هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هناك شيء من شخصية الروائي البريطاني غراهام غرين في شخصية أهم كاتب مستفز في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فهو شجاع ومخرب وحزين وقاس، ولا يتنازل، وكاتب سيئ السمعة في عيون ناقديه.
فهو صحفي إما تكرهه أو تعبده فـ"الفيلسوف الملك" الذي تخيله أفلاطون ضروري لصحة أخلاقنا، وربما لم يكن جيدا لضغط دمنا.
إنه الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي، الذي زاره الكاتب الصحفي المعروف روبرت فيسك، وكتب عنه مقالة في صحيفة "إندبندنت"، قائلا إن حياته مهددة من إخوانه الإسرائيليين؛ لأنه كتب عن الحقيقة، "وهذه أفضل جائزة صحفية يمكن للشخص أن يحصل عليها".
ويقول الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إن ليفي يحب الصحافة، ولكنه يشعر بالرعب لأنها تراجعت، ولغته الإنجليزية ليست فصيحة، لكنه أحيانا ينفجر غاضبا.
شيطنة الفلسطينيين
وينقل فيسك عن ليفي قوله: "في عام 1986 كتبت عن امرأة بدوية فلسطينية فقدت ابنها بعد أن وضعته على نقطة تفتيش، وحاولت على ثلاث نقاط تفتيش، لكنها وضعته في سيارة. ولم يسمح لها (الإسرائيليون) بأخذه للمستشفى، واضطرت لحمله مسافة كيلومترين مشيا إلى مستشفى أوغستا فيكتوريا (في القدس الشرقية)، وعندما نشرت القصة، لا أقول إن إسرائيل حبست أنفاسها، لكن الحكومة تعاملت معها، وقدم ضابطان للمحاكمة".
ويشير الكاتب إلى أن ليفي وجد بعد ذلك عشر نساء وضعن عند نقاط التفتيش "ولم يهتم أحد، واليوم يمكنني نشر القصة ويتثاءب الناس عند قراءتها، فقد أصبحت عادية ومبررة. ولدينا اليوم مبرر لكل شيء، فنزع الأنسنة عن الفلسطينيين وصل مرحلة لم نعد نهتم لها، وأقول لك، حقيقة دون مبالغة، لو قتل فلسطيني كلبا لوجدت القصة انتباها من الصحافة الإسرائيلية أكثر مما لو قتلت القناصة الإسرائيلية 20 شابا فلسطينيا لم يفعلوا أي شيء في غزة، وأصبحت حياة الفلسطينيين من أرخص الأشياء، إنه نظام كامل للشيطنة ونزع الأنسنة ونظام كامل للتبرير، وهو أننا دائما محقون ولن نرتكب الخطأ".
ويلفت فيسك إلى أن ليفي عبر أكثر عن غضبه حين قال: "أنا أتحدث الآن عن الليبراليين، وهناك من الإسرائيليين من يفرحون لموت الفلسطينين، لكن الليبراليين يبررون لتنظيف ضمائرهم، قائلين: أنت لا تعلم ماذا حدث هناك، ولم تكن هناك وأنت لا تستطيع النظر إلى جزء من الصورة فقط، ومن الصعب كتابة هذه القصص الآن، وهذا هو الإحباط الكبير، ويرون قناصة طفلا يلوح، مصورا على التلفاز، قناصة يقتلون ممرضة في ثيابها، ممرضة جميلة. ويشاهدون طفلة عمرها 15 عاما تصفع جنديا وتسجن ويبررون كل شيء".
حرية
ويقول الكاتب إنه لهذه الأسباب كلها أصبح لليفي حارس من مدة غير بعيدة، حيث يواصل قائلا:"تعرف روبرت أنهم أخبروني منذ سنوات طويلة: حاول أن تكون معتدلا... واكتب عن بعض الأشياء الوطنية، وقل بعض الأشياء الجميلة عن إسرائيل، وفي نهاية اليوم نكتب ما نفكر به ولا نفكر في العواقب، وعلي أن أقول لك بصراحة إن الثمن الذي يدفعه الصحفي التركي والروسي اليوم هو أعلى من أي ثمن، وعلينا ألا نبالغ، ففي نهاية اليوم فأنا مواطن حر، وأستطيع الحصول على الحرية الكاملة، أعني حرية الكتابة عما أريد بسبب صحيفتي التي تدعمني".
وينوه فيسك إلى أنه تحدث عن دعم "هآرتس" له بالقول: "تعرف أن ناشر (الصحيفة) هو الناشر الوحيد المستعد لدفع الملايين من أجل أن يلغي مقالا كتبته، أو يقول لمشترك لم يرتح لمقالاتي: (تعرف ماذا؟ ربما لم تكن (هآرتس) الصحيفة المناسبة لك)، أعطني أي ناشر يمكن أن يتحدث بهذه الطريقة، ولهذا أحصل على الحرية الكاملة، وأكتب ما أشعر وأفكر".
ويقول الكاتب إن إسرائيل لا تفلت من مشرطه، حيث ينتقدها قائلا: "أسوأ شيء نقاتله هو اللامبالاة.. عدم الاهتمام الذي لدينا الكثير منه في إسرائيل، لو نجحت في هزهم بطريقة ما، أو إغضابهم، وأن تكون غاضبا مني، أو تغضب مما أقول، وتعرف أنك تغضبهم في الكثير من الأحيان، وهي إشارة عن شيء في ضميرهم، ويعرفون أن شيئا يحترق تحت أقدامنا، وأن خطأ ما حصل، لكن في بعض الأحيان نشعر بالخوف، خاصة في الليل، وقبل نشر (المقالة)، وأقول دائما: هل تماديت كثيرا في هذه المرة؟ وعندما أقرأه مرة أخرى، أقول دائما: كان علي أن أكون أكثر تطرفا، ودائما أفكر أنني لم أذهب بعيدا بما فيه الكفاية".
غزة أهم
ويعلق فيسك قائلا إن الصحافة في إسرائيل يمكن أن تلخص من قصة ليفي، فعلاقة الحب- الكراهية معها يمكن أن تمزج بالطريق الذي يمضى فيه بلده، الذي فر إليه والداه من أوروبا، عندما كان يطلق عليه فلسطين، ويقول ليفي: "الشيء الوحيد الذي أفتقده حقيقه، وهذا أمر مهم لي؛ لأن أهم قصصي هي من قطاع غزة، وأنا ممنوع من الذهاب إلى هناك منذ 11 عاما؛ لأن إسرائيل لا تسمح بدخول إسرائيلي إلى غزة، حتى ولو كان يحمل جنسية مزدوجة، وحتى لو فتحوا الباب لغزة، فإن قلة قليلة من الإسرائيليين سيزعجون أنفسهم ويذهبون إلى هناك، وربما منعتهم حركة حماس، وهو أمر إسرائيلي ولم يحتج عليه أي صحفي، إلا أنا، ويحصلون على كل ما يريدون من المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فلماذا يتعبون أنفسهم بالذهاب إلى غزة؟".
ويستدرك الكاتب بأن الأمر بالنسبة لليفي هو مهني، "وهي خسارة عميقة؛ لأن القصص الكبرى هي من غزة دائما، ولا تزال في غزة، وفي الحقيقة لا أستطيع أن أكون في غزة هذه الأيام، ودائما ما أسأل: ما هو أفضل مكان تحب أن تذهب إليه؟ بالي؟ ودائما ما أقول الحقيقة: غزة، أعطني أسبوعا واحدا في غزة ولا أريد أكثر".
عالم التواصل الاجتماعي
ويرى ليفي أن المدونات لا وزن لها بقيمة الصحف، ويقول : "لكنني أقول للشباب، لكنني أقول لو طلبوا–امضوا، الصحافة مهمة عظيمة وحرفة رائعة، ولم أخطط لكي أصبح صحفيا، وكنت أريد أن أصبح رئيس وزراء، وكان الخياران هو إما سائق حافلة أو رئيس الوزراء، وسائق الحافلة هو في النهاية قائد، أعني أنك تملي على الناس ما تفعله، لكنني أواصل القول للشباب: لن تجدوا مهنة بفرص عديدة، وتريدون شيئا وهو أن تكونوا فضوليين، وهي كفاءة نادرة أكثر مما تتوقع؛ لأننا نحن الصحفيين نعتقد أن كل شيء فضولي".
ويبين فيسك أن التشاؤم هو سمة الإسرائيليين، وهو أكثر الأمر الأكثر وضوحا لدى ليفي، فيقول: "انظر إننا نتعامل مع 700 ألف مستوطن، ومن غير الواقعي التفكير أن هناك من سيجلي 700 ألف مستوطن، ودون إجلائهم فلن تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة، والجميع يعلم هذا الأمر ، لكنهم يواصلون حديثهم؛ لأن هذا مقنع للجميع -السلطة الوطنية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة- الذين يقولون : حل الدولتين، حل الدولتين، وبهذه الطريقة فإنك تواصل الاحتلال لمئة عام؛ لأنك تعتقد أن هناك حل دولتين. ولن يحدث أبدا وفاتنا هذا القطار، ولن يعود إلى المحطة".
صحافة المظاهر
ويقول ليفي عن آثام الصحافة المعاصرة: "دعنا نواجه الحقيقة، الأمور كلها عن وسائل التواصل الاجتماعي، فصحافتنا تموت، والأمور كلها عن التغريدات، وحتى تحصل على تغريدة جيدة عليك البحث في كل مكان، اجلس في بيتك وفي يدك كأس ويسكي وستكون مقنعا، ولديك حس المرح والسخرية، وهذا مهم؛ لأن قلة من الصحفيين يهتمون بأمر اسمه البراعة، وأعتقد أن هناك بعض الاستثناءات، وليسوا موجودين ولا حتى في الغرب. وهم ناشطون ليسوا صحفيين، وهناك الكثير من
الشباب الرائعين".
عميرة هاس
ويفيد الكاتب بأن ليفي يقارن نفسه بالكاتبة الأخرى في "هآرتس" عميرة هاس، التي تعيش في المناطق الفلسطينية، وهي مساوية له مع أنها أكبر منه، فهو في سن الـ 65 عاما، " وهي تنقل الصحافة خطوة للأمام؛ لأنها تعيش معهم. وأعتقد أن هذا غير مسبوق (صحفية تعيش مع العدو)، وهي تدفع ثمنا باهظا؛ لأن لا أحد يهتم بها في إسرائيل لأنها تعيش هناك".
ويستدرك فيسك بأن الصحافة تتعرض لنقده، حيث يقول: "لدينا بعض الصحفيين الذين يذهبون لمناطق الحرب من أجل إظهار شجاعتهم، فقد ذهبوا إلى العراق وسوريا، وعادوا بصور لأنفسهم في قاعات الاستقبال في الفنادق، أو في بعض المناطق التي يطلق عليها ساحات معركة، وعندما ذهبت إلى سراييفو في عام 1993 ذهبت باحثا عن الظلم، ولم أذهب لتغطية قصة، وبحثت عن (شرور) الحرب، واعتقدت أنك شاهدت الكثير من الشر في سراييفو، وشاهدت أمورا في سراييفو لم أرها هنا، نساء كبيرات في العمر يحفرن في الأرض لقلع جذور صالحة للأكل، وشاهدت هذا بأم عيني وليس في الأراضي المحتلة، فأنت لا ترى هذا".
الصحافة الأجنبية
ويقول الكاتب إن الصحفيين الأجانب لم يحصلوا على علامة نجاح كذلك، فيقول ليفي: "أشاهد صحفيين، الآن يقفون على جدار غزة، صحفيين كان باستطاعتهم الدخول إلى غزة في هذه الأشهر الدموية، وهناك عشرون قتيلا أعزل، لكنهم ظلوا واقفين على السياج الحدودي، ودخول غزة ليس خطيرا بالنسبة للصحفيين الأجانب،و رأيت (بي بي سي) و(الجزيرة) من وقت لآخر، مع أن (الجزيرة) أفضل، رغم أن تقاريرها من تلة من جنوب إسرائيل، ولديها لقطات من وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية، لكنها ليست مثل الأمور الحقيقية".
ويعلق فيسك قائلا إنه وجد نفسه متناقضا مع ليفي، رغم أنه مثله ناقد للسياسات الاستعمارية الشريرة لإسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا لا يتعلق بشجبه للصحفيين، لكن لتهشميه النافذة الإسرائيلية وهجومه الحاد على كل ما هو إسرائيلي، "فهل يهتم فعلا القارئ الإسرائيلي بقتل فلسطيني لكلب أكثر من اهتمامه بمقتل 20 فلسطينيا؟ وهل الإسرائيليون بهذه الدرجة البدائية من التعليم؟".
دولة التجهيل
ويعلق ليفي قائلا: "أصبحت إسرائيل أكثر دولة جاهلة في العالم.. قال أحدهم من الأفضل ترك الناس جهلة أفضل من تعليم الجيل الشاب لا شيء عن لا شيء، حاول أن تتحدث للجيل الشاب هنا، لا فكرة لديهم، حتى الأشياء الأساسية، اسالهم عن بن غوريون وعن موشي دايان. واسألهم عن (الخط الأخضر) وعن مكان جنين، لا شيء حتى قبل غسيل الدماغ والتجهيل، وجزء مما يعرفونه هو خطأ".
ويورد الكاتب عن ليفي، قوله إنك لو تحدثت مع إسرائيلي عادي ونادل أوروبي لوجدته يعرف التكلم اللغة الإنجليزية بشكل أفضل، وقال إن معرفة الشباب الإسرائيلي بالهولوكوست والرحلات الخارجية هي بالضرورة "تجربة في رحلة في أثناء الدراسة الثانوية إلى أوشفيتز، حيث يتم تلقينك أن القوة هي أهم ما تملكه، القوة العسكرية هي الضمان الوحيد، لا شيء، لكن القوة العسكرية وأن إسرائيل لديها الحق لعمل ما تريد بعد الهولوكوست، هذه الدروس ولا علاقة لها بالمعرفة".
ويعترف ليفي بوجود مستوى "ضيق من الثقافة"، لكن الدراسات المسحية الأخيرة تشير إلى أن الإسرائيليين يتلقون تعليما مثل دول العالم الثالث.
ويتحدث الكاتب عن جيل ليفي ووالديه اللذين فرا من أوروبا وتغير الوقت: "كانت على أكتافنا حقيبة تاريخية، ولا يمكن لـ(تويتر) ولا (فيسبوك) يمكنه محو هذا كله، واليوم هي فارغة فيما يتعلق بالأحداث التاريخية حتى في هذه المنطقة، ما الذي يجري هنا؟ هو الشيء ذاته، فبعد خمسين عاما من الاحتلال لم يتغير شيء، فنحن في الإطار ذاته. صحيح هناك مستوطنات، صحيح هناك وحشية وشعور أقل بما هو مؤقت، وبالتأكيد فلن تكون جزءا مما هو مؤقت، وهذا جزء مما يجب أن تحمله إسرائيل".
إسرائيل تملي السياسة الأمريكية
وسأل فيسك ليفي إن كان التمثيل التناسبي في الانتخابات يؤدي إلى ائتلاف حكومي لا أمل فيه في إسرائيل، فأجاب: "نحن على ما نستحقه.. إسرائيل دولة قومية ومتطرفة ودينية بشكل شديد أكثر مما تتوقع، وحكومة نتنياهو هي انعكاس جيد للإسرائيليين، ونتنياهو هو أفضل تمثيل لإسرائيل، وحسب وجهة نظره هذه هي إسرائيل، سلطة وسلطة وسلطة، والحفاظ على الوضع القائم للأبد، ولا يؤمن أبدا بالعرب، ولا أي نوع من التسوية مع العرب أبدا، والعيش دائما على حد السيف، حالة حرب كاملة".
وتحدث ليفي عن العلاقات مع الولايات المتحدة، قائلا إنها سهلة "لست متأكدا إن كان الناس واعين بأن نتنياهو هو من يملي السياسة الأمريكية، وكل شيء يتم تقريره، الأونروا، وقطع المساعدات، يأتي من إسرائيل، وترامب لا يهتم، هل تعتقد أنه كان يعرف ما هي الأونروا؟ والعنصرية أصبحت كياسة، لكن كيف حدث هذا كله؟ أولا في عام 1967، وهو الإثم الأكبر، وقد بدأ هذا كله من هذا التاريخ. وإن أردت فقد بدأ عام 1948، لأن الأمور لم تتوقف عند عام 1948، وكان بإمكاننا فتح فصل جديد، وكان لا يزال هناك رجال عظام بعد الحرب العالمية الثانية، ونيلسون مانديلا هو مثال".
ويختم فيسك مقاله بالقول إن الصحفي الإسرائبلي الأكثر إزعاجا، يقول: "ربما كبرنا وأصبحنا أكثر مرارة وغيرة ونعتقد أننا الأفضل".
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا