كتاب عربي 21

السيوف الحديديّة والحكايات النديّة

أحمد عمر
جيتي
جيتي
لقد اصطدمت سفينة التيتانك الإنجليزية الثانية، الماخرة في البرّ العربي، بجبل جليد اسمه غزة.. والجليد لغة الصليب، والصليب صيغة فعيل من الصلب والصلابة، وقد وُصفت إسرائيل بالوصف نفسه الذي أطلق على سفينة تيتانيك، التي صنعت لها هوليود قصة حبٍّ عظيمة. وتيتان تعني المارد والضخم في الإغريقية، ومن تصاريف القدر أن وصف "السفينة التي لا يقدر الله على إغراقها"، أُطلق على جيش إسرائيل الذي يغرق في رمال غزة!

كل حرب تحتاج سلاحين هما السيف والقلم؛ القلم يكتب القصة، والسيف يصونها، السيف قلم أيضا ومداده الدم، وما يبقى من الحياة والسيرة قصة كبرى هي السردية، وقصص تحفّ بها وتتوالد منها. قد تتحول قصة إلى سردية أو رواية أصلية، لكن القصة تحتاج إلى من يرويها، ومن يسمع راويها. أغلب الظن أن المغول الذين احتلوا ربع كوكب الأرض دُحروا لأنهم بلا قصة، بلا دين. وقد أسست إسرائيل على حكاية الهولوكوست، هي سرديتها. شُبهت قصة طوفان الأقصى في أدبيات الصحافة بضرب البرجين في أمريكا، فإسرائيل هي برج أمريكا الثالث، وهي في بعض الأدبيات ولايتها الحادية والخمسون.

كل حرب لها قصة، هناك قصص استُعملت ذريعة لحروب كبيرة، ذهبت ضحيتها دول وشعوب، مثل قصة "كذبة الحضّانات" الكويتية، التي روتها شاهدة كويتية، حشدت بها أمريكا الرأي العام لغزو العراق، وقصة جورج بوش الابن، الذي ادّعى فيها أن صدام حاول قتل أبيه، وقصة أسلحة التدمير الشامل. كانت أمريكا هي التي تلفق القصص مدة قرن كامل، فهوليود هي أكبر مصنع قصص في العالم، هوليود هي شهرزاد العصر.

نذكر قصة المرأة الأفغانية التي اقتصت منها حكومة طلبان لقتلها زوجها وهو نائم، وهي امرأة قاتلة حوّلها الإعلام إلى قصة شريعة إسلامية "متوحشة" لا تصلح لهذا العصر، ما يصلح لها في ملة أمريكا ودينها قنابل فوسفورية ونووية، القنبلة النووية بلا قصص سوى قصة قاذف القنبلة، لقد جاء من يؤلف حكاية جديدة هي قصة طوفان الأقصى؛ طوفان جديد مثل طوفان نوح عليه السلام.

نرى كل يوم مئات القصص الملحمية تروى من غزة، أبطالها أطفال وهم رواتها أيضا، وإذا كان بطل الحكاية طفلا فهي حكاية ناجحة.. كل يوم نرى حكاية فريدة من مئات الحكايات المطمورة تحت الأنقاض، فالكاميرا لا تصطاد كل القصص، ما يصلنا كل يوم قصة أو قصتان عظيمتان عن الفداء والتضحية، أبطالها أطفال بين الثالثة والعاشرة، حكايات ملحمية غير متخيلة، مصورة، أغرب من الخيال.

يقال إن الصورة تغني عن عشرة آلاف كلمة، لكن الصورة تحتاج إلى من يصف الصورة ويحكي قصتها، فيجلو بعض خصائصها وأسرارها التي تغفل عنها العين، كذكر اسم البطل، وبعض من سيرته، أحلامه وآماله، أشجانه، فالصورة تروي لمحة من لمحات القصة، ولحظة منها.

كان البشر يكتبون بالصور في فجر البشرية، باللغة التي سميت الهيروغليفية، وهي لغة رموز وصور، ثم شبّوا عن الطوق، فحوّلوا الصور إلى حروف، ثم كلمات.. أنقذت القصص التاجر في قصة التاجر والعفريت في قصص ألف ليلة وليلة، وأنقذت الحكايات الراوية شهرزاد نفسها من القتل. أمّا قصة أصحاب الغار فهي حديث نبوي وتروي قصة ثلاثة رجال آووا للمبيت في غار، فلما دخلوه، انحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فانفرجت الصخرة ونجوا. فهل تنقذ حكايات أطفال غزة، ونساء غزة ما بقي من أحياء غزة؟

غزت غزة قلوب العالم بكرم أطفالها وفصاحتهم ونبل نسائها وبسالة رجالها، وصبرهم على أذى لم يُرَ من قبل، فلنبدأ على سبيل المثال بقصة الطفلة ألمى، وهي طفلة عمرها 12 سنة انحبست تحت ردم قصف الطائرات الحربية، فاستغاثت بأصحاب النجدة، ولما حضروا طلبت نجدة أهلها قبل تحريرها وانتشالها، وإنقاذ أخيها البوبو طرزان، خرجت ألمى، معفرة بغبار الحجارة المطحونة والأنقاض، مليحة، جميلة، باسمة، وما إن خرجت حتى سارعت كأنها أخت موسى عليه السلام إلى حيث أخوها وبقية أهلها تحت الأنقاض.

القصة الثانية هي قصة طفل يحمل راية بيضاء في أثناء النزوح حتى لا يقصفه الإسرائيليون، وهي صورة تغني عن الكلام، فحتى الطفل الذي بلغ السعي يحمل راية بيضاء للجند الذين يقتلون للتسلية.

في القصة الثالثة يسأل المصور طفلة عن اسمها، فتقول إن اسمها رتال (ثلاث سنوات)، وهو اشتقاق بديع من الرتل والترتيل. ماذا جرى يا رتال؟ فتجيب قائلة: "اليهود قصفوا عليّ".. دولة من أقوى دول المنطقة سلاحا وعدّة وعتادا تقصف طفلة اسمها رتال!

القصة الرابعة هي قصة طفل في حوالي الخامسة يحمل جثة أخيه الرضيع ليدفنه، فهو وليّ أمره بعد أن قصفت إسرائيل أسرته كلها واستأصلتهم.

القصة الخامسة هي قصة أطفال يكتبون أسماءهم على أيديهم وأرجلهم، حتى يتم التعرف على أشلاء كل منهم، فتدفن جميعا في قبر واحد كما يليق بالميت، بعد قصف الطائرات لهم، فإسرائيل يعزّ عليها اجتماع أشلاء ضحاياها خوفا منهم.

حكايات حية بالصورة والصوت والدم، نابضة بالعبرة والعظة.. خذ مثلا حكاية طفلة الثلاث سنوات التي تنقبض ذعرا من صوت القذائف، فيحاول والدها أو عمها، إن بقي لها والد أو عمّ، تسليتها بتلاوة سورة النصر. طول الفيلم أقل من دقيقة، لكنه أبلغ أثرا من فيلم كاميرون تيتانك المتخيل الذي أنفق عليه منتجوه 200 مليون دولار!

خذ مثلا قصة طفلة غزيّة في حوالي الخامسة، جالسة تبكي أخاها، وتواسي أخاها الثاني وتكفكف دمعته، ثم تسدل الغطاء على أخيها الشهيد، وكأنها أمّ خبرت الحياة وشؤونها وأحوالها، فتقول: "خلاص راح عند أبوي"، ثم تعزي أخاها الباكي قائلة: ادعِ له بالرحمة، ثم تمنع دمعة كبيرة، وتتنهد تنهيدة ثقيلة حارقة.

هذا غيض من فيض من حكايات أطفال غزة، ولهررتها وكلابها وحميرها وبهائمها قصص، أهاجت العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وفطرت قلوبهم، وصدعت أفئدتهم، وجعلتهم يبحثون عن أسباب إيمان أهل غزة وعظمتهم وإبائهم وكبريائهم.

أما إسرائيل، فقد شاخت، فقصصها بلا صور، وإن قصة العصر الحديث قصة مصورة، وقد حاولت تأليف قصص، لكن كذبة الأطفال الأربعين المحروقين لم تنطل على أحد، وكذلك قصص النساء المغتصبات، وقصة الدروع البشرية التي تبرر بها قصف المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس.

حكايات أطفال غزة، ولهررتها وكلابها وحميرها وبهائمها قصص، أهاجت العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وفطرت قلوبهم، وصدعت أفئدتهم، وجعلتهم يبحثون عن أسباب إيمان أهل غزة وعظمتهم وإبائهم وكبريائهم. أما إسرائيل، فقد شاخت، فقصصها بلا صور، وإن قصة العصر الحديث قصة مصورة، وقد حاولت تأليف قصص

السؤال الذي لا يُسأل: إذا اتخذ مجرم دروعا بشرية من عشرة أطفال هل يجوز قتلهم للتخلص من المجرم؟

إسرائيل عاجزة عن رواية قصة مؤثرة تخلب بها ألباب العالم كما فعلت في قصة الهولوكوست، وهي تعمل ليل نهار على تفنيد قصص غزة باعتقالها المدنيين عراة، وإتلاف جندها المؤن والمعونات، وإنكار إحسان معاملة كتائب القسام للمحتجزين، بتبهيت تصريحات المحتجزين والزعم أنهم عانوا من صدمة ما بعد الأسر، أو أُسكروا بفيتامين السعادة، والادعاء أنّ الجيش الذي أجبر الفلسطينيين المدنيين على خلع ملابسهم للتأكد من خلوها من المفخخات، فإذا كان الجيش "الأكثر أخلاقية" في العالم قد صور التعرية فلمَ لمْ يصور تلبيسهم ثيابهم؟ أما أجمل قصصها فهي قصة الطفل المحتجز، الذي لم يعد يأكل وحيدا، فإن حضر طعامه بحث عن ضيف يشاركه الطعام، اقتداء بمكارم حاجزيه.

يتلعثم قادة أمريكا وهم يختلقون قصصا عن "مخربي حماس"، ويستعملون حق الفيتو في مجلس الأمن للاستمرار في الحرب، ويجتهدون في رواية قصص فاسدة مثل قصة إخوة يوسف الذين جاؤوا أباهم عشاء يبكون. خذ مثال مشهد جون كيربي (منسق مجلس الأمن القومي)، وهو يحاول حبس دمعته على نساء إسرائيل اللاتي "اغتصبهن" مقاتلو حماس، أو حكاية رئيس وزراء إسرائيل النووية، قائد رابع أقوى جيش بالعالم، وهو يطلب النجدة من أمريكا وقادة العالم؛ من مقاتلي غزة الصغيرة المحاصرة المحرومة من الماء والغذاء والدواء والسلاح!

الرومان حاربوا المسيح عليه السلام، ونكّلوا بأتباعه المخلصين، لكنهم دخلوا دينه إعجابا بقصته الملحمية العظيمة.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)