قضايا وآراء

روسيا والعالم.. ولحظة بوتين العميقة جدا!!

هشام الحمامي
جاءت لحظة بوتين- جيتي
جاءت لحظة بوتين- جيتي
في وقت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والغرب الأورو/ أمريكي (1947-1991م) انتشرت بين الناس نكتة تقول أن يورى جاجارين (ت: 1968م) حين رجع من رحلته إلى القمر سنة 1961م قابل الرئيس الروسي خروتشوف (ت: 1971م) الذي سأله عما رأى على القمر، فقال له لقد ثبت لي أن الله موجود وأن هناك حياة بعد الموت، فقال له خروتشوف هامسا: أعلم.. أعلم ولكن لا تخبر أحدا بذلك..!!

ثم ذهب جاجرين لمقابلة بابا الفاتيكان بعدها والذي استقبله ورحب به.. وحكى له جاجارين عن رحلته وقال له أن لقد ثبت لي أن الله موجود.. وأن هناك حياة بعد الموت فقال له البابا هامسا: أعلم.. أعلم ولكن لا تخبر أحدا بذلك!

والمعنى واضح في النكتة ويكشف لنا جزءا من مما يحدث باتفاق وترتيب بين روسيا والغرب الأوروبي.. لا نرى ولن نرى جذوره العميقة، سنرى فقط فروعه وأغصانه.. وهو ما يحدث حولنا حتى يوم الناس هذا، مع تبديل وتنويع وتجديد وتغيير في العزف على أوتار التاريخ بكل الألحان "المطلوبة".

يكشف لنا جزءا من مما يحدث باتفاق وترتيب بين روسيا والغرب الأوروبي.. لا نرى ولن نرى جذوره العميقة، سنرى فقط فروعه وأغصانه.. وهو ما يحدث حولنا حتى يوم الناس هذا، مع تبديل وتنويع وتجديد وتغيير في العزف على أوتار التاريخ بكل الألحان "المطلوبة"
* * *
روسيا التي أريد لها بإرادة صلبة وخفية وعازمة بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) أن يكون لها دور تاريخي بعينه.. في فترة تاريخية بعينها.. وبأفكار وأيديولوجيا بعينها.

والمفارقة الطريفة أن تلك الأفكار والأيديولوجيا، لم تكن لها أي علاقة بالبيئة الروسية الأصلية، إذ كان من المنطقي والطبيعي أن تترعرع هذه الأفكار في البيئة الصالحة لاحتضانها ورعايتها، وهي بيئة المصانع والعمال التي لم تكن إلا بريطانيا تلك البيئة، بل ونموذجها الأمثل فهي "قلب الثورة الصناعية"..

لكن في ظروف غامضة للغاية، انتقلت تلك الأفكار إلى روسيا.. صحيح كان الشعب الروسي يئن ويعانى وعلى وشك أن يثور، لكن تشخيص أوجاعه وآلامه لم تكن له أي صلة بما تم لها من معالجة، من خلال أفكار ماركس ولينين وأوهام تصنيع الإنسان والمجتمع والطبيعة!!..

سنكتشف ذلك ونعرفه بوضوح شديد وبساطة متناهية من مجرد إطلالة بسيطة للغاية على ما كتبه الأدباء والمفكرون الروس فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كمقدمة وإرهاص لتغيير ضروري قادم وعلى وشك الحدوث.. وهذا صحيح وفعلي ومصداق لمن قال إن الأدب هو التاريخ الخاص للشعوب..

وستتم أكبر سرقة تاريخية لثورة وحلم وكفاح طويل، كما سُرق معطف الموظف البائس "أكاكى أكاكيفيتش" ذات ليلة عاصفة، وهو الذي أضنى عمره كله في جمع ثمنه، في اشهر الأعمال الروائية الروسية للكاتب الكبير نيقولاي جوجول (ت: 1852م) رواية "المعطف"..

وليصدق بالفعل من قال "كلنا خرجنا من معطف جوجول" ولتفتح الجملة من صدقيتها على تأويلات عديدة، منها ما نتحدث عنه في المقال.. وليس فقط ما عناه الأديب الذي قالها في سياق الشهادة بأستاذية الأديب جوجول له ولجيله.

* * *
تقول الحكاية التي ستكشف لنا عن ألف حكاية وحكاية أنه في عام 1922م أنشأ المفكر الروسي الكبير نيقولا برديائيف (ت: 1948م) ما أسماه: الأكاديمية الحرة للعلم الأخلاقي والثقافة الروحية.. وذلك ضمن نشاطه الواسع وقتئذ لحماية أمته من تلك الأفكار المدمرة للإنسان، التي قدمت مع الثورة البلشفية سنة 1917م.. وذلك بنشر خطة تعليمية واسعة النطاق عن الدين والعلم.

كان الهدف الرئيس للأكاديمية التأكيد على أولوية القيم الروحية في الإنسان.. فالروح هي المبدأ الحيوي والأساسي في حقيقة "الشخصية الإنسانية"، ومصدر كل ما هو قوى وإنساني وغير ظاهر في الإنسان (الإرادة الحرة.. الكرامة.. الخ).

كان برديائيف، رغم ثورته على الكنيسة الروسية واتهامه لها في العهد القيصري بأنها أصبحت أداة في يد السلطة القيصرية (تم نفيه إلى سيبيريا سنة 1898م)، طوال عمره مخلصا للكنيسة الأرثوذكسية، وكان الأمل يحدوه دائما في أن يسترد الشعب الروسي روحه الحقيقية الخالصة، بل ويؤدي رسالته في توجيه الجنس البشري كله إلى الفكرة الروحانية، والتخلص من أي أغلال مركزية تقيده: الكنيسة.. الدولة.. علماء الدين.. الخ.

* * *
كانت رسالة برديائيف العميقة والنهائية هي إنقاذ الضمير الديني في بلاده من الاغتراب، اغتراب الروح عن الروح.. إذا جازت الصياغة، وذلك بتأسيس "الإيمان" على صخرة التجربة الشخصية.. كما قال.. لا على رمال اللاهوت والمنطق والجدل وتلك الأفكار التي تم إقحامها من علماء الدين على أفكار الجوهر الروحي للدين، أيضا على الطبيعة الروحية للبشر.

وأخذ الرجل يشرح لرواد الأكاديمية التي لاقت إقبالا من الناس بطبيعة الحال، والذين كان أغلبهم من العمال والبسطاء والعاديين من الناس.. أخذ يشرح لهم أفكار الفيلسوف الألماني (شبنجلرت/ 1936م) عن معنى التاريخ وعن توقعاته باندحار الحضارة الغربية.. وعن فلسفة الحضارات ومصير الإنسان، والروح والواقع.. وأفكار الروائي الكبير ديستويفسكى (ت: 1881م) وتصوراته عن العالم والإنسان، وقد كان له تعلق خاص وقوى بأفكار هذا الكاتب الكبير، خاصة فيما يتعلق بخطورة غياب الاعتراف بكرامة وقيمة الشخصية الإنسانية، والتي أنكرتها الثورة البلشفية تماما..

فما كان من جريدة برافدا وقتها إلا أن نشرت مقالا رئيسيا في أحد أعدادها عن "الدعاية الدينية" التي يقوم بها برديائيف، وأن مثل هذه الأعمال يجب أن توقف فورا.. سيعمل كثير من الصحفيين والمثقفين مع أجهزة الدولة القمعية التي كانت أقوى ما في الدولة وقتها.. وستستمر كذلك إلى أن تأتي "لحظة بوتين" وتتحول الدولة كلها إلى محض جهاز قمعي يرتدي رداء الدولة!!.. وسيستمر المثقفون أيضا كذلك.. وللطرافة سيصفهم الزعيم الروسي لينين (ت: 1924م) وقتها بأنهم أقرب الناس إلى الخيانة..!!

* * *
الحاصل أنه تم استدعاء مفكرنا الكبير والتحقيق معه، وبدلا من أن يتخذ الرجل موقف الدفاع عن نفسه خوفا وهلعا، إذا به ينتفض قائلا للمحقق: "أرجو أن تضع نصب عينيك أن كرامتي كمفكر وكاتب تقتضي منى أن أكون حرا في طرح أفكاري"، وأخذ يتحدث لمدة ساعة عن معارضته الدينية والأخلاقية والفلسفية لفكرة الشيوعية من أولها لآخرها.. فلم يرد عليه المحقق بكلمة واحدة، وأنهى الإجراءات قائلا له: "سأطلق سراحك، ولكن لن تستطيع مغادرة موسكو دون إذني"..
سيكون علينا هنا أن نفتح لـ"المؤامرة" أوسع أبوابها، ونحن نتوسع في دائرة المعنى للفكرة الأولى التي قامت عليها وبها ولها ثورة البلاشفة في بداية القرن الماضي 1917م، والتي تحولت فيها الدولة إلى "مطرقة" وتحول فيها الناس إلى "سندان".. وذلك حين نمعن النظر والتأمل ونحن نتابع ونكمل السنة الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا في القرن الحالي (2022م).. لتزداد "لحظة بوتين" تمددا واتساعا، تمهيدا للأسوأ الذي لم يأت بعد

وشرح الرجل لأصدقائه بعدها أن سبب الإفراج عنه وقتها كان بسبب أن النشاط العدائي للسلطة الجديدة كان منصبّا في ذلك الوقت على الخصوم السياسيين والعسكريين، أكثر منه على الخصوم المفكرين.. الذين لم يتلبثوا إلا قليلا حتى كانوا هم الثور الأحمر بعد الثور الأبيض.. وبالفعل يتم نفي برديائيف إلى ألمانيا التي سيغادرها بعدها إلى باريس ليعيش ويموت فيها..

سيحدثنا برديائيف في مذكراته "الحلم والواقع" التي ترجمها الأستاذ فؤاد كامل رحمه الله (ت: 1995م).. عن تهافت "المثقفين" على احتلال المناصب الحكومية في دولة القمع الجديدة.. وتحول "المناضلين" في سبيل الحرية بين يوم وليلة إلى انتهازيين مستغلين!!.. بدلا من أن يقوموا بدورهم المنشود في أن يعيدوا للحياة قيمتها، وللإنسان الروسي مجده الضائع!!

وسيكون علينا هنا أن نفتح لـ"المؤامرة" أوسع أبوابها، ونحن نتوسع في دائرة المعنى للفكرة الأولى التي قامت عليها وبها ولها ثورة البلاشفة في بداية القرن الماضي 1917م، والتي تحولت فيها الدولة إلى "مطرقة" وتحول فيها الناس إلى "سندان".. وذلك حين نمعن النظر والتأمل ونحن نتابع ونكمل السنة الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا في القرن الحالي (2022م).. لتزداد "لحظة بوتين" تمددا واتساعا، تمهيدا للأسوأ الذي لم يأت بعد.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)