قضايا وآراء

أي معنى للسيادة في ظل نموذج الدولة- الأمة التونسي؟

عادل بن عبد الله
"إسقاطه من باقي مكونات المنظومة لن يُنهيَ واقع التخلف والتبعية"- جيتي
"إسقاطه من باقي مكونات المنظومة لن يُنهيَ واقع التخلف والتبعية"- جيتي
بعيدا عن الاتهامات التي وجهتها السلطة للمعارضة -منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية- بالاستقواء بالخارج أو العمالة، وبعيدا عن مجازات الخطاب الانقلابي المتغنّي باستقلالية القرار السيادي والرافض للتدخلات الخارجية، فإن تفكيك الواقع التونسي يجعل من الصعب "تصديق" هذه السردية سواء قبل الثورة أو بعدها.

وإذا كانت العولمة قد أفقدت الكثير من الدول الكبرى جزءا من سلطتها وأسندتها إلى التكتلات الاقتصادية والمنظمات المالية العابرة للقارات، فإن بلدان "الهامش" -ومنها تونس- كانت قد تخلت أو أُجبِرت على التخلي عن جزء مهم من سيادتها منذ بناء ما سُمّي بالدول الوطنية بعد الاستقلال الصوري عن القوى الاستعمارية الكبرى. فوثيقة الاستقلال التونسي لم تكن في الحقيقة إلا وثيقة تعديل براغماتي للمشهد الاستعماري تحت ضغط التوازنات الجغرا-سياسية الدولية، تلك التوازنات التي جعلت الاستعمار المباشر خيارا لا عقلانيا، إذا ما قورن بكلفة الاستعمار غير المباشر أو ما يسمى بـ"الاستعمار الجديد".

نؤمن بأن أي محاولة للخروج من الأزمات الدورية التي تعرفها تونس، والتي يُمثّل الانقلاب الحالي أحد أشكالها، ستكون عملية عبثية ما لم تأخذ مسافة نقدية من "الخطاب الكبير"، أي الخطاب البورقيبي المؤسس للدولة-الأمة، وما لم تفكك الأساطير المؤسسة لسياساته وخياراته الكبرى داخليا وخارجيا، ونظام التسمية/ الهيمنة.

رغم فشل الأساس الأيديولوجي للاستعمار -أي تحديث الدول المستعمَرة- وهو الأمر الذي تشهد له كل الدراسات التاريخية المتعلقة بنسبة الأمية أو الفقر أو التفاوت الجهوي، والتبادل التجاري اللامتكافئ وغيرها خلال الحقبة الاستعمارية، فإن النخب الفرنكفونية التي حكمت تونس بعد الاستقلال استصحبت السردية الاستعمارية، وحوّلت فرنسا في خطابها الدعائي من "مستعمر" إلى "شريك استراتيجي".

ونحن نؤمن بأن أي محاولة للخروج من الأزمات الدورية التي تعرفها تونس، والتي يُمثّل الانقلاب الحالي أحد أشكالها، ستكون عملية عبثية ما لم تأخذ مسافة نقدية من "الخطاب الكبير"، أي الخطاب البورقيبي المؤسس للدولة-الأمة، وما لم تفكك الأساطير المؤسسة لسياساته وخياراته الكبرى داخليا وخارجيا، ونظام التسمية/ الهيمنة، الذي مكّن له في الأنفس والآفاق، والذي أصبح أكثر قداسة من المقدس الديني نفسه.

واقعيا، يمكننا اعتبار البورقيبية الخطابَ المرجعي للنخب التونسية قبل الثورة وبعدها (أي خلال لحظتي تأسيس الدولة ومأسسة الثورة)، بحكم عجز تلك النخب عن بناء سردية خاصة بالثورة. فالتجمعيون يعتبرون أنفسهم ورثة حزب الدستور البورقيبي، واليساريون يعتبرون أنفسهم الأطفال الشرعيين لبورقيبة ومشروعه التحديثي. أما حركة النهضة، فتعتبر نفسها –في سعيها لتَونسة خطابها والبحث عن شرعية تاريخية محلية- الجناح الثاني للحركة الدستورية بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحزب الدستوري القديم.

وفي ظل هذا السعي المحموم لاكتساب الشرعية من البورقيبية، كان الخاسر الأكبر هو "الثورة" التي أدارتها النخب المؤسسة بمنطق استمرارية الدولة، أي استمرارية الاحتكام إلى نظام التسمية البورقيبي وما كرّسه من تشريعات اقتصادية واجتماعية وثقافية؛ كان محصولها الدولة الريعية- الجهوية- الزبونية- الأمنية الخاضعة لفرنسا ووكلائها المحليين.

في ظل هذا السعي المحموم لاكتساب الشرعية من البورقيبية، كان الخاسر الأكبر هو "الثورة" التي أدارتها النخب المؤسسة بمنطق استمرارية الدولة، أي استمرارية الاحتكام إلى نظام التسمية البورقيبي وما كرّسه من تشريعات اقتصادية واجتماعية وثقافية؛ كان محصولها الدولة الريعية- الجهوية- الزبونية- الأمنية الخاضعة لفرنسا.

ربما يبدو القول بأن النخب التأسيسية قد أعادت تدوير البورقيبية دون أي مسافة نقدية، ضربا من التعميم أو من التلبيس الذي يناقضه النظام البرلماني المعدل والهيئات الدستورية والدور المركزي للأجسام الوسيطة، خاصة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات. فكل هذه "المكاسب" تتعارض جذريا مع الميراث البورقيبي القائم على النظام الرئاسوي وحكم الحزب الواحد وتدجين الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات. ولكنّ هذا الاعتراض مردود لعدة أسباب؛ لعل أهمها أن البورقيبية لم تكن مجرد نظام سياسي، بل كانت خيارا حضاريا مندرجا ضمن المدرسة "الكمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك)، مع ما عناه ذلك في الحالة التونسية من تكريس للدولة- الأمة والرابطة الوطنية (في مستوى الخطاب الدعائي)، والدولة التابعة بنيويا لفرنسا ووكلائها المحليين (في مستوى الواقع على مختلف الأصعدة اللغوية والتشريعية والاقتصادية والثقافية).

وبما أن سقوط رأس النظام بعد الثورة لم يؤدّ إلى سقوط المنظومة كلها برساميلها المادية والرمزية والبشرية، فإن تغيير شكل النظام أو توزيع السلطات و"تقنين" الأحزاب و"تحرير" المجتمع المدني والنقابات، لم يُؤدّ هو الآخر إلى حصول تطابق بين التمثيلية الشعبية أو الشرعية الانتخابية؛ وبين السلطة وركائزها الموروثة من عهدي المخلوع و"الزعيم". وهو ما أدى واقعيا إلى بقاء تونس رهينة البورقيبية وخياراتها التأسيسية، سواء في إدارة الداخل (على أساس ريعي- زبوني- أمني فرنكفوني يتخفّى وراء السردية الوطنية)، أو في مستوى علاقاتها الخارجية (على أساس العلاقات غير المتكافئة وغير العادلة بتفعيل مجازي "الشراكة" و"العلاقات التاريخية").

لقد كانت الثورة التونسية فرصة للتجاوز الجدلي للبورقيبية واستبقاء ما يقبل الاندراج في السردية الثورية المنادية بتحرير الإنسان والكيان -أي الدولة كلها-، ولكنها تحولت إلى أداة جذب إلى الوراء عندما وظّفتها العديد من الأطراف لحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة، ولتلهية الرأي العام عن قضاياه الحقيقية التي لا يمكن مقاربتها دون الانطلاق من واقع التخلف والتبعية، وفقدان مقومات السيادة في جميع أشكالها.

وهذا ما أخرج العائلات الريعية (الكليبتوقراطية) وحليفها البيروقراطي (أي النقابات التي هي في الحقيقة "خيمة" القوى الانقلابية) والمجتمع المدني (أي الملحقات الوظيفية بالمنظومة القديمة، التي هي في الحقيقة أقرب إلى الذراع الجمعياتي لفرنسا بتونس) من دائرة السجال العام عبر المساءلة والمحاسبة، بل حوّلهم إلى أوصياء على الإرادة الشعبية وعلى مسار الانتقال الديمقراطي برمّته، بشيطنة المجتمع السياسي والمؤسسات الدستورية وغيرها من الأجسام الوسيطة، خاصة منها تلك الأجسام غير المرضي عنه من فرنسا ووكلائها المحليين، التي قد تهدد النواة الصلبة للحكم ومصالحها غير المشروعة.

سقوط الانقلاب أو إسقاطه من باقي مكونات المنظومة (حتى تلك المكونات التي تتموقع في المعارضة)، لن يُنهيَ واقع التخلف والتبعية والخضوع لمراكز القرار الغربي، خاصة الفرنسي منها.

في التحليل الأخير، فإن الأزمات الدورية التي عرفتها تونس بعد الثورة، التي كان محصولها انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021، ليست إلا تجليات موضعية لأزمة بنيوية عميقة تجد جذرها في مفهوم الدولة- الأمة ذاته، وما انبنى عليه من سياسات "لا وطنية"؛ فشلت في بناء مقومات السيادة بمختلف أبعادها المادية والرمزية. وهو ما يعني أن سقوط الانقلاب أو إسقاطه من باقي مكونات المنظومة (حتى تلك المكونات التي تتموقع في المعارضة)، لن يُنهيَ واقع التخلف والتبعية والخضوع لمراكز القرار الغربي، خاصة الفرنسي منها.

فلا يوجد في تونس أي مشروع معارض يمتلك الجرأة أو القوة لإخراج الصراع من دائرة المنظومة القديمة ورهاناتها التي لا تخرج عن دور الوكيل للرأسمال المعولم والزبون لدى مؤسسات النهب الدولي، كما لا يوجد أي مشروع لطرح أسباب المرض الحضاري وتجاوز منطق "الترقيع" الذي لا محصول له إلا تأجيل الانفجار الشعبي أو الانحدار إلى وضعية الدولة الفاشلة، والمهددة بـ"كوميسيون مالي" جديد (أي لجنة مالية دولية تُنهي خرافة الاستقلال والسيادة وحلم "الثورة").

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)