مقالات مختارة

أفغانستان: بين خلط الأوراق وتشكل محور جديد

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

سيبقى ما حدث في أفغانستان في الأيام القليلة الماضية مثيرا للجدل والتحليلات والتنبؤات، بالإضافة للحيرة التي أصابت الكثيرين. كما ستكون تبعاته مزعجة لعدد غير قليل من الأطراف، خصوصا الذين اعتقدوا دائما بما قاله الرئيس المصري الأسبق أنور السادات؛ بأن أمريكا تملك 99 بالمائة من زوراق اللعبة السياسية، وقد ظهر أن الأمر ليس كذلك. يومها كان السوفيات متورطين في أفغانستان بدعم الحزب الشيوعي الحاكم برئاسة بابراك كارمال، وكانت فصائل «المجاهدين» تخوض معارك طاحنة بدون توقف، بينما كانت أمريكا تدعم بعض فصائلهم.

 

استمر «الجهاد» الأفغاني عشرة أعوام انتهت بانسحاب غير مشرف للسوفيات، ساهم في تفكك المنظومة الشيوعية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي. وقد عرف عن الأفغانيين بسالتهم في مقاومة المحتلين، ومن بينهم البريطانيون الذين خاضوا معهم ثلاث حروب انتهت باتفاقية بين الطرفين في العام 1919. ولن ينسى البريطانيون ثورة كابول في أيلول/سبتمبر 1879 التي أدت إلى ذبح السير لويس كافاغناري، الممثل البريطاني، إضافة لحراسه وموظفيه.

 

وكانت السنوات العشر اللاحقة (حقبة التسعينيات) مضطربة، حيث استطاعت حركة طالبان السيطرة على الحكم خمسة أعوام (1996-2001)، ولم تكن واشنطن قادرة على إدارة مرحلة ما بعد السوفيات. وكان من تداعيات تلك السياسة صعود تنظيم «القاعدة» بقيادة أسأمة بن لادن، منطلقة من جبال أفغانستان. ودفعت أمريكا ضريبة كبيرة لضعف إدارتها بلدا خرج «مجاهدوه» منتصرين على «قوة عظمى»، كانت تسابق أمريكا في الهيمنة السياسية والقوة العسكرية التقليدية والنووية. وشعر بعض أولئك «المجاهدين» أنهم قادرون على دحر أمريكا أيضا كما دحروا السوفيات. وكان ذلك الشعور جزءا من العقيدة السياسية لتنظيم «القاعدة» بزعامة أسامة بن لادن. وباغتياله بمنطقة «عبود آباد» في باكستان في العام 2011 اعتقد الأمريكيون أنهم حققوا انتصارا ساحقا في أفغانستان، ولكن التطورات الأخيرة أكدت عكس ذلك.

 

 

ويمكن اعتبار حوادث 11 سبتمبر (أيلول) بداية أفول العظمة الأمريكية. فكان رد البيت الأبيض استهداف حركة طالبان بعد أن رفضت تسليم ابن لادن وجماعته، إسقاط حكومتها. وطوال العقدين الأخيرين تواصلت حرب الاستنزاف بين قوات حلف الناتو بقيادة أمريكا ومعها بريطانيا من جهة، وحركة طالبان التي رفضت الحكومة في كابول التي كانت تحظى بدعم سياسي وعسكري من تلك القوات. وتفاقمت الخسائر المادية والبشرية لجميع الأطراف، فقتل حوالي 2500 أمريكي و 457 بريطانيا، و 66 ألفا من قوات الجيش والشرطة الأفغانيين 47 ألفا من المدنيين و52 ألفا من مقاتلي طالبان، بينما تجاوزت الخسائر المادية الأمريكية 60 مليار دولار. وبرغم حالة الإحباط بين الجنود الأمريكيين والبريطانيين الذين خدموا في باكستان، وكذلك بين عائلات القتلى من البلدين، تصر واشنطن ولندن أن التدخل الذي استمر عشرين عاما كان ضروريا وأنه حقق أهدافه بتدمير تنظيم «القاعدة». ولكنْ، ثمة شعور عام بأن الأمر لن يكون كذلك بعد انتصار طالبان، مع تعمق الشعور بخسارة أمريكا في العراق أيضا.


ماذا تعني الحقائق المذكورة؟ لعل أهم ما تنطوي عليه أنها أحدثت هزيمة نفسية للأمريكيين تفاقمت تدريجيا حتى أصبح لدى واشنطن اعتراف ضمني بضرورة الانسحاب لتقليل الخسائر وحفظ ما تبقى من ماء الوجه. وأدرك العالم أن أمريكا قد تملك قوة عسكرية مدمرة لا تضاهيها قوة أخرى في العالم، ولكنها لا تملك ما يوازيها من عقل راجح وتقدير سليم لموازين القوى على أرض الواقع، بالإضافة لافتقادها معايير وقيما إنسانية رفيعة. وقد ترسخت قناعة تدريجية لدى الرؤساء الأمريكيين بضرورة الانسحاب، بعد أن عجزوا عن خلق إدارة سياسية كفؤة في كابول. وجاء قرار الرئيس بايدن هذا الشهر سحب القوات الأمريكية بشكل نهائي، ليحدث هزة سياسية ونفسية صادمة للكثيرين، استفادت منها حركة طالبان.


وفي غضون أيام معدودة، اكتسحت قواتها الأقاليم الأفغانية كافة؛  فسقطت الحكومة التي كان يرأسها أشرف غني. ليس في هذه الحقائق ما يضيف لما أصبح معروفا لدى الرأي العام، ولكن ماذا عن تبعات ما حدث؟ الأمر الذي يتفق عليه الكثيرون أن تلك التداعيات لا تقل أثرا على مصداقية أمريكا عن حوادث 11 سبتمبر نفسها. الفرق أن الولايات المتحدة حظيت بتعاطف من حلفائها وأصدقائها آنذاك، بينما تتعرض لانتقاد متواصل هذه المرة. فقد نفذت قرار الانسحاب بدون التشاور مع أي من حلفائها، حتى البريطانيين. وكان لذلك أثره السلبي على الطرفين، فظهر أن الأمريكيين لا يعترفون بالآخرين حتى لو كانوا حلفاءهم، وبدا البريطانيون غير ذي قيمة لدى الأمريكيين.


وبعيدا عن ردود الفعل والتقييمات حول الجوانب الإجرائية في قرار الانسحاب الذي أدى لسقوط الحكومة المدعومة من الغرب، فهناك تداعيات غير قليلة على موازين القوى في العالم، منها ما يلي: أولا؛ أن أمريكا أكدت بقرارها تأكيد جنوحها نحو العمل الأحادي، ورفضها العمل الجماعي المشترك. ثانيها؛ أن سياسة الانكماش أفقدت أمريكا موقع القيادة العالمية الذي تشبثت به طوال الثلاثين عاما الأخيرة، أي منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ثالثها؛ أنها فقدت المبادرة في التصدي للإرهاب، وأحدثت خللا نفسيا لدى عائلات ضحاياها. رابعها؛ أنه أضعف موقعها كحليف استراتيجي للدول الغربية، بتجاهلهم في القرارات الكبيرة وغياب التنسيق السياسي معهم. خامسا؛ أن ما جرى أحدث خللا في التحالفات الإقليمية، إذ بدا المحور الذي تقوده أمريكا ويضم تحالف قوى الثورة المضادة و«إسرائيل» هشا، بينما ظهر توجه لمحور بديل مضاد له في السياسات يضم دولا إقليمية وتوجهات أيديولوجية، بالإضافة لروسيا والصين.


لقد أحدثت التطورات الأفغانية «انقلابا» سياسيا كبيرا في العلاقات الإقليمية أيضا؛ فمثلا لم يعترف بحكومة طالبان عندما احتلت كابول في أيلول/سبتمبر 1996 سوى ثلاث دول: باكستان والسعودية والإمارات. هذه الدول، في ما عدا باكستان، فقدت حظوتها لدى طالبان واستبدلت بدول إقليمية أخرى. باكستان التي بقيت قريبة من طالبان، أصبحت عنوانا لخيارات وتحالفات إقليمية مختلفة بتقاربها مع إيران وتركيا، اللتين شعرتا بارتياح لخروج أمريكا من أفغانستان واعتباره هزيمة لها ولحلفائها الإقليميين. وبينما خرجت الإمارات التي أسست انبعاثها السياسي الحالي على أرضية التوسع وفرض الوجود بسياسات غير مسبوقة، تراجعت علاقاتها مع طالبان.

 

بينما دخلت قطر على الخط في العقدين الأخيرين، واستضافت لقاءات وحوارات بين طالبان والولايات المتحدة، فأصبحت حليفة لأفغانستان في ظل حكم طالبان. ويبدو أن قطر ساهمت في جوانب عديدة: أولها؛ الضغط على طالبان لتغيير سياساتها وأولوياتها وسمعتها لتكون أكثر قبولا لدى الآخرين، ثانيها؛ أنها خففت من النزعة الدينية والمذهبية والتشدد لدى طالبان، وهي خطوات أدت إلى تعاون مباشر مع إيران. ثالثا؛ أنها ساهمت في تغيير موازين القوى الإقليمية، ودفعت نحو تحالف إقليمي يضم باكستان وتركيا وإيران. رابعا؛ أنها على عكس الإمارات، لم ترفع راية العداء لما يسمى «الإسلام السياسي» الذي تمثل طالبان أحد وجوهه، بعد أن أحدثت تعديلا على أيديولوجيتها السياسية، الأمر الذي دفع بعض الوجودات المحسوبة على الإسلام السياسي للترحيب بالتغيير الأفغاني، ومنها عدد من الحركات المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين مثل حماس. خامسا؛ أنها في الشهور الاخيرة كثفت تواصلها مع القوى الإقليمية مثل إيران، لتحقيق توافق إقليمي على إحداث تغيير في أفغانستان؛ ولذلك كان هناك استغراب شديد لعدم الاعتراض على وصول طالبان إلى السلطة خصوصا من إيران.


ماذا يعني ذلك؟ يبدو أن واقعا جديدا بدأ يتشكل في الإقليم يلملم الأطراف المحسوبة على «الإسلام السياسي» المناوئ للسياسات الأمريكية والإسرائيلية، وتجاوز أساليب التمزيق التي تعرضت لها الأمة الإسلامية في العقدين الأخيرين، خصوصا ترويج الطائفية والتماهي مع السياسات الأمريكية والتطبيع مع كيان الاحتلال.

 

نقلا عن "القدس العربي"

 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل