كتاب عربي 21

رفع الأجور لن يعالج التضخم.. والإنتاج هو الحل

ممدوح الولي
تبدو السيطرة على التضخم في مصر بعيدة المنال في ظل السياسات الحالية- عربي21
تبدو السيطرة على التضخم في مصر بعيدة المنال في ظل السياسات الحالية- عربي21
بالنظر إلى الموازين التجارية للدول العربية في العام الماضي، فقد حققت 13 دولة عجزا تجاريا نتيجة زيادة الواردات عن الصادرات، حتى إن نسبة تغطية الصادرات للواردات قد بلغت 11 في المائة بكل من سوريا والصومال، و15 في المائة باليمن، و17 في المائة بجزر القمر، و19 في المائة بفلسطين، و22 في المائة بلبنان.

وهكذا انفردت الدول التسع المصدرة للنفط والغاز الطبيعي بتحقيق فائض تجاري، ولو تم استبعاد صادراتها من الطاقة فإن ميزانها التجاري غير البترولي سيتجه لتحقيق عجز بها جميعا.

ويتكرر المشهد في دول منظمة المؤتمر الإسلامي السبع والخمسين، حيث حققت 36 دولة عجزا تجاريا، مقابل تحقيق 21 دولة فائضا تجاريا، غالبيتها دول مصدرة للطاقة. وبلغت نسبة تغطية الصادرات بدول العجز التجاري 8.5 في المائة بغامبيا، و11 في المائة بالمالديف، و16 في المائة بأفغانستان، و23 في المائة بالقرغيز، وأقل من النصف في كل من طاجكستان وباكستان وأوغندا والسنغال والنيجر.

حتى التجارة الخدمية حققت نصف الدول العربية بها عجزا، وجمعت دول موريتانيا وجزر القمر واليمن بين العجز التجاري السلعي والخدمي في نفس الوقت.

تفضيل الاستثمار المالي على الإنتاجي

استسهال مسألة الاستيراد على الإنتاج المحلي للسلع والخدمات، وتشجيع غالبية الحكام لذلك لكسب ود الدول الكبرى حتى تعضد استمرارهم في كراسي السلطة، رغم إخفاقهم في تحقيق مطالب شعوبهم، إلى جانب وجود جماعات مصالح تفضل اللجوء للاستيراد الذي يحقق لهم أرباحا أكبر، خاصة مع احتكار تلك المجموعات لاستيراد سلع معينة وبعضها جهات حكومية، بحيث تنفرد بالسيطرة على الأسواق، مع عدم تفعيل التشريعات التي تكفل حماية المنافسة ومنع الاحتكار، إلى جانب انحياز حوافز الاستثمار السائدة في معظم تلك البلدان للاستثمار المالي على حساب الاستثمار الإنتاجي
والسبب الرئيس لذلك العجز هو استسهال مسألة الاستيراد على الإنتاج المحلي للسلع والخدمات، وتشجيع غالبية الحكام لذلك لكسب ود الدول الكبرى حتى تعضد استمرارهم في كراسي السلطة، رغم إخفاقهم في تحقيق مطالب شعوبهم، إلى جانب وجود جماعات مصالح تفضل اللجوء للاستيراد الذي يحقق لهم أرباحا أكبر، خاصة مع احتكار تلك المجموعات لاستيراد سلع معينة وبعضها جهات حكومية، بحيث تنفرد بالسيطرة على الأسواق، مع عدم تفعيل التشريعات التي تكفل حماية المنافسة ومنع الاحتكار، إلى جانب انحياز حوافز الاستثمار السائدة في معظم تلك البلدان للاستثمار المالي على حساب الاستثمار الإنتاجي، سواء الزراعي أو الصناعي أو حتى الخدمي، وهو ما ذكره لي مدير صندوق استثمار في إحدى البلدان الخليجية، عندما ذكرت له أن المصريين يحتاجون إلى استثمارات حقيقية لسد العجز التجاري المزمن لديهم، بينما لن يفيدهم في شيء تركيز صندوقه على الاستثمار في البورصة المصرية.

وكان الرد كاشفا حين قال إن الاستثمار الزراعي عالي المخاطر، والاستثمار الصناعي يحتاج لوقت حتى يؤتي ثماره، إلى جانب المعوقات البيروقراطية وتكلفة الفساد وارتفاع نسبة التضخم وتدني التصنيف الائتماني، بينما الاستثمار في الأوراق المالية سريع العائد وسهل التخلص منه سريعا والخروج من السوق.

وهو ما كرره الكثيرون في البلدان المختلفة سواء كشركات أو أفراد، حيث يرون أن المحصول الزراعي يحتاج ما بين 3 إلى 6 شهور، والمشروع التجاري يحتاج فترة أطول، والمشروع الصناعي يحتاج لثلاث سنوات أو أكثر حتى يحقق ربحا، بينما يمكننا تحقيق أرباح من خلال التعامل في البورصة خلال يوم واحد، إلى جانب الأعباء الضريبية التي يتعرضون لها مع تحقيق أرباح من النشاط التجاري أو الصناعي، بينما لا يخضع مجال الاستثمار في البورصة للضرائب أحيانا أو خضوعها بنسبة أقل كثيرا.

الفائدة السلبية واللجوء لمجالات غير إنتاجية

كذلك ما يخضع له المشروع التجاري أو الصناعي من جهات رقابية متعددة، وإتاوات من الأجهزة المحلية، ولهذا استسهل الكثيرون الأمر بالعمل في مجال الوساطة والسمسرة، سواء في مجال العقار أو الأراضي أو الأوراق المالية أو العملات الأجنبية، وتحقيق مكاسب عالية تعوض الفارق الكبير بين معدلات التضخم ومعدلات الفائدة وما ينجم عنها من فائدة السلبية.

ففي لبنان يبلغ معدل التضخم 252 في المائة، والفائدة 7.75 في المائة، وفي تركيا 59 في المائة للتضخم و25 في المائة للفائدة، وفي إيران 40 في المائة للتضخم و18 في المائة للفائدة، ويتكرر هذا الفارق المتسع في مصر وباكستان ونيجيريا وغيرها، مما يدفع الكثيرين إلى مجالات غير إنتاجية، لتعويض تلك الفائدة الحقيقية السلبية كالعقار أو تجارة العملات الأجنبية والذهب.

والنتيجة هي بلوغ قيمة الواردات السلعية العربية العام الماضي تريليونا و152 مليار دولار، كثير منها يمكن إنتاجها داخل الدول العربية أو الإسلامية، لكن التجارة العربية والإسلامية البينية ما زالت محدودة، وحسب بيانات صندوق النقد العربي فقد بلغت نسبة الواردات البينية العربية خلال عام 2021 نحو 13.7 في المائة، وانخفضت النسبة إلى 6.5 في المائة بالجزائر، و7 في المائة بفلسطين، و8 في المائة بكل من العراق وقطر، و9 في المائة بكل من المغرب وتونس، و10 في المائة بالإمارات.

وهنا يمكن ذكر العديد من المفارقات، فمصر على سبيل المثال دولة منتجة ومصدرة للزيتون، لكنها تستورد الزيتون المخلل من إسبانيا رغم أنها تصدّر الزيتون الخام لإسبانيا، ورغم استمرار هذا الأمر منذ سنوات طويلة ورغم أزمة نقص الدولار وصعوبات تدبير قيمة الواردات الأساسية، فلم تفكر غرفة الصناعات الغذائية أو غيرها من الجهات المختصة الحكومية أو الأهلية في إيفاد عدد من العاملين في مجال الزيتون إلى إسبانيا للاطلاع على طريقة تصنيع الزيتون في إسبانيا، وقل مثل ذلك عن تصدير الرخام للصين ثم استيراده منها مُصنّعا، وكذلك القطن الخام والرمال البيضاء والغاز الطبيعي والنفط الخام وغيرها.

تصاعد التضخم رغم تكرار رفع الأجور

ومع الملء الرابع لسد النهضة والذي سيتلوه ملء آخر للوصول إلى حجز كميات مياه 74 مليار متر مكعب، فهناك أضرار بدأت تظهر آثارها على السودان ومصر، مما يعني المزيد من الواردات الزراعية لكلا البلدين.

وإذا كانت الحكومات العربية تواجه نقص المنتجات بالمزيد من الاستيراد، فإن بعضها ليس لديه من الدولارات ما يكفي لذلك الاستيراد ومنها مصر، التي تتعطل فيها الواردات في الموانئ لعدم توافر دولارات للإفراج عنها.

وها هي السلطات المصرية تتجه لزيادة أجور العاملين في الدولة وأصحاب المعاشات، لمواجهة الارتفاع الحاد للأسعار، مثلما فعل الجنرال المصري السبت الماضي، لكن الموازنة المصرية مصابة بالعجز المزمن، مما يعني اللجوء لطبع المزيد من النقود لتغطية تكاليف تلك الزيادات للأجور والمعاشات، على أمل فرض المزيد من الرسوم والضرائب لتغطية تلك التكاليف بعد الانتخابات الرئاسية.

يبقى الحل الأصيل لمواجهة التضخم متمثلا في المزيد من إنتاج السلع والسلع والخدمات محليا لمواجهة الطلب المحلي، والمزيد من التشغيل، وتقليل الاستيراد وتخفيف الضغط على سعر صرف الجنيه أمام الدولار، والذي يمثل سببا رئيسيا في ارتفاع معدلات التضخم
لكن تلك الزيادة الأخيرة للأجور لن تقلل من معاناة المصريين من الغلاء غير المسبوق، ليس فقط لأن تلك الزيادات قاصرة على الموظفين في الحكومة وأصحاب المعاشات، ولن يستفيد منها العاملون في القطاع الخاص الأكثر عددا، أو بسبب قلة قيمتها البالغة 300 جنيه، أي ثمن كيلو واحد من اللحم، ولكن لأنها ستزيد من المعروض النقدي بالأسواق، بينما يسعى البنك المركزى منذ شهور لامتصاص السيولة من السوق من خلال الرفع المتتالي لسعر الفائدة.

كما أن التجارب السابقة منذ فترة الرئيس حسنى مبارك، قد أثبتت أن زيادات الأجور تؤدى للمزيد من ارتفاع الأسعار، وهو ما حدث عقب زيادة الأجور في تشرين أول / أكتوبر الماضي، حين كانت نسبة التضخم الرسمية حينذاك 16.3 في المائة.

وكذلك عقب زيادة أجور الموظفين وأصحاب المعاشات في آذار/ مارس الماضي حين كان معدل التضخم 33.9 في المائة، في حين بلغ معدل التضخم الرسمي الشهر الماضي 39.7 في المائة، وكلها معدلات لا تجد مصداقية سواء من قبل الخبراء أو الجمهور، حيث يرون التضخم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير.

ويبقى الحل الأصيل لمواجهة التضخم متمثلا في المزيد من إنتاج السلع والسلع والخدمات محليا لمواجهة الطلب المحلي، والمزيد من التشغيل، وتقليل الاستيراد وتخفيف الضغط على سعر صرف الجنيه أمام الدولار، والذي يمثل سببا رئيسيا في ارتفاع معدلات التضخم خلال العامين الماضي والحالي، والذي سيكون سببا أيضا في المزيد من ارتفاع الأسعار، بعد الخفض الجديد المرتقب لسعر صرف الجنيه عقب الانتخابات الرئاسية المقبلة مباشرة.

twitter.com/mamdouh_alwaly
التعليقات (0)