لستُ في وارد الدفاع عن الحركتين الكبيرتين في الساحة
الفلسطينية،
حماس وفتح، ولعلّ هذا ما يغلب على الحالة المزاجية لعموم الفلسطينيين الآن، ولا سيما بعد الحراك الأخير في قطاع غزّة، الذي وسم نفسه بشعار "
بدنا نعيش"، وتعاملت معه الأجهزة الأمنية في غزّة بعنف ظاهر، بينما أعلنت حركة
فتح من
الضفة الغربية عن دعم كبير له.. فالعلاقة بين الحركتين، الآن،
بالغة التردّي، إلى درجة استعادة أجواء الانقسام في العام 2007، بيد أن هذا التردي المتصاعد في الموقف الفلسطيني العام، وفي علاقة الحركتين، وبما يقوم عليه من انقسام بنيوي، كان دائما ما يستدعي المقارنة بين تجربة الحركتين.
هذه المقارنة مغرية دائما، والإغراء المحض لا يسفر غالبا عن نتائج صحيحة، سواء لمجرد المعرفة أم لمحاولة فهم سيرورة
الحالة الفلسطينية ومآلاتها، ثم محاولة إصلاحها، أم لمجرد قول كلمة حقّ. قد يكون من بواعث الإغراء محاولة الخروج بموقف أخلاقي يدين كلا الحركتين، يستوي في ذلك الشكل الثقافي من هذه المقارنة، والشكل السائد الذي ينزاح إليه العامّة من الناس غالبا، بيد أنّه في النتيجة غير مفيد.
يكون من بواعث الإغراء محاولة الخروج بموقف أخلاقي يدين كلا الحركتين، يستوي في ذلك الشكل الثقافي من هذه المقارنة
عدم فائدة هذا الموقف، أو غلبة النتائج غير الصحيحة في مآلات المقارنة الناجمة عن الإغراء، لا يعني أن منهج المقارنة خاطئ، بل هو ضروري، سواء لأجل التجرد للحق، أم لأجل محاولة فهم الواقع ومن ثم تقديم الاقتراحات لتحسينه أو تغييره.
يذهب عدد ممن يلجأ إلى المقارنة لوصف الحالة الفلسطينية الراهنة؛ إلى القول إنّ الحركتين وجهان مختلفان لمضمون سياسي واحد، وهو الحكم بالوكالة عن الاحتلال. بكلمة أخرى، إنّ وجود سلطة في ظلّ الاحتلال يدفع العبء الإداري عن الاحتلال، بما يستلزمه ذلك من ضبط مجموع الفلسطينيين، دون أن يستدعي نتائج سياسية مفيدة للفلسطينيين، بل على العكس، قد يؤدي وجود سلطة في ظلّ الاحتلال إلى تصفية سياسية للفلسطينيين.
وجود سلطة في ظلّ الاحتلال يدفع العبء الإداري عن الاحتلال، بما يستلزمه ذلك من ضبط مجموع الفلسطينيين، دون أن يستدعي نتائج سياسية مفيدة للفلسطينيين
هذا التوصيف، وإن بدا متضمنا قدرا تأسيسيا من الصحة، فإنّه غير كاف دون اعتبار السياقات والمضمون السياسي للسلطة، فلا يمكن النظر إلى المآلات مجرّدة من المقدمات، وحينما نتفق على أن إقامة سلطة في ظلّ الاحتلال كان خطيئة كبيرة، بصرف النظر عن دوافع أصحاب المشروع، فإنّه لا يمكن القول حينئذ إن من التحق بهذه السلطة تاليا كمن أنشأها، فتأسيس السلطة أوجد واقعا شديد التعقيد، باتت خيارات الفلسطينيين إزاءه ضيقة جدّا.
لقد وُجد نظام سياسي فلسطيني في ظلّ الاحتلال ينزع الشرعية عن كلّ من كان خارج هذا النظام، وهو أمر حتّم من بعد انتفاضة الأقصى، على قوّة كبيرة كحماس، أن تتعامل مع هذا التعقيد ضمن خيارين، إمّا البقاء خارج السلطة وبالتالي تجريد الحركة من قوّتها ومكتسبها من بعد انتفاضة الأقصى، وفرض خيار سياسي فلسطيني واحد تحت غطاء صندوق الانتخابات، أو محاولة حماية الذات، ومدافعة الخيارات السياسية من داخل النظام السياسي الفلسطيني وبغطاء الشرعية الانتخابية.
إمّا البقاء خارج السلطة وبالتالي تجريد الحركة من قوّتها ومكتسبها من بعد انتفاضة الأقصى، وفرض خيار سياسي فلسطيني واحد تحت غطاء صندوق الانتخابات، أو محاولة حماية الذات، ومدافعة الخيارات السياسية من داخل النظام
حين النظر إلى هذين الخيارين؛ لا يمكن القول إن الاختيار بينهما كان سهلا. نعم، يمكن لنا الآن أن ننقد بلغة حادّة وجذرية دخول حماس في السلطة، وما يبدو من مساره ومآلاته أنّها أبدا لم تكن قد وَضعت في حسبانها ما كان ظاهرا من استحالة قدرتها على قيادة سلطة صُمّمت بمقاس خاص، ولوظائف خاصة تتعارض مع حماس وجودا وخطابا وطبيعة. وأنا أحد الذين يفعلون ذلك أحيانا، لكن ينبغي لي، ولمن يفعل ذلك مثلي، أن يتواضع قليلا ونحن لم نعاين الخيار الآخر، أي أن يجري اجتثاث حماس باسم صندوق الانتخابات، وفرض خطاب سياسي واحد في الساحة الفلسطينية باسم صندوق الانتخابات كذلك.
لكن ثمّة ما هو سهل، وينبغي قوله، وهو دقيق جدّا، أعني من فرض مشروع السلطة الفلسطينية في الساحة الفلسطينية، ثم ضيّق خيارات الفلسطينيين إزاءه.. هو الذي لا يمكن أن يساويه أحد في إشكالية وجود السلطة في ظلّ الاحتلال.
وهذا الذي أوجد المشروع وفرضه؛ يمكن القول إنّ كلّ ما هو فيه بدوره من عجز وانعدام ظاهر في الخيارات في العلاقة مع الاحتلال أو مواجهته، ناجم عن اختيار صرف إلى حدّ كبير، فهو الذي اتجه إلى هذا الخيار، وهو الذي فاوض بخصوصه، وهو الذي وقّع على الاتفاقيات بعد ذلك، وهو الذي أوجد السلطة، وهو الذي وضع الفلسطينيين أمام خيارات معقدة إزاء مشروعه، ثمّ هو الذي بواقع الحال رفض شراكته في هذا المشروع، وليس مثله ببداهة العقل من دخل المشروع لكسر حدته ولتنويع خيارات الفلسطينيين.
الدخول في السلطة سيفضي إلى ممارسات سلطوية كانت حماس تستهجنها قبل دخولها في السلطة، لكن مسار التجربة يفيد أن هذا ناشئ عن حصار تجربة حماس
نعم، الدخول في السلطة سيفضي إلى ممارسات سلطوية كانت حماس تستهجنها قبل دخولها في السلطة، لكن مسار التجربة يفيد أن هذا ناشئ عن حصار تجربة حماس، دون أن يعني هذا منح حماس المبرر الأخلاقي لممارستها السلطوية، وهذا الحصار هو شكل من أشكال الحرب، تخللته مواجهات مسلحة واسعة مرات متعددة. وهذا يفيد بأنّ موقع حماس في السلطة مختلف عن موقع فتح، من جهة التوجه السياسي، ومن جهة الاضطرار والاختيار في الممارسات السلطوية، أو في العلاقة مع الاحتلال.
لا يمكن والحال هذه؛ القول إنّ من هو في حالة حرب مع الاحتلال، محفوفة بالحصار، كمن يخشى الحرب في حال وسّع من خياراته الأمنية والسياسية أو غيّر من بعض سياساته القائمة! هذا على فرض أن حركة فتح لم تجر أي تغييرات في خياراتها خشية من حرب غير متكافئة مع الاحتلال فحسب، وهذا غير صحيح، فأي سلطة توجِد نخبها ومصالحها ومنطقها أيضا.
لا يعني ذلك إلا شيئا واحدا، وهو أن موقع كلا الحركتين في السلطة مختلف.. مختلف بحكم الواقع والتوجه السياسي الراهن وطبيعة العلاقة مع الاحتلال، ومختلف بحكم المقدمات والسياقات التي لا ينبغي إغفالها، لكنه لا يعني أبدا أنّ حماس معذورة في تقديراتها السياسية الخاطئة، ولا يعني أن الجماهير يمكنها تفهم ما يتفهمه أنصار حماس، وليست مطالبة (أي الجماهير) بحلّ ذهني ونفسي لمعضلة السلطة والمقاومة يجعلها متقبلة لكل مآلات سلطة حماس، وممارسات هذه السلطة.
لا يعني أبدا أنّ حماس معذورة في تقديراتها السياسية الخاطئة، ولا يعني أن الجماهير يمكنها تفهم ما يتفهمه أنصار حماس
بقيت مسألة في هذا الموضوع، وهو أنّه يمكن لمشروع سياسي صاعد، أن يجور على الحقيقة، ويساوي بين فتح وحماس، لأجل الشرعنة لوجوده بنقد حادّ للقوتين اللتين تغلقان المجال السياسي الفلسطيني، إذ لا بدّ في الحقيقة من تجاوز الانغلاق الذي فشلت الحركتان في فتح أي ثغرة فيه، أو ساهمتا، كل بقدره، في إغلاق بعض ثغراته، بيد أنّ هذا كلام نظري للغاية، بمعنى أن الخصومة العميقة المتجذرة بين الحركتين، لم يتمكن أحد من استثمارها لفرض بديل ثالث، ولا حتى القوى الفلسطينية التقليدية الموجودة أساسا.
وإذا كان الأمر كذلك، فالنتيجة الوحيدة لهذه المساواة بين الحركتين، هي إغفال المقدمات والسياقات التي أوصلتنا إلى هنا، والمسؤوليات الأساسية عن الأخطاء الأصلية، والقراءة الخاطئة للواقع بالمساواة بين توجهات سياسية مختلفة، وأنماط متباينة جدا في العلاقة مع الاحتلال.
دون أن ينعكس ذلك في فائدة للفلسطينيين، فمراوحة المكان في إطار مشروع التسوية وضمن سياسات السلطة الفلسطينية.. خشية من نشوء مواجهة غير متكافئة مع الاحتلال، ليس مكسبا، بل هو عملية تصفية سياسية ممنهجة مكثفة للفلسطينيين كما يلاحظ كل ناظر للتغول الاستعماري في الضفة الغربية، فتغطية هذا المشروع بالقول إن سياساته القائمة اضطرارية، وإن الوجه السلطوي المقابل ليس أحسن حالا، لا يفيد إلا في تعزيز هذه التصفية السياسية الجارية للفلسطينيين!