الخسائر البشرية المتمثلة بأعداد الشهداء والجرحى ليست معياراً صحيحاً لتقييم جولة التصعيد الحالية بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، أو بتعبير أدق تدخل غزة عسكرياً في قضية حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى. ليس فقط لاختلال موازين القوى الدائم والملازم لحركات التحرر، ولا لأنه يتعارض مع منطق المقاومة ومواجهة المحتل أصلاً وحسب، ولا لأننا نقلل من قيمة هذه الخسارة (فالبشر أعز ما نملك)، ولكن لأنه فعلاً ليس المعيار الأصح.
العلاقات بينهما قد دخلت فعلاً في مرحلة جديدة مع اللقاءات الدبلوماسية الأخيرة وانطلاق الحوار الحالي، لا سيما في ما يتعلق بملف المعارضة المصرية. وفي هذا الإطار تحديداً سيكون من السراب والتحليل الرغبوي توقع عودة عقارب الساعة إلى الوراء
ثمة تفصيل أخير ومهم ينبغي التطرق إليه، وهو أن التغير الجذري في موقف تركيا من قضية خاشقجي يعد مؤشراً واضحاً على رغبة حقيقية في فتح صفحة جديدة مع الرياض، إذ كان هذا الملف تحديداً من أهم عوامل التوتير بين البلدين مؤخراً
يمكن فهم الزيارة من الزاوية الفنية البحتة بأنها تلاقٍ لرغبة الحكومة الليبية في استثمار لحظة الاستقرار السياسي النسبي بعد انتخابات مجلس الدولة لصالح إعادة الإعمار وتحريك عجلة الاقتصاد، ورغبة تركيا في تطوير دورها في ليبيا
يتضح أن الاستراتيجية الحالية لحزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان هي استمالة حزب السعادة قيادةً وأنصاراً، ومحاولة سد الطريق على وصول الحزبين الجديدين اللذَيْن خرجا من رحمه للشريحة المحافظة من الشعب، أو المترددين من أنصاره هو تحديداً
القلق التركي تحول إلى خطوات عملية، من قبيل التعاقد مع جماعات ضغط وشركات حقوقية في الولايات المتحدة للدفاع عن حق تركيا في العودة لمشروع F35 وتوضيح موقفها بخصوص S400، وهو ما يمكن قراءته من إحدى الزوايا بعدِّهِ تراجعاً في آمال تركيا بقرب حوار جاد ومثمر مع الإدارة الجديدة
المصالح لا تسوّغ الذهاب نحو علاقات أفضل مع الاحتلال، فأي تطوير للعلاقة معه هي انتقاص للحقوق الفلسطينية وضرر للقضية الفلسطينية ولتركيا، فضلاً عن أن المصالح المتوخّاة ليست حقيقية بالأصل وإنما متوَهَّمة إلى حد كبير
سيبقى التنافس يحكم العلاقة بين القوتين الإقليميتين، فيما تضعهما بعض الملفات الإقليمية في مواجهة غير مباشرة، وتدفعهما تطورات عالمية وإقليمية أخرى نحو التنسيق والتعاون، ويبقى الخيار مرهوناً بالإرادة السياسية لدى الطرفين وليس فقط جملة المصالح والمهددات المشتركة التي تجمعهما
تعوّل تركيا على أنها طرف مهم جداً لأي استراتيجية أمريكية في ما يخص المنطقة، لكنها أيضاً تعمل على إعداد أوراق قوة تفيدها في هذا السياق وتجنبها أي تصعيد غير مرغوب به مع واشنطن.
خط رفيع ذلك الذي تسير عليه أنقرة مع موسكو في مختلف القضايا الإقليمية، فالتساهل قد يدفع للتنازل والتشدد قد يؤدي لردة فعل روسية غالبا ما تكون في إدلب. ولذا، يبدو أن سعي تركيا للتوازن بين واشنطن وموسكو والمناورة في المساحات الخلافية بينهما والذي أفادها لسنوات طويلة، سيتعرض لتحديات حقيقية في رئاسة بايدن
بغض النظر عن اسم الرئيس المقبل للولايات المتحدة، فإن العلاقات الثنائية ستبقى في مسار التأرجح والاضطراب على المديين القريب والمتوسط على أقل تقدير. ذلك أن سعي أنقرة لسياسة خارجية مستقلة نسبيا عن أطر تحالفاتها الغربية، وعدم استعداد واشنطن لتقبل ذلك والتعامل على أساسه، ينذران باستمرار الفجوة بينهما.