كتب سركيس نعوم: يسمع
اللبنانيون مواقف لزعيم سياسي أو ديني أو حزبي أو منتمٍ إلى هيئات المجتمع المدني يدعو إلى رئيس للجمهورية صُنِع في لبنان. والمقصود بذلك هو أن يختاره النواب اللبنانيون وينتخبوه، لا أن تزكّيه جهات إقليمية ودولية فاعلة فيهرع ممثلو الشعب اللبناني إلى إيصاله إلى قصر بعبدا بالتصويت له في مجلس النواب.
ويتمنون لو كان ما سمعوه صحيحاً لأنه يعكس ساعتها استقرارهم السياسي وتوافقهم الوطني ونضجهم الديموقراطي. لكنهم يأسفون لأنّ استمرار هذه الدعوات يعكس جهلاً عميقاً أو تجاهلاً مقصوداً للواقع اللبناني منذ الاستقلال عام 1943. كما يعكس رغبة في التخلُّص من وصايات وفي بلوغ الرشد السياسي والوطني. فرئيس جمهورية لبنان لم يكن يوماً خياراً لبنانياً صرفاً.
رئيس الاستقلال الشيخ بشارة الخوري وصل إلى الموقع الأول جراء تصارع الحليفين الفرنسي والبريطاني. والرئيس كميل شمعون وصل بدعم بريطاني واضح. والرئيس فؤاد شهاب أوصله تفاهم رئيس مصر جمال عبد الناصر وأمريكا. والرئيس إلياس سركيس "انتخبته" سوريا وأمريكا. والرئيس بشير الجميل انتخِب رئيساً بدعم إسرائيلي ورعاية أمريكية وتفهُّم عربي خليجي.
وبعد اغتياله حلّ مكانه شقيقه أمين بدعم إسرائيلي ورعاية أمريكية وقبول سوريا حافظ الأسد. والرئيس رنيه معوض "انتخبه" السعوديون والأميركيون مع تفهُّم حذِر سوري أسدي. وبعدما قضى اغتيالاً حلّ مكانه إلياس الهراوي، وكان خياراً سورياً صرفاً بموافقة أمريكية. وخلفُه الرئيس إميل لحود وصل إلى قصر بعبدا بالطريقة نفسها. والأمر نفسه بالنسبة للرئيس ميشال سليمان الذي شارك "خليج الدوحة" عاصمة قطر في اختياره. ويمكن القول هنا إن إيران في أثناء اختياره كانت بدأت تدخل نادي الناخبين الإقليميين للرئيس اللبناني.
ماذا عن الرئيسين سليمان فرنجيه وشارل حلو؟
يتبجّح الكثيرون بالقول إن فرنجيه هو الرئيس الوحيد الذي صُنِعَ في لبنان. والمظاهر قد تؤكّد ذلك. إلا أن التعمُّق في ظروف
انتخابه تشير إلى أنه لم يتم إلا بسبب غضب الاتحاد السوفياتي في حينه من "المكتب الثاني" الشهابي، الذي قام بعملية أمنية ضده في لبنان ألحقت ضرراً بسمعته، وهي إحباط محاولة ديبلوماسييه خطف طائرة ميراج لبنانية. وقد دفع الغضب الناخب الأول لرئيس لبنان عبد الناصر إلى رفض انتخاب "شهابي" خلفاً لحلو.
وترجم ذلك الناخب المحلي الأول كمال جنبلاط بقسمة نوابه بين مؤيدين لفرنجيه ولمنافسه إلياس سركيس. أما الرئيس شارل حلو فما كان ليمر لو لم يختره الرئيس شهاب ويُقنِع به عبد الناصر. علماً أن مرشح شهاب كان نسيبه الأمير عبد العزيز شهاب. لكن ناصر اعترض على "تأسيس إمارة". حتى الحكومات اللبنانية كان الخارج يتدخّل فيها. وقد ظهر ذلك من دون أي خجل في أثناء الوصاية السورية خلال حروب 1975 – 1990، وفي أثناء استمرارها بعد انتهاء الحروب. دامت الوصايتان قرابة ثلاثين عاماً.
وحتى بعد انتهاء المرحلة المذكورة، فإن التدخل في تأليف الحكومات من الخارج العربي استمر. ففي أثناء تأليف إحدى حكومات ما بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تعذّر إصدار المراسيم لأن رئيسها فؤاد السنيورة رفض الابن المدلّل للعماد ميشال عون جبران باسيل وزيراً للطاقة، فاتصل مرجع كبير سوري بمرجع كبير سعودي متمنياً عليه إقناع السنيورة بالأمر. وذلك ما حصل باعتبار أن علاقات دمشق والرياض يومها كانت "جيدة".
إذا كان المُفصَّل أعلاه حقيقة واقعة، فلماذا لم يتدخّل الناخبون الكبار في المنطقة والعالم لإنهاء الشغور في رئاسة جمهورية لبنان حتى الآن؟
لأنهم يتغيّرون باستمرار، وفق ما هو ظاهر أعلاه، جراء تغيُّر الظروف وتطوُّر الأوضاع وتبدُّل موازين القوى إقليمياً ودولياً. ولأنهم الآن في مرحلة صراع سياسي مباشر شديد ومرحلة حرب بالوكالة عنيفة في بلدان عدة في الشرق الأوسط كما في أوروبا الشرقية. ولبنان منقسمة شعوبه ومنقسم بينهم ومتصارع بسببهم، ولن تتفاهم شعوبه إلا إذا تفاهموا في ما بينهم أو تقاسموا النفوذ والمصالح. وهذا لم يحصل حتى الآن.
وأهم هؤلاء دولياً أمريكا وجزئياً روسيا، وإقليمياً المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وما يخشاه اللبنانيون أن يتأخر تفاهم هؤلاء أو انتصار فريق منهم على الآخر أو الآخرين، إذ قد يُبقي ذلك لبنان بلا رئيس ويضعه من جديد على مشرحة الداخل والخارج.
(عن صحيفة النهار اللبنانية 13 كانون الأول/ ديسمبر 2014)