيه جميع البلاد الإسلامية وأن تنفذ وصاياه في الأمورالدينية ولا تتعرض للمشكلات السياسية..وواضح أن مسألة الخلافة تمثل ركناً ركيناً في برنامجه الإصلاحي.ولكنه كان يرى أن تكون روحية وشرفية وأن تكون هناك (رئاسة تنفيذية) يستطيع الناس محاسبتها.
وفي الأمور الاقتصادية كان يرى ضرورة تحديد الملكية الزراعية وتأميم المرافق العامة والحد من التفاوت المفرط في توزيع الثروة. ويقسم الأخلاق إلى أخلاق الاستبداد وأخلاق الحرية.. فمن مصلحة المستبد شيوع أخلاق النفاق والملق والريبة والأثرة التي تشغل الفرد بمنفعته الشخصية دون أي إحساس بالمنفعة العامة التي ينتفع بها هو وينتفع بها غيره بعد حين.وإن المستبد يعين الأشرارعلى فعل ما يريدون!! آمنين على نفوسهم من كل تبعة ولو أدبية فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح..
رحم الله الكواكبي فكأنه يحيا الآن...
طبيعي إذن بعد هذا التطواف بسيرة رجال كالكواكبي أن نتوقع أنه مات مقتولاً..
ففي 14 يونيو 1902م دعاه الخديوي عباس للغداء عنده في الإسكندرية.. وكان غداء (موصوفاً) من الأستانة وفي اليوم نفسه عاد إلى القاهرة.. ولم يطلع عليه صباح اليوم الثاني. وسرى الخبر في القاهرة فأمر الخديوي بدفنه على نفقته الخاصة وأن يعجل بدفنه وأرسل مندوباً عنه لتشييعه.. ودفن في مقابر باب الوزير في سفح المقطم بمصر.
وكُتب على القبر بيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي.