قضايا وآراء

وأخيرا "عاد" غسان كنفاني إلى أرضه

حجاي إلعاد
شكلت كتابات كنفاني وعي كتير من الفلسطينيين- جيتي
شكلت كتابات كنفاني وعي كتير من الفلسطينيين- جيتي
إذا مررت بإحدى المكتبات الإسرائيلية هذه الأيام فإنك على الأرجح ستلحظ كتابا جديدا عن واحد من أعظم الكتاب الذين عرفتهم هذه الأرض، كاتب لا تزال أعماله تؤثر في ملايين الأشخاص. إنه الكتاب الأول باللغة العبرية عن غسان كنفاني، الكاتب الذي لا تزال تعتبره إسرائيل إرهابيا.

كان كنفاني، المولود في عكا في العام 1936، قد ترك وطنه إبّان النكبة الفلسطينية وهو في سن 12 عاماً، "وعندما وصلنا صيدا في العصر، صرنا لاجئين"، كما كتب في سيرته الذاتية "أرض البرتقال الحزين".

وقد اغتيل كنفاني في بيروت قبل خمسين عاماً، مع ابنة أخته لميس التي كانت في السابعة عشرة من عمرها. كان في السادسة والثلاثين من عمره لدى اغتياله ولم يتمكن من العودة مطلقا، لكنّ كتاباته، كما صورته على غلاف هذا الكتاب السلس (للصحفي الإسرائيلي داني روبنشتاين) بقيت حاضرة. ومن شأن قراءة كلمات كنفاني أن تشكل مفتاحاً لجمع الخيوط التي تفضّل أغلبية اليهود بقاءها ضائعة: "لقد كنا أنا وأنت ومن في جيلنا صغاراً على أن نفهم ماذا تعني الحكاية من أولها إلى آخرها.. ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط تتوضح" (أرض البرتقال الحزين).

يقدم الصحفي داني روبنشتاين في كتابه للقارئ العبري فكرة تُعتبر هدّامة تماما في ظل المناخ السياسي الحالي في إسرائيل: إن المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني لا تنبع من "معاداة للساميّة بالفطرة"، وإنما هي تستند إلى دوافع حقيقية وسياسية

يقدم الصحفي داني روبنشتاين في كتابه للقارئ العبري فكرة تُعتبر هدّامة تماما في ظل المناخ السياسي الحالي في إسرائيل: إن المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني لا تنبع من "معاداة للساميّة بالفطرة"، وإنما هي تستند إلى دوافع حقيقية وسياسية. فكرة أن تاريخ السنوات المئة الماضية -وخصوصا ما يتعلق بالمشروع السياسي لليهود في فلسطين- يمكن ربطه موضوعيا بالمقاومة الفلسطينية لهذا المشروع تبدو أمرا تافها، لكنّ إسرائيل غارقة بعيدا جداً في دعايتها الخاصة، والاعتداد بالنفس ولعب دور الضحية، عندما تجترّ كذبتها بأن الأمر هو مجرد معاداة للسامية من جانب الفلسطينيين، ترفض اليهودية في حد ذاتها، وتعمل ضد اليهود "لمجرد كونهم يهودا فقط". وهذا في سياق تقويض المقاومة الفلسطينية ضد مشروع سياسي محدد لقسم (كبير) من اليهود: الصهيونية.

لم يكن آباء الصهيونية في حاجة إلى هذا الهراء الدعائيّ، لقد كانوا أكثر لباقة بكثير في فهمهم للمقاومة الفلسطينية. في كتابه "الجدار الحديديّ" (1923)، كتب زئيف جابوتنسكي: "انظر فيما إذا كانت هناك حالة واحدة لأي استعمار يمكن أن يتم بموافقة السكان الأصليين. ليست هناك أي سابقة". وحيث أن السكان الأصليين لا يمكن أن يوافقوا، فعلى الأرجح سيكون هناك "اقتحام بالقوة" لتحقيق الوعد الصهيوني، رغم الطبيعة "الأخلاقية والعادلة" للحركة.. العدالة "ينبغي تحقيقها"، كما يقول جابوتنسكي، "بغض النظر عن موافقة جوزيف أو سيمون أو إيفان أو أشميت، من عدمها".

في هذه النقطة تحديداً، كان بن غوريون متفقاً بالتأكيد مع جابوتنسكي: "نحن وهم نريد الشيء نفسه: كلانا نريد أرض إسرائيل. وهذا تناقض أساسي لم يحصل في التاريخ بعد، ولا أعتقد أنه سيحصل في التاريخ لاحقاً؛ أن يتنازل شعب طوعاً عن أرضه -هم يعتقدون أن هذه أرضهم- ليتيح دخول شعب آخر إليها" (1936).

كتب كنفاني عن "الطلقات البعيدة"، تلك الطلقات التي لا تزال تتردد أصداؤها منذ 74 عاماً حتى يومنا هذا وستتردد في المستقبل أيضا. يعيد روبنشتاين القارئ إلى أحداث نكبة العام 1948، وهي الأحداث التي شكلت نتائجها وعي كنفاني، وكتاباته، وحياته وموته. نقرأ عما اقترفناه بحق الفلسطينيين في اللد في تموز/ يوليو 1948، وعن طرد عشرات الآلاف، وقد سمع (روبنشتاين) مباشرة من إسرائيليين وفلسطينيين كانوا هناك.

هذا ما يقوله أحد الإسرائيليين عما حدث يوم 12 تموز/ يوليو 1948: "سكان اللد لم يغادروا طوعاً. لم يكن بالإمكان تجنب استخدام القوة وطلقات التحذير من أجل دفع السكان إلى السير مسافة 15-20 كيلومتراً حتى النقطة التي التقوا فيها بقوات الفيلق (العربي)".

وهذا ما يقوله أحد الفلسطينيين الذين يقتبس عنهم روبنشتاين: "كانت ساعة ظهيرة، حر شديد. لم يكن هنالك ماء. المسنون والأطفال كانوا يسقطون على جانبيّ الطريق. كثيرون أصيبوا بالجفاف وماتوا.. أيام الرعب في اللد لم تفارقني طوال حياتي.. 30 ألف إنسان يمشون، يبكون.. يصرخون مذعورين.. نساء مع رُضّع، وأطفال يسحبونهم خلفهنّ".

غالبية الإسرائيليين يعرفون اسم كنفاني في السياق السياسي، وبشكل أساسي بوصفه الناطق الأبرز بلسان الجبهة الشعبية. أما لدى الفلسطينيين، فيتذكرون كنفاني بداية وغالبا بسبب أعماله الأدبية. فكتاباته غارقة في السياسة وشكلت آراء العديد من الفلسطينيين

الإسرائيلي (صاحب الرواية هنا) هو قائد "لواء هرئيل" آنذاك، إسحاق رابين، وهو الشخص الذي أصدر الأمر. أما الفلسطيني فهو طالب الطبّ آنذاك، جورج حبش، مؤسس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" لاحقاً، وهو الشخص الذي ارتبطت حياة كنفاني به حتى يوم مماته، منذ العام 1969، حين أسس كنفاني مجلة "الهدف" الناطقة بلسان "الجبهة" ثم بقي محرراً لها طوال ثلاث سنوات.

ويؤكد روبنشتاين أن غالبية الإسرائيليين يعرفون اسم كنفاني في السياق السياسي، وبشكل أساسي بوصفه الناطق الأبرز بلسان الجبهة الشعبية. أما لدى الفلسطينيين، فيتذكرون كنفاني بداية وغالبا بسبب أعماله الأدبية. فكتاباته غارقة في السياسة وشكلت آراء العديد من الفلسطينيين.

يقدم روبنشتاين مسارا تاريخيا لكنفاني، يتتبع حياته كلاجئ في دمشق، كمعلم في الكويت، كصحفي في بيروت، وككاتب، ليستعرض كتاباته في السياق، مع تركيز خاص على اثنين من أعماله: "عائد إلى حيفا" و"رجال في الشمس". والعبارة المشهورة من الرواية الأخيرة، "لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟"، هي عنوان كتاب روبنشتاين.

في هذا التصوير عن قرب، ومع كل فصل من حياة كنفاني وكل فصل من كتاب روبنشتاين.. "تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها خلفه من أجل اليهود" (أرض البرتقال الحزين).

هذا التصوير عن قرب، ومع كل فصل من حياة كنفاني وكل فصل من كتاب روبنشتاين.. "تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها خلفه من أجل اليهود"

ما بين الأدب والواقع، ظلال ومرايا، يتردد الصدى بين الواحدة والأخرى، من صفحة إلى أخرى. يشير روبنشتاين إلى كيف قُتل أول عنصر من حركة "فتح" في 1 كانون الثاني/ يناير 1965، خلال عملية اقتحام من الأردن إلى إسرائيل بغية تخريب "الناقل الوطني"، وهو خط أنابيب المياه الرئيس. فقد نجح أحمد موسى في العبور إلى إسرائيل، لكن لدى محاولته العبور مجددا -العودة إلى الأردن- قتل برصاص الحراس الأردنيين. كان كنفاني قد أصدر روايته "رجال في الشمس" قبل ذلك بسنتين، في العام 1963. أبطال الرواية أبو قيس وأسعد ومروان ينجون في العبور الأول للحدود، لكنهم يواجهون مصيرهم الفظيع في الثاني.

يعجّ الكتاب بالأجساد الممزقة، أحدها لشخصية من مجموعة قصصية لكنفاني صدرت عام 1960، "أبو عثمان، الذي يريد أن يُدفَن في أرض مسقط رأسه الرملة، ولذا فقد اختار البقاء تحت الحكم الإسرائيلي. لكن بعد أن قتل جنود إسرائيليون زوجته وابنته أمام ناظريه، فجّر نفسه في مقر القائد الإسرائيلي. بقي أبو عثمان في الوطن، لكن حلمه تحول إلى أشلاء.

وكذلك القصة الواقعية لجسد "ماهر حبيشة" من نابلس، التي تمزقت، بعدما فجر نفسه في حافلة منطقة الحليصة في حيفا عام 2001، قرب المكان الذي عاش فيه أبطال رواية "عائد إلى حيفا".

وبالطبع، هناك الجسد الممزق الشهير لكنفاني نفسه، الذي قُتل في تموز/ يوليو 1972 في بيروت. الصحف في ذلك الوقت أوردت أن 30 ألف شخص ساروا في جنازته التي أقيمت في منفاه الذي لم يعد منه مطلقا.

* مدير عام  مؤسسة "بتسيلم"
التعليقات (0)