تقارير

المطران كابوتشي.. عباءة الكهنوت في حماية البنادق

كابوتشي مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات
كابوتشي مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات
اعتاد القول إن "المسيح هو فدائي فلسطين الأول"، وهو سار على درب المسيح، ولم يكن مناضلا بالصدفة فقد وعي على نحو مبكر لدوره الوطني والقومي والديني.

قال ذات يوم: "القتال في فلسطين دفاعا عن فلسطين له ما يفرضه: عدو غاشم مراوغ سلبنا ديارنا، وهو يجثم على صدرنا. ولما كان الصلف شعاره، والتفتت رائده، والقوة منهجه، فليس إلا الجهاد سبيلا إلى التحرير".

اشتهر عربيا وعالميا بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعمل سرا على دعم المقاومة.

ولد هيلاريون كابوتشي (كبوجي) عام 1922 في مدينة حلب بسوريا، واسمه الأصلي "جورج" وكلمة "كابوتشي"، وهي كنيته، تعني "البواب" أو "الحارس" بالسريانية، وقد اختار اسم هيلاريون (إيلاريون) تيمنا براهب ولد في غزة عام 291 ميلادية، ونقل طريقة العزلة في الصحاري من المصريين إلى البلاد السورية، وكان والد كابوتشي يعمل تاجرا للسيارات في حلب وقد توفي باكرا. فربته والدته مع أخويه أنطوان ورزق.

درس في مدارس حلب حتى المرحلة الثانوية، ثم انتقل في عام 1933 إلى "دير الشير" في لبنان، وتابع دروسه فيه حتى عام 1944 عندما غادر إلى "دير القديسة آن" في القدس لإكمال دروسه اللاهوتية، وأصبح كاهنا في عام 1947.

عين مديرا لمدرسة النهضة الوطنية القريبة من بلدة سوق الغرب في جبل لبنان، ثم مسؤولا عن أبرشيات دمشق وجوارها.


                                                   المطران هيلاريون كابوتشي

وفي عام 1962 أصبح رئيسا عاما للرهبانية الباسيلية الشويرية. ثم رئيسا عاما للرهبانية الحلبية، ورقي في عام 1965 إلى رتبة المطرانية، وعين نائبا بطريركيا في القدس لطائفة الروم الكاثوليك ثم بطريركا. وكان الوحيد من بين رجال الدين الذي رفض حضور الاحتفالات والاستقبالات الرسمية التي تنظمها السلطات الإسرائيلية. وفي يوم وفاة جمال عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر عام 1970 توجه إلى جميع الأساقفة في القدس طالبا منهم رفع الأعلام السود فوق مقارهم، وقرع الأجراس في أثناء جنازته.

وجاءت حرب حزيران/ يونيو عام 1967، لتكون نقطة التحول في حياة المطران كابوتشي خصوصا بعد أن دفن بيديه، بصحبة بعض الرهبان والراهبات، أكثر من 400 شهيد مقدسي، سقطوا نتيجة للغزو الإسرائيلي على القدس، وقد قال في مذكراته، التي نشرت بعد وفاته، بأنه صلى مع شيخ مسلم على هؤلاء الشهداء.

بعد أن رأى المطران الانتهاكات الإسرائيلية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وانتهاكهم الأراضي والمقدسات، لم يستطع أن يبقى على الحياد، وبدأ دوره كرجل وطني معارض للاحتلال الإسرائيلي، فانضم إلى المقاومة الفلسطينية، وأسس أول خلية فدائية في القدس.

كان كابوتشي من سكان شرق القدس المحتلة، ولم يمنعه المنصب الديني الذي تقلده من الخوض في مجال تهريب الأسلحة للمقاومين الفلسطينيين مستندا على حرية الحركة الممنوحة لرجال الدين.

وبناء على معلومات استخباراتية، فقد بدأت السلطات الإسرائيلية بمراقبته، وبينما كان عائدا بسيارته المرسيدس إلى بطريركية القدس للروم الكاثوليك، أوقفته الشرطة الإسرائيلية وأخضعته للتفتيش، وعثرت في سيارته على أربعة رشاشات كلاشينكوف ومسدسين وعشر قنابل وعدد من مخازن الذخيرة وآلاف الطلقات وقوالب مواد ناسفة وأجهزة توقيت ومشعلات كهربائية.

سمحت الشرطة له بالعودة إلى منزله من دون أن يغادره، وما لبثت أن عادت واعتقلته متذرعة بأن المطران الذي يحمل جواز سفر دولة الفاتيكان لا يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، لأن الفاتيكان "لا يعترف بدولة إسرائيل"، فأعادت اعتقاله في 18 آب/ أغسطس عام 1974 بناء على أوامر رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك إسحق رابين.


                             المطران كابوتشي لحظة اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال.

وجهت له لائحة اتهام تتضمن: نقل أسلحة والاحتفاظ بها بصورة غير قانونية، وتقديم خدمات لمنظمة غير قانونية (فتح)، وإجراء اتصالات بعميل أجنبي (خليل الوزير/ أبي جهاد). وقالت الاستخبارات الإسرائيلية إن كابوتشي التقى في بيروت كلا من "أبي جهاد" ومصطفى عيسى (أبي فراس) من القطاع الغربي، وأنه نقل الأسلحة مرارا إلى الفدائيين، وأن الأسلحة استخدمت لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال.

وحكم عليه بالسجن 12 عاما ونقل إلى سجن الرملة، ووضع في زنزانة نتنة وتعرض لكافة أساليب الضغط والتعذيب النفسي، كما أنهم أخذوا لباسه الكهنوتي، وحرم من كتاب الصلاة، ومن إقامة القداس. ما دفعه إلى الإضراب عن الطعام عدة مرات في معتقله. لكنّ زملاءه الأسرى قدموا له الدعم باستمرار، فقد قاموا بخياطة لباس كهنوتي له، وقاموا بتهريب رسائل كتبها في سجنه، ليتم نشرها في الصحف.

حظيت قضيته بتغطية إعلامية واسعة، وشغلت الرأي العام العالمي، واكتسب التعاطف الشعبي والرسمي.

وبطلب من الفاتيكان أُفرج عنه في عام 1977 وجرى إبعاده وألا يسمح له بالعودة إلى فلسطين أو لبنان أو سوريا، فرفض بنود الاتفاق، لكنه لم يتمكن من إبطاله، فانتقل إلى الفاتيكان، وعينه البابا قاصدا رسوليا للكاثوليك في أمريكا اللاتينية، فامتثل للأمر البابوي، لكنه اشترط ألا تتخطى إقامته في تلك البلاد الثلاثة أشهر. ولما طالت المدة، اتصل بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وأطلعه على حاله، فقال له: "ما دمت مواطنا سوريا، عد إلى وطنك على مسؤوليتي". فعاد إلى دمشق، وشارك في أعمال المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في دمشق عام 1979.

وعلى الرغم من وعود حاضرة الفاتيكان وبخلاف تعليماتها إليه أصبح كابوتشي من دعاة القضية الفلسطينية في أنحاء العالم. واستقال من منصبه كزائر رسولي للكاثوليك في أمريكا اللاتينية عام 1999، ليعيش متنقلا بين الفاتيكان وسوريا ودول العالم.

وفي عام 1990، سافر إلى العراق للتوسط في إطلاق سراح 68 إيطاليا كانوا ممنوعين من مغادرة البلاد عقب دخول القوات العراقية الكويت.

وبعد 10 سنوات من ذلك، رأس المطران كبوجي وفدا من رجال الدين والمثقفين سافر إلى العراق للتضامن معه ضد العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليه.

وكان على متن سفينة "الأخوّة" اللبنانية في عام 2009 التي أبحرت صوب قطاع غزة لكسر الحصار فاعتقلته السلطات الإسرائيلية في عرض البحر، وأبعدته إلى سوريا عبر بوابة الجولان. واعتقل مجددا في عام 2010 بينما كان يشارك في "أسطول الحرية" المتوجه إلى ميناء غزة لفك الحصار عن القطاع، وأبعد إلى الأردن ومنها عاد إلى سوريا .

بقي مناضلا مدافعا عن فلسطين وعن شعبها حتى أعلن الفاتيكان في اليوم الأول من عام 2017 عن وفاته في العاصمة الإيطالية روما عن عمر ناهز الـ94 عاما.

نقل الجثمان لاحقا إلى لبنان حيث أقيمت مراسم دفنه في منطقة الربوة في المتن الشمالي، ثم نقل إلى دير المخلص للرهبانية الباسيلية الحلبية في صربا جونيه حيث دفن بجانب والدته في لبنان، تنفيذا لوصيته.


                                           في مراسم وداع المطران كابوتشي

لم يكن المطران هيلاريون كابوتشي أول مطران عربي كاثوليكي يدخل السجون الإسرائيلية، ثم يطرد من بلاده.. فقد سبقه المطران غريغوريوس حجار، والذي يعرف بـ"مطران العرب" الذي مات قتلا على الأرجح في عام 1940 بعدما ذاع صيته الوطني في ثورة 1936 الفلسطينية الكبرى. وفي عام 1962 اعتقلت السلطات الإسرائيلية الكاهن المصري يواكيم الأنطوني بتهمة التعاون مع الأردن، ثم أبعدته. وفي 1963 اعتقلت الاستخبارات الإسرائيلية القس إيليا خوري، بتهمة "التعاون مع جماعات فلسطينية معادية لإسرائيل"، وطردته من كنيسته ودياره. وغيرهم الكثير من رجال الدين المسيحيين.

كرم كابوتشي في أكثر من دولة عربية مثل السودان ومصر وليبيا والعراق وسوريا والكويت التي أصدرت طابعا بريديا يحمل صورته، وأطلقت مدينة رام الله اسمه على أحد شوارع المدينة. وقلده رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وسام نجمة القدس عام 2013 في روما.

وعرض في عام 2020، مسلسل درامي يحكي سيرته بعنوان "حارس القدس" وقام بدوره الفنان رشيد عساف، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج في سوريا ومن إخراج باسل الخطيب.

وكان الفنان المصري الراحل، فاروق الفيشاوي عبر عن رغبته الشديدة في تجسيد دور المطران كابوتشي، الذي يعتبره نموذجا للمقاومة والتقريب بين الأديان والمذاهب المختلفة.


                                                              كبوجي ـ بورتريه

ونشرت مذكرات المطران ومسيرته النضالية كما يرويها الصحفيان اللبنانيان أنطوان فرنسيس وسركيس أبو زيد.

وستبقى كلمات كابوتشي التي قالها وهو في السجن محفورة في الذاكرة الفلسطينية والعربية. فقد قال ذات يوم: "بصقوا عليّ، لكن رأسي سيظل مرفوعا وعاليا (...). أنا عربي من القدس عانيت كما عانى المسيح في سبيل السلام والعدل (...). ليبعدوني، فسأقيم في خيمة مع اللاجئين على حدود فلسطين".

وأضاف: "أنا سوري المولد، فلسطيني الهوية، قلبي في لبنان، وعربي الانتماء، وحرصت ألا أستقر في بلد عربي دعيت للإقامة فيه، لأنني التزمت المنفى حتى تحرير القدس لأكون ضمن حق العودة لكل الشعب الفلسطيني".

المصادر

ـ صقر أبو فخر، هيلاريون كبوجي ولاهوت التحرير العربي: باسم المسيح قاوم الاحتلال، العربي الجديد،4/1/2017.
ـ صحيفة "النهار"، بيروت، 15 /3/ 1976.
ـ محمد علي فقيه، "ذكرياتي في السجن": في ذكرى رحيل المطران كبوجي، الميادين، 30/12/2018.
ـ مجلة "شؤون فلسطينية"، العدد 38، بيروت: تشرين الأول/أكتوبر 1974.
ـ نسرين نعيم البرغوثي، هيلاريون كبوجي.. المطران الثائر، الجزيرة نت، 29/4/2020.
ـ وفاة مطران القدس المنفي هيلاريون كبوشي عن عمر ناهز 94 عاما، بي بي سي، 1/1/2017.
ـ جيهان فوزي، المطران "هيلاريون كابوتشى".. أيقونة المقاومة الفلسطينية، صحيفة الأهرام،  27/2/2018.
ـ مسلسل سوري يجسد حياة المطران كابوتشي، عربي21، 12/9/2019.
ـ هيلاريون كابوتشي، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا).
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم