كشفت التطورات الأمنية والعسكرية والسياسية الأخيرة في العراق عن عمق الأزمة التي يعانيها هذا البلد والتي لن تبقى محصورة في داخل حدوده بل هي امتدت وستمتد إلى كل دول المنطقة وصولا للعالم العربي والإسلامي وعلى الصعيدين الدولي والإقليمي.
والخطورة الأكبر من وراء هذا الصراع تحوله إلى صراع مذهبي سني-شيعي بقيادة المرجعيات الدينية من الطرفين، وعدم اقتصاره على الأطراف والقوى السياسية أو المجموعات المتشددة، ولقد جاءت الفتوى التي أصدرها المرجع الأعلى للطائفة الشيعية السيد علي السيستاني بإعلان "الجهاد الكفائي" لمواجهة الهجمة التي تشنها داعش والمؤيدون لها والاستجابة السريعة لهذه الفتوى من قبل شيعة العراق، لتدل على خطورة الأوضاع في العراق والمنطقة.
وقد برزت خلافات في وجهات النظر حول ما يجري في العراق وتداعيات الأحداث فيه، فهناك وجهة نظر تحمّل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحكومته وصولا لاتهام الشيعة وايران بالتسبب بما جرى بسبب إقصاء الطائفة السنية عن العملية السياسية (بغض النظر عن صحة أو دقة هذه الاتهامات)، وهناك وجهة نظر أخرى تعتبر أن التشدد والتطرف في الساحة السنية هو بدعم إقليمي ودولي وخصوصا من
السعودية وتركيا وقطر وحتى من أميركا، بالوقوف وراء ما جرى للرد على التطورات بعد الانتخابات العراقية والسورية والاستقرار في لبنان (بغض النظر عن صحة هذه التحليلات).
لكن بعيدا عن الحديث عن أسباب ما جرى ومن يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه من أوضاع خطيرة قد تؤدي إلى حرب مذهبية مفتوحة، فإن المطلوب تدارس الأوضاع للبحث عن حلول سياسية لكل الأزمات في المنطقة وليس الأزمة العراقية فقط، لأن كل الأوضاع متداخلة من سوريا إلى لبنان والعراق واليمن والبحرين، وصولا إلى ساحات عربية وإسلامية أخرى.
وقد دعا النائب الدكتور علي فياض (من كتلة نواب حزب الله في لبنان) قبل سنتين إلى ضرورة إطلاق تسوية شاملة في العالم العربي والإسلامي لمعالجة كل الأزمات واسماها: “وستفاليا” عربية إسلامية من اجل منع حصول حرب المائة عام المذهبية بين السنة والشيعة، والمعروف أن معاهدة وستفاليا الأولى قد تمت في أوروبا عام 1846 بين الممالك الأوروبية بعد صراع ديني استمر 30 عاما، وقد أسست هذه المعاهدة لقيام الدول الأوروبية الحديثة.
إذن نحن بحاجة لعقل وخطاب عربي وإسلامي جديد للتعاطي مع الأحداث في المنطقة بعيدا عن الخطابات المذهبية المتشددة، سواء كانت سنية وشيعية، ويجب أن تعترف جميع الأطراف بالأخطاء التي تم ارتكابها خلال العشر سنوات الأخيرة (منذ الاحتلال الأميركي للعراق وصولا للازمة السورية وما يجري اليوم من أحداث سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو البحرين أو اليمن)، كما يجب إعادة النظر بالسياسات والاستراتيجيات التي اتبعت والتي ستحّولنا جميعا إلى وقود في صراع مذهبي طويل المدى ولا يخدم سوى أعداء الأمة العربية والإسلامية.
والمسؤولية على الجميع ، فكل من يبرر أو يدافع عن الخطاب المذهبي هو مسؤول عما جرى، وكل من يسكت عن الظلم والقهر هو مسؤول، وكل من يبرر التطرف والعنف والتكفير والقتل هو مسؤول، وكل من لا يعمل لوقف الظلم والطغيان تحت أي عنوان هو مسؤول، ولا يمكن فصل الأمور عن بعضها البعض، فالأوضاع متداخلة والمسؤوليات مشتركة ويجب أن يعرف الجميع إلى أين تسير التطورات، ولخدمة من تتصارع "الأصوليات الإسلامية" فيما أميركا والغرب وإسرائيل يتفرجون علينا وهم يضحكون في سرهم لأننا نوفر عليهم الأموال والإمكانيات لقتالنا والخلاص منا.
الوقت الآن ليس لتوجيه الاتهامات وإصدار المواقف وتحميل المسؤوليات من بعيد، بل الوقت الآن للعمل الجاد لوقف الانهيار ولوقف حمام الدم والقتل والعنف، وتلك مسؤولية الجميع ومهمة الجميع ويجب أن تتشكل بسرعة لجنة حكماء من قادة الأمة وعلمائها للتحرك سريعا للتوصل إلى حلول، وإلا فنحن ذاهبون جميعا نحو الحرب المذهبية الكبرى، والله أعلم.