مقالات مختارة

حساب الخسارة في صفقة الإمارات وإسرائيل

مصطفى كامل السيد
1300x600
1300x600

ليس جديدا في السياسة العربية إقحام القضية الفلسطينية فيما تريد الحكومات العربية تمريره من سياسات.

وليس هذا بالمستغرب في عالم السياسة عموما، فرجال الحكم يعشقون رفع شعارات رنانة، وادعاء الاسترشاد بمثل عليا، فهم لا يريدون أن يستند حكمهم على مجرد التهديد بالحديد والنار، أو برشوة المواطنين من خلال خدمات تقدمها لهم حكوماتهم، وإنما هم يتطلعون إلى أن يكون استسلام المواطنين لحكمهم مستندا إلى توهم أن الحكام تحركهم أهداف نبيلة وأنهم حريصون على الاستجابة لاعتبارات أخلاقية سامية، هي وحدها التي دفعتهم لانتهاج سياساتهم في الداخل والخارج، وخصوصا عندما يشرعون في الأخذ بسياسات تتنافى مع ما كان المواطنون قد تعودوا منهم، وتتعارض مع خطاب كانوا يرددونه منذ عقود. بكل تأكيد لا غرابة في ذلك.

ولكن الجديد والمدهش حقا أن يستمر إقحام القضية الفلسطينية لتبرير سياسة دوافعها الأساسية أبعد ما تكون عن خدمة هذه القضية، بل ولا علاقة لها بالقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد. الجديد والمدهش هنا في حالة إعلان حكومتي الإمارات وإسرائيل عزمهما على التطبيع الكامل للعلاقات فيما بينهما.

إن الكل يعرف أن هذا التطبيع قد بدأ بالفعل منذ سنوات، وأن أسبابه التي يعرفها القاصي والداني لا تمت بصلة إلى القضية الفلسطينية. ويثير هذا المسلك الجديد للحكومات العربية وليس فقط لحكومة الإمارات سؤال واحد تتعدد له الإجابات: لماذا اللجوء إلى هذا الأسلوب؟ هل يتعلق ذلك بالتركيبة النفسية لبعض الحكام؟ أم أن هناك تفسيرات أخرى؟

قد يكون هناك تفسير في علم النفس لهذه المحاولة في التسامي، وهو أن ثمة شعورا دفينا بأن هناك خروجا على ما استقر من قيم لدى المواطنين، وأنه يصعب رفض هذه القيم، لأنها قيم مشروعة ونبيلة، ولذلك سوف يكون من العسير تنحيتها بادعاء أنها لم تعد صالحة للعصر، أو أنها ليست جديرة بالاحترام، بل إنه من المحرج كذلك الإقرار بالدوافع الحقيقية التي دعت إلى اتباع هذه السياسات المخالفة للمألوف، لأنها تظهر من أخذوا بها في صورة لا يحبون أن يخرجوا بها أمام مواطنيهم. بعض هذه الدوافع هي الخوف من جار قوى، وعدم الثقة في الأشقاء الذين كان يمكن أن يشكلوا عضدا رادعا في مواجهته، أو لأن من أخذوا بهذه السياسات ليسوا متأكدين في الحقيقة من صحة حساباتهم، ولذلك يجدون المخرج في التظاهر بأنهم شرعوا في اتباعها استجابة لتلك القيم العزيزة على مواطنيهم والشعوب المجاورة لهم.

هذا التفسير النفساني قد يكون افتراضا مكملا لعناصر أخرى في التفسير يمكن بدرجة أكبر التثبت من معقوليتها، ولكن قبل الشروع في طرح هذه العناصر الأخرى من الضروري البرهنة على أن لهذا التفسير النفسي ما يؤكده على أرض الواقع. الدليل على أن لهذا التفسير بعض الوجاهة أن الاتصالات بين حكومتي دولة الإمارات وإسرائيل معروفة لقراء الصحف، ولم تخف الحكومتان أنباء هذه الاتصالات، ومنها أخيرا هبوط طائرة لدولة الإمارات في مطار اللد بالقرب من تل أبيب، ومن عزم الدولتين على التعاون في مكافحة جائحة كورونا، وهو أمر لا يبرره سوى الرغبة في دفع التطبيع بينهما قدما للأمام، فإسرائيل نفسها قد أخفقت في مواجهة هذه الجائحة، وخرجت المظاهرات فيها تحتج على هذا الفشل، وتوجهت إلى مقر إقامة رئيس الوزراء. ولو كانت الإمارات تريد الاستفادة من جهود ناجحة في هذا المجال، فأمامها العديد من الدول ذات السجل الناجح من كوريا الجنوبية إلى ألمانيا أو الصين، ولكن حكومتها اختارت إسرائيل تحديدا لأنها تريد مبررا مقبولا لتعاونها مع إسرائيل، وهل هناك أفضل من إظهار الحرص على الحفاظ على صحة مواطنيها وسكانها؟

الدليل الثاني على وجاهة هذا التفسير أن مسألة وقف خطة الضم لمساحات من الضفة الغربية كانت قد تقررت فعلا بدون تدخل دولة الإمارات، ولم يكن السبب في ذلك هذا الخطاب الذي وجهه سفير الإمارات في الولايات المتحدة للرأي العام الإسرائيلي ومن خلال الصحافة الإسرائيلية يحذر فيها من أن هذا المخطط سوف يضع عقبات أمام تطوير العلاقات الإسرائيلية الخليجية. الصحافة الإسرائيلية ذاتها وصفت مخطط نتنياهو للضم بأنه مشروع خيالي، وقد توقف لأسباب داخلية وخارجية في إسرائيل. شريك حزب الليكود في الائتلاف الحكومي الذي تكون بصعوبة شديدة وهو حزب أزرق أبيض لم يكن موافقا على الضم، كما أن الإدارة الأمريكية لم تكن تحبذه في التوقيت الذي اختاره نتنياهو وبشروطه. وبالرغم من إغراء التطبيع الكامل للعلاقات مع دولة عربية خليجية لم يتخل نتنياهو عن القيام بالضم في وقت لاحق. كل ما التزم به هو وقف مشروع الضم وليس التخلي عنه نهائيا، وهذه هي الصياغة التي أعلنت في المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض الذي جرى فيه إعلان قرار التطبيع الكامل، وهو ما أكده بعد ذلك كل من نتنياهو وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل.

حساب المكاسب

هناك مكاسب يحققها الإعلان عن التطبيع الكامل للعلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل، ولكنها في معظمها مكاسب شخصية للرؤساء الثلاثة الذين شاركوا من خلال الاتصالات التليفونية في التمهيد لهذا الإعلان. أول المكاسب يحققها دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الذي يخوض معركة انتخابية صعبة يتفوق فيها منافسه جو بايدن في استطلاعات الرأي. هو قدم هذا الإعلان في المؤتمر الصحفي اعتباره انتصارا ضخما ما كان من الممكن الوصول إليه لولا جهده الشخصي، ويتصور أن ذلك النصر الدبلوماسي سيعزز موقفه في انتخابات الرئاسة، بل الأهم من ذلك كله أنه يريد بتحقيق هذا الاختراق أن يدعم فرصة حصوله على جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها سلفه باراك أوباما في الشهور الأولى لولايته، وهو، كما هو معروف، لا يريد أن يكون سجله كرئيس أقل من سجل أوباما في أي مجال وقد طرح مستشاره للأمن القومي بالفعل هذا المطلب.

المكسب الشخصي الثاني حققه بنيامين نتنياهو، فهو يظهر للإسرائيليين أنه أنجح رؤساء وزاراتهم على الصعيد الخارجي، له علاقات متميزة مع أبرز قادة العالم من فلاديمير بوتين إلى دونالد ترامب إلى مارندرا مودي، كما أنه هو الذي فتح أمام سفارات إسرائيل العديد من الدول الأفريقية، وهو الذي أعلمهم بلقاءاته مع العديد من القادة العرب، وها هو يتوج ذلك بالشروع في تبادل السفارات وخطوط الطيران والأفواج السياحية ليس مع أي دولة عربية، ولكن مع دولة عربية ثرية يسيل للتعاون معها لعاب رجال الأعمال الإسرائيليين. صحيح أنه سوف يواجه معارضة من أنصار الضم من الأحزاب اليمينية وخصوصا المستوطنين الذين يتمتعون بوجود بارز في الكنيست وفى الحياة السياسية، ولكن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل تشير إلى أن الذين يعترضون على الضم يمثلون نسبة عالية من المواطنين. التطبيع مع دولة عربية أخرى ليس فقط مكسبا شخصيا لنتنياهو ولكنه مكسب لإسرائيل وللمشروع الصهيوني الذي يبدو مقبولا بل وموضع إعجاب من قطاع مهم من العرب وخصوصا في الخليج.

ولا شك أن الأمير محمد بن زايد يشعر بالرضاء عن تطور علاقاته مع إسرائيل على هذا النحو. التعاون الأمني والعسكري مع إسرائيل يعطيه الطمأنينة، وإذا كان احتمال دخول إسرائيل في حرب ضد إيران مستبعدا، فتوثيق العلاقات معها ومع إدارة ترامب في الولايات المتحدة يجعله يقف في شبه تحالف مع أشد أعداء إيران، وهو ما قد يمثل رادعا أمام أي محاولات إيرانية متخيلة لزعزعة استقرار بلاده. ولكن هل يضمن ذلك علاقات حسن جوار مع إيران في المستقبل، حتى ولو زال حكم آيات الله؟ ألا يترك التحالف مع أشد أعداء إيران ذكرى مريرة تستمر معهم في المستقبل؟

الخاسرون

لا شك أن أشد الخاسرين هم الشعب الفلسطيني والعرب المتعاطفون معهم الذين يرون عددا متزايدا من الحكومات العربية تتخلى عن شروطها لتسوية سلمية مع إسرائيل تضمن حقوق الشعب الفلسطيني. وقد كان لافتا للنظر أن الذين أحاطوا بالرئيس الأمريكي في مؤتمره الصحفي لم يكن بينهم فلسطيني أو عربي واحد سوى سفير دولة الإمارات في واشنطن، والباقون كلهم من غلاة أنصار إسرائيل في واشنطن وفيهم بطبيعة الحال السفير الإسرائيلي. طبعا جرت مياه كثيرة في الوطن العربي منذ مؤتمر الخرطوم في أغسطس ١٩٦٧ ولاءاته الثلاثة الشهيرة للمفاوضات والاعتراف والصلح مع إسرائيل. يمكن أن يفهم الفلسطينيون الدواعي التي دفعت ثلاثة أطراف عربية هي مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية للدخول في علاقات مع حكومة إسرائيل نصت على تطبيع كامل، هي دول مواجهة وقد خاضت حروبا مع عدوه، وقد حصلت كل منها على مقابل لتطبيعها مع إسرائيل، وقد تتباين الآراء في تقدير هذا المقابل، ولكنها حصلت على مقابل على أي حال، ولم تتخل عن تأييدها لمشروع تسوية عربي يقيم سلاما مع إسرائيل في مقابل جلائها عن كل الأراضي التي احتلتها، وقبولها بدولة فلسطينية عاصمتها القدس وعلى كامل أراضي الضفة الغربية وغزة.

 

لماذا يسرع هؤلاء العرب الذين لا تمثل إسرائيل تهديدا لأمنهم بتقديم مكافأة لها دون مقابل؟ ولماذا تستعد عواصم أخرى عربية في عمان والبحرين للسير على نفس الطريق؟ ولماذا يقول كتاب سعوديون إنه كما أن للفلسطينيين الحق في تقرير موقفهم من إسرائيل، فكذلك لكل دولة عربية الحق في ذلك؟ وهو ما يبدو كأنه تمهيد لأن تواصل المملكة السعودية السير على الطريق ذاته، ولكن ربما دون الوصول إلى نفس المحطة التي سيبلغها قطار دولة الإمارات عما قريب.

السبيل الوحيد أمام الفلسطينيين لتقليل الخسارة هو استعادة وحدة منظماتهم، وشروعهم في المقاومة السلمية المشروعة للاحتلال العنصري لبلادهم. قد يولد ذلك ضغوطا من الشعوب العربية توقف سباق الهرولة للقبول الساذج بهذه المهانة لوجودهم وكرامتهم، والذي تجسده إسرائيل.

 

(عن صحيفة الشروق المصرية)

0
التعليقات (0)