لا جدال بأن صناعة الخوف هي أحد أكثر السلع رواجا وفعالية لدى الأنظمة عموما والتسلطية خصوصا، فعلى مدى التاريخ ازدهرت المصانع السلطوية المنتجة للرعب والخوف، بهدف خلق أنظمة عبودية قسرية أو طوعية، ومع تطور الدولة الحديثة ابتدعت الأنظمة التسلطية أجهزة قمعية صلبة تساندها أجهزة قمعية ناعمة على درجة عالية من الدقة والإتقان، ولم تكن الأنظمة العربية المعاصرة التي أعقبت المرحلة الكولينيالية استثناء في بناء مؤسساتها وتشييد إيديولوجياتها الحاكمة، فمؤسساتها القمعية هي الأكثر فعالية ونفوذا في تدبير الشؤون الداخلية، الأمر الذي حمل الإمبراطورية الأمريكية على الاستعانة بقدراتها الفائقة في انتزاع اعترافات "الإرهابيين المفترضين" عبر تقنيات الاستجواب المرعبة.
عندما بدأ جدار الخوف بالتصدع مع انطلاق فعاليات
ثورات الربيع العربي، تصدعت معه بعض جدران الأجهزة المنتجة للخوف والرعب، لكنها لم تنهر، كما أن القوى الثورية لم تدرك حجم وقوة الجدر واستهانت بصلابتها، إذ واجهت فعاليات قوى الثورة في العالم العربي معضلة حقيقية عبر محاولة الجمع بين فضائل النهج الثوري والنهج الإصلاحي، وتجنب رذائل النهجين، ولذلك التبست مسالك فهم وتفسير "الحدث"، وتكشّف الواقع عن ثورة تنشد إصلاح مؤسسات الأنظمة "السلطوية" السابقة دون الوقوع في سلبيات التطرف الثوري، والحفاظ على الأمل بإنجاز تغيرات جذرية حقيقية، إلا أن هذا النهج المزدوج كان يمكن أن ينجح في غياب قوى "الثورة المضادة" التي تتحصن في قلب المؤسسات القمعية للدولة وتتمتع بإسناد قوى دولية وإقليمية تخشى أن تتضرر مصالحها أو تخاف أن تطالها حمى الثورات.
من عيوب الثورة الإصلاحية في أطوارها الانتقالية أنها لا تمتلك القدرة والفعالية للتأثير على قوى "الثورة المضادة" المتحصنة في أبنية الدولة التسلطية العميقة، التي تعمل من خلال رموزها في النظام التسلطي على إعادة التموضع لإفشال وتخريب الثورة، فعملية اختراق السلطة الانتقالية من قبل محترفي السياسة أو رجال أعمال أو محرري وسائل الإعلام أو أعضاء الأجهزة الأمنية أو العسكرية أو رجال القانون وغيرهم، لا تتطلب جهدا كبيرا للتلاعب بالرأي العام تحت ذريعة حفظ النظام وتأمين الاستقرار.
أوهام الأمن والاستقرار هي السلع الأكثر رواجا في مصانع العبودية الطوعية، فلا عجب من نجاح الثورات المضادة مؤقتا في العالم العربي، فالرعايا يشترون الأوهام طواعية خوفا من البطش والتنكيل، فمن غرائب طبائع البشر الذين اعتادوا العبودية والقهر أن تتحول تلك العذابات إلى رغبة وشغف، بحيث تصبح مفاهيم كالكرامة والحرية والعدالة مقترنة بالخوف والفزع والقلق، ولا يشكل المجتمع العربي استثناء فهي ظاهرة إنسانية متواترة، شهدها المجتمع الصيني في عهد "ماو" كما جسدته الروائية الصينية يونغ تشانغ في روايتها الشهيرة "البجعات البرية"، والروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الماتعة (1984).
لقد شغلت ظاهرة الخوف المنتج للقلق من الحرية والدخول في أفق العبودية الطوعية للاستبداد، عددا كبيرا من الفلاسفة والمفكرين ، فقد أفرد إريك فروم كتابا عن التجربة النازية في ألمانيا بعنوان "الخوف من الحرية"، أما عبدالرحمن الكواكبي فقد كتب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وكان إيتيان دو لا بويسي المفكر والأديب الفرنسي في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، قد صنف أحد الكتب الخالدة بعنوان "مقالة: العبودية الطوعية"، تناول فيه طبيعة الإنسان عندما يألف الاستبداد، وكيف تصبح الحرية نوعًا من الهلع الرهيب تدفع بالمرء إلى الدخول برضا وقناعة في أفق العبودية.
تكشف سياسات الانقلاب على ثورات الربيع في العالم العربي عن تبني استراتيجية "إعادة بناء جدار الخوف"، وتسويق تأمين "الاستقرار"، وفي سياق فهم الثورات المضادة في العالم العربي تعتبر أطروحة جيورجيو أغامبن في كتابه "الكائن المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية"، مفتاحا تفسيريا لتفهم طبيعة العلاقةَ بين الحاكم والمواطن، إذ يقرر بأن السيادة تحمل في طياتها القدرة على وضع الحاكم خارج إطار حكم القانون، الأمر الذي ينشئ "حالة الاستثناء" وهي الحالة التي يصبح فيها المواطن تجسيداً لـ "الحياة العارية"، وهو مفهوم يشير إلى أن حياة المواطن وموته يصبحان كليّاً رهن سلطة الحاكم، و"حالة الاستثناء" بحسب أغامبن ليست تدبيراً موقّتاً يُتّخَذ عند وقوع الأزمات، بل هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة بين الحاكم والمواطن.
يبدو أن العالم العربي يتوافر على تشابه كبير مع الظروف التي واكبت كتابة الفيلسوفة السياسية حنة أرندت كتابها الشهير "أسس التوليتارية"، حيث سلطت الضوء على مرحلة هامة من تاريخ البشرية، مع مطلع القرن العشرين الذي شهد ظهور ما يسمى بالتوتاليتارية كنظام سياسي قائم على العنف والإرهاب والتخويف انطلاقا من أدوات إيديولوجية قادرة على تخدير العقول وتطويع الأجساد، وبالتالي نزع إنسانية الإنسان وتحويله إلى مدافع عن وهمية غاية في العنصرية، فقد تميزت الفترة التي أمضتها أرندت في كتابة مؤلفها الذي تطلب منها حوالي خمس سنوات، أربع سنوات، بعد سقوط النازية في ألمانيا وأربع سنوات قبل وفاة ستالين بالاتحاد السوفياتي، هي أول فترة اتسمت بالهدوء النسبي بعد حقبة طويلة مليئة بالصخب والتوتر والخوف، لم يتح لجيل "حنة أرندت" أن يفكر بهدوء في مسار هذه الأحداث المروعة التي طبعت مسار حياة أوروبا على وجه الخصوص، فلا يزال الخوف يجثم على النفوس، وكأن لا أحد اقتنع بعد أن ما وقع أصبح في طي الماضي، والعواطف لا تزال ملتهبة جراء مشاعر الألم والحقد والخجل.
إن هذا الجيل الذي تمثله "أرندت" كتب عليه أن يعيش هول هذه الأحداث دون أن يكون من حقه حينها أن يفكر فيها أو يناقشها، نظرا لما أشاعته الأنظمة التوتاليتارية من ممارسات قهرية منظمة لأجل قتل كل حيوية فكرية أو اجتماعية في الإنسان الأوربي، فبحسب أرندت: إن أهم ما ترنو إليه الأنظمة الشمولية هو بث الرعب والخوف في نفوس الجماهير من أجل إحكام سيطرتها عليهم، وفى سبيل ذلك فإنه تعمد إلى توظيف فئات الشعب ضد بعضها البعض وتصبح الوشاية إحدى الأدوات الرئيسية لضرب هذه الجماهير من جهة، وضمان عدم قيامها معا من جهة أخرى. وتمثل الحملة الدعائية أهمية خاصة في استراتيجية الحركات التوتاليتارية قبل أن تستحوذ على السلطة، حيث تكون مطالبة بأن تستثمر نفس الأدوات كما هو شأن الأحزاب والحركات التي تحضر في المشهد السياسي للدولة القائمة، وحالما تصل الحركة إلى السلطة وتتوفر لها الشروط الكافية للانتقال إلى النظام التوتاليتاري يتم استبدال الدعاية بالتلقين الإيديولوجي و الإرهاب.
من الصعب جدا في نظر "حنة أرندت" فك الارتباطات القوية بين الحملة الدعائية التوتاليتارية وعمليات الإرهاب المنظم، وإن كانت هذه الحركات تسعى عبر الحملة الدعائية توسيع وعاء قاعدتها فهي لا تراهن بشكل كبير على آليات الإقناع وإثبات مزاعمها، إذ سرعان ما يتدخل العنف الممنهج ليعطي لهذه الحملة الدعائية مفعولا قويا أو ليحل محلها؛ فقد كانت الحركات التوتاليتارية تقدم مشروع رؤيتها كنبوءة تتجاوز قدرات الفهم العادي أو العلمـي، فهي وحدها تمتلك فك ألغاز الحياة والتحكم في مسار تطورها نحو الكمال، وتستجيب هــذه "العلموية النبوية" لحاجات الجماهير التي فقدت كل تعلق لها بواقعها المتردي وفقدت الأمل في المستقبل، فوحدها هذه الإيديولوجية النبوية هي التي يمكن أن تحمل هذا الإنسان الغارق في العدمية والبؤس على أن يستعيد بعض الأمل والثقة في الذات عن طريق الانخراط في خضم هذه الحركة الثورية دونما تساؤل حول الضمانات الموضوعية و الواقعية لهذه المزاعم؛ فالجماهير لا تقتنع بالوقائع طالما أن الواقع المزري الذي تعيش فيه لا يمتلك أي قيمة مرجعية، بل إن تماسك الحركة التوتاليتارية والانسجام الداخلي الذي يطبع مزاعمها يقويان تعلق الجماهير بمشروعها ويقضي على كل صلة لها بالواقع، ذلك أن الجماهير "المقتلعة" إذ تدخل إلى هذا العالم "الطوباوي" بمحض مخيلتها تستشعر فيه الأمان وتجد نفسها في منأى عن الضربات التي تكيلها لها ولآمالها في الحياة الواقعية والاختبارات الحقيقية.
التوهم الأهم في نظر "حنة أرندت" في الحملة الدعائية النازية هو ادعاء وجود مؤامرة يهودية عالمية تكون ألمانيا ضحيتها الأولى والعالم بأسره في نهاية المطاف، فقد أخذ النازيون يبحثون عن مبررات وهمية أحيانا أو باصطناع تأويل تعسفي لبعض الوقائع بالعودة إلى كتاب "بروتوكولات صهيون"، حيث جعلت هذه المبررات الجماهير تطمئن إلى أن أولى الأمم التي اتضحت لها لعبة اليهودي وقاتلته، سوف تحتل مكانه في سيادة العالم، وقد مكن هذا الوهم الجماهير من اكتشاف شكل جديد للهوية والفعالية التاريخية، حيث أن ادعاء النازيين بأن العرق الآري يسمو عن باقي الأعراق الأخرى ولّد في نفوس الرعاع والجماهير على حد سواء متعة الانتماء إلى هذه الهوية العرقية، وقوى لدى الناس غريزة التوحد، و من جهة ثانية انصرف كل واحد من الألمان إلى البحث عن طهارة نسبه من كل لوثة يهودية. وحينها اكتشف كل فرد تائه وتافه وبلا جذور في ظل الوضع القائم وسيلة تعريف ذاتي من شأنها أن ترمم احترامه لنفسه ولو بصورة جزئية وأن تمنحه الأمان الهستيري.
وفي
روسيا استطاع ستالين أن يخلق ادعاء وهميا أقرب في درجته إلى الوهم النازي بوجود مؤامرة يهودية، حيث ادعى ستالين بوجود مؤامرة "
تروتسكية" للاستحواذ على السلطة، و قد نجح في إقناع الجماهير من خلال اصطناع تأويل لبعض المعطيات الواقعية، وبفضل تعميمات وهمية مثل هذه تمكنت الحركات التوتاليتارية من خلق عالم توهمي متماسك وإيجابي ينافس العالم الواقعي الفوضوي ويصعب إثبات بطلانه، وطالما أن الجماهير استمسكت بهذه الأوهام أصبح من الممكن تبرير كل الأعمال الإجرامية مهما كانت درجات عنفها تتجاوز حدود العقل، هكذا شرع هتلر إبادة اليهود و ستالين في تصفية التروتسكيين.
تربط "حنة أردنت" الاعتماد على الإرهاب في علاقته بالحملة الدعائية بحجم الحركة التوتاليتارية؛ فكلما كانت الحركة ضعيفة أو صغيرة زاد اهتمامها بالدعاية والاستقطاب عن طريق الخطاب، أما حينما تتقوى الحركة فلا تعود الدعاية ذات أثر فعال ولا تتماشى مع منطق الحركة حيث يتضاءل الاهتمام بالإقناع والنقاش وتقديم الأدلة والحجج للرد على الخصوم واستقطاب عناصر جديدة، فإذا بلغت سيادة الإرهاب حدها الأمثل تلاشت الحملة الدعائية، ففي الحالة النازية عندما أصبح شأن الحركة النازية أكبر من كل الأحزاب الأخرى، اقتنع الجميع أنه من المفيد جدا للفرد أن ينتسب إلى الحركة حتى يضمن أمنه وسلامة حياته، وقد عمل النازيون على ترسيخ هذا الخوف في نفوس الجماهير عن طريق الاعتراف العلني وجرأتهم وإصرارهم على تصفية كل المخالفين لتوجهات حركتهم الثورية، فالقاعدة التي اعتمدها النازيون تقول: "من هو ليس معنا فهو ضدنا" جعلت كل فرد موضوع إرهاب محتمل.
في ديار الخوف تتسع "خصوبة اللامتوقع" لتتجاوز حذر رجل الدولة حسب برودون، إلى حذر المجتمع الذي قد يتخذ شكل رُهاب وسواسي، حيث يتبادل المجتمع والسلطة الحذر من مجهول آت غير محدد، مادام المجتمع لا يحتكم إلى منظومة حقوقية قانونية تنظم علاقته بالنظام، فالقمع المفرخ للخوف، واللاجم بالأنا الاجتماعية، يقتل الأنا الأخلاقية داخل الفرد، فيرتد إلى أحط أنواع الدناءة والخسة وانتهاز الفرص، والخنوع الذليل للعلاقات التراتيبية "الهيراركية" حيث تتأسس علاقة عبودية.
خلاصة القول أن ما يشهده العالم العربي اليوم هو حالة من الفزع والخوف، ينطبق عليه مفهوم "الحياة العارية" كما وضعه أغامبن، و"الخوف من الحرية" كما بيّن فروم، ويتماهى مع "أسس التوليتارية" كما بينته حنة أرندت، ويتطابق مع "العبودية الطوعية" كما تصورها لابوسي، ويقترب مع عوالم "البجعات البرية"، لتشانغ، ونبوءات (1984) لأورويل، فـلا غرابة ولا تثريب على ثورات الربيع العربي فهي لن تكون استثناء، بعيدا عن الرومانسيات الثورية، فالابتلاء بالخوف متلازم مع التغيير والتحول الثوري.