قضايا وآراء

هنا تونس.. دولة الطوارئ المُزمنة

الصحبي صمارة
1300x600
1300x600
تنطبق مقاييس النّجاح في وصف الحالة التونسية على جزء من مكوّنات المشهد فيما تنطبق مقاييس الفشل في وصف الجزء المتبقّي منه. هي وضعية استثنائية عموما تجمع بين النّجاح في بناء اللّبنات الأولى لتجربة ديمقراطية ضمنت حقّ الانتخاب الحرّ وحرّية التنظّم السياسي والتعبير والصحافة وأفرزت حالة من التدافع الفكري الذي يبحث عن أكثر المقاربات نجاعة لمعالجة ما تراكم من ثقافة التبعيّة والاستبداد والفردانيّة المقيتة، ولكنّها تضمّ كذلك عجزا عن المرور  إلى بناء مؤسسات تساعد على تثبيت التجربة الديمقراطية وضمان استمراريتها والحيلولة دون احتمالات نكوصها بالمعنى النفسي والاجتماعي للمصطلح. 

لا تزال القوانين المنظّمة للدولة والمجتمع في تونس معلّقة بعد، إذ تسير ببطئ آلية التشريع التي ستضمن صياغة جديدة لقوانين تعكس الرّوح التحرّرية للدستور الجديد والقيم التشاركية والتوافقية للمعادلة السياسية الجديدة في البلاد. وترواح مسائل ذات طابع حيّوي، على مستوى تنظيم السُّلط، مكانها داخل ثلاّجة التجاهل والتغافل وربّما تحت وطأة المسائل الإستعجالية الكثيرة. 

إذ وبالرّغم من أهمّية التسريع بتنظيم المجالس المحلّية وتنظيم الانتخابات البلديّة في وضع حلول ذات طابع استراتيجي للمعضلات التي تتخبّط فيها البلاد فإنّ جزءا من القوى السياسية لا يزال يناور إزاء هذه الإجراءات وأحيانا يتآمر عليها. وتكتسي المجالس المحلّية والجهوية طابعا عمليّا بالإضافة إلى صبغتها المؤسساتية الاجتماعية فهي التي ستضع مشاريع التنمية الجهويّة والمحلّية حيّز التنفيذ فضلا عمّا ستوفّره من مقاييس الشفافية في التصرّف في أموال المجموعة الوطنية. كما تمثّل الانتخابات البلدية خروجا نهائيا عن الوضع "المؤقّت" على اعتبار أنّ مؤسسة البلديّة هي التجسيم الفعلي للديمقراطية المحلّية وهي بذلك ضمان تغلغل السلوك الديمقراطي في ممارسة المواطن.

لا تبدو في ظاهرها عملية انتخابات مجموعة سكنية ما لمن يمثّلها في المجلس البلدي عمليّة صعبة أو معقّدة أو ذات أهمّية ترويجية ولكنها في الواقع عمليّة على قدر من الخطورة في حال لم تتمّ بشكل سليم وباستيفاء تام للشروط الديمقراطية وهي أيضا عملية بناء متين للديمقراطية المحليّة في حال تمّت وفقا للشروط السليمة.

فالانتخابات الرئاسية والتشريعية تظلّ انتخابات ذات شحنة إيديولوجية وسياسية وحزبية وهي خاضعة لمؤثّرات أخرى من بينها شهرة المترشّح وثروته ومظهره الخارجي وخطابه "الديماغوجي" أحيانا. أمّا الانتخابات البلدية فإنّها نتيجة لمعايشة مباشرة من أهالي منطقة ما لمجموعة من الأشخاص يقدّمون ترشّحاتهم بحسب ما يضبطه القانون الانتخابي، الذي لا يزال مُعطّلا، ويتمّ انتخابهم من الأهالي بناء على ما لمسوه منهم من اهتمام بالشأن المحلّي والتزام بمطالب الأهالي وانضباط سلوكي وأخلاقي فضلا عن خاصّيتي الأمانة والشجاعة في تبنّي قضايا أبناء منطقتهم وفي الدّفاع عنها وفي حسن التصرّف في المال العام وعدم استغلاله لمنافع شخصيّة. 

ترواح التجربة الديمقراطية مكانها بين النّجاح والفشل ولا تزال بعض الشبكات التي تعتاش على الأزمات والصراعات توجّه لهذه التجربة الوليدة ضربات موجعة من داخل المنظومة السياسية المدنية عبر تحوّل الفساد من طابع مركزيّ استبدادي إلى لوبيّات متفرّقة تسيّر جزءا من وسائل الإعلام وتنتدب جزءا من النشطاء السياسيين من ضمنهم نوّاب منتخبون في البرلمان الجديد. وتضمّ هذه الشبكات في منحاها الاقتصادي بارونات التهريب التي تتقاسم عائدات ربحيّة كبيرة على حساب الضرائب وعلى حساب الاقتصاد الهشّ والمتأزّم مستعملة في ذلك ثقافة الرّشوة والفساد والتواطئ التي تشكو منها الكثير من المؤسسات الأمنية والرقابية وذات الطابع الزجري بل وحتّى القضاء. 

وبالإضافة إلى العنصرين المذكورين يلعب التدخّل الخارجي ذو الطابع الإقليمي دوره على مستويين كبيرين فالمستوى الأوّل والمباشر هو  عمليّة التمويل والدّعم اللوجستي والاستخباراتي وأجندات الاختراق الذي تتلقّاه مجموعات متطرّفة تمارس إرهابا مأجورا متقطّع الضربات يجعل المؤسسات الأمنية والسياسية في تونس تتجنّد في كلّ فترة للملمة خسائر  ونزيف ضربة جديدة بمجرّد فراغها من معالجة ضربة سابقة. 

أمّا التجلّي الثاني للتدخّل الخارجي فيظهر من خلال التمويل السياسي والغطاء الإعلامي والدعائي لشخصيات سياسية ذات ولاء خارجي تُصنع لها الأحزاب صناعة ويُنتدب لها النوّاب انتدابا وتُخصّص لها البرامج الإعلامية والدعائيّة خصّيصا. وتضمّ هذه الفئة من الشخصيات من هم في مواقع قيادية لأحزاب صُلب الائتلاف الحاكم يتمّ دعمها ماليا ولوجستيا ليسيطروا على أحزابهم وليقدّموا أنفسهم كمشاريع رؤساء، ولكنّ هذا الصّنف يرى في استعادة الاستبداد لأنفاسه وربّما في بناء نظام استبدادي جديد ضمانة له للوصول إلى الحُكم والاستمرار فيه بما ينبئ بمخطّط مسبق لإجهاض ممنهج يستهدف الديمقراطية الناشئة.

تُعاني تونس من دفع ضريبة الحُلم الشعبي الكبير بالحرّية والديمقراطية والتنمية العادلة، حُلم يؤرّق الكثيرين من الذين يرون فيه نهاية لجشعهم وطمعهم وتفكيرهم الإقصائي وأمراضهم التسلّطية وهم جرّاء الخوف من هذا الحُلم يمارسون شتّى أنواع التخريب والتعطيل اعتقادا منهم بأنّ انتكاسة الشعوب مسألة ممكنة وأنّ عودة الاستبداد بشكل ميكانيكي قد تكون سهلة ويغفل هؤلاء عن خطورة ما يمارسونه على مجتمعهم وعلى مستقبل أبنائهم.

يستمرّ تملّص جزء من القوى السياسية من الدّفع باتّجاه توفير الإطار الناجع لتنمية الجهات المحرومة من خلال تنظيم المجالس المحلّية والجهوية والانتخابات البلدية ويتمّ تبعا لذلك تأجيل الإنصات لمطالب الجهات المحرومة والمفقّرة والتي تحوّلت إلى مناخ مناسب للاستثمار في التهريب والإرهاب بعد أن سيطرت سوداوية الأفق على نفسية أبنائها. وتقف حكومة الائتلاف مندهشة شبه مشلولة أمام الرّقم المُفزع للشباب التونسي الذي عجز عن خوض معركته من أجل بناء مستقبله البسيط وحُلمه الصغير في العمل والاستقرار وبناء أسرة فتبنّى معارك أخرى عوّضت الحُلم بالكابوس وشرعت في تدمير ما بناه الشعب التونسي بنضالاته وتضحياته وصبره. 

ولم يعثر الذّكاء التونسي السياسي الحزبيّ الحكوميّ والمُعارض على إجابات لجملة من الأسئلة التي انتهت عمليّة تأجيلها وتهميشها بثورة ذات شتاء 2010-2011، أسئلة من قبيل برنامج التنمية المُنصف بين الجهات والفئات والإصلاح الجبائي العادل والاستثمار العلميّ المعاصر في الإنسان وفي الثروة والمُصالحة الوطنية مع القيم والهويّة والحرّية. أسئلة جعلت من الشباب وهو الغصن الأخضر لتونس حطبا في محارق الجهاد المزيّف والدولة الإرهابية الباغية. 

هنا تونس وكأنّه ما من سبيل لنُخبها في الحُكم وفي المُعارضة سوى تأبيد حلول أثبتت فشلها وانتهاج سُبل أمنيّة ليست سوى جزءا ضئيلا من الحلّ المناسب، هنا تونس التي تعالج قضاياها الاستراتيجية بأدوات الطوارئ وتُصرّ على تمديدها. هنا تونس دولة الطوارئ المُزمنة.
التعليقات (0)