مقالات مختارة

بعد التظاهر بالولع بالديمقراطية المصرية.. عادت الولايات المتحدة لتدعم الطغيان علانية

1300x600
كتب غلين غرينوالد: طبعاً، من الصعب للغاية اختيار أكثر جولات الدعاية الإعلامية الأمريكية تضليلاً للرأي العام، ولكن إذا اضطررنا إلى ذلك، فلعل المرشح الممتاز لذلك هو تغطية التظاهرات التي جرت في ميدان التحرير في مصر في فبراير من عام 2011. لأسابيع متواصلة، اتخذت وسائل الإعلام الأمريكية لنفسها موقعاً إلى جانب المتظاهرين، مصورة حالة الغليان كما لو كانت معركة بين الباطل والحق، بين نظام الحكم الشرير والاستبدادي لحسني مبارك، الذي حكم بالنار والحديد لثلاثة عقود، من جهة، وحشود المصريين المستضعفين من عامة الشعب الذين ألهمهم الشوق إلى حرية وديمقراطية على النمط الأمريكي من جهة أخرى.
 
ما كان غائباً تماماً تقريباً عن هذه المسرحية التي أريد منها طمأنة جمهور المتفرجين إلى أن أمريكا تقف في خندق القيم والأخلاق هو الإشارة إلى حقيقة غير مريحة، بل ومرعبة، خلاصتها أن مبارك كان أحد أقدم وأقرب حلفاء حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وأن نظام حكمه الذي جثم على صدور الناس لثلاثة عقود بالنار والحديد – وشهد جرائم قتل وتعذيب واعتقال إلى آجال غير محدودة لكل من يعترض أو يخالف – إنما تمكن من الهيمنة والاستمرار بمختلف الوسائل بفضل الدعم الأمريكي.
 
طوال حكم مبارك، غذت الولايات المتحدة نظامه بما متوسطه 2 مليار دولار أمريكي في العام، معظمها كان على شكل مساعدات عسكرية. قنابل الغاز المسيل للدماع التي كانت تطلق على المتظاهرين من قبل شرطة مبارك كانت تحمل عبارة "صنع في الولايات المتحدة الأمريكية". وتشير برقية دبلوماسية تعود إلى العام 2009 نشرها موقع ويكيليكس إلى أن "جهود الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر يجري إعاقتها" ولكنها وصفت الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الأمريكية من دعمها للنظام على النحو التالي: “تستمر مصر في حالة سلام مع إسرائيل، وتحظى القوات المسلحة الأمريكية بأولوية العبور عبر قناة السويس ومن خلال الأجواء المصرية.” وفي برقية أخرى تعود لعام 2009، عبر عن ذلك بشكل أكثر فجاجة، إذ ورد فيها: “يبدو أن المصريين أكثر استعداداً لمواجهة وكلاء إيران والتعاون بشكل وثيق مع إسرائيل.”
 
في نفس تلك السنة، أعلنت هيلاري كلينتون ما يلي: “أنا في الحقيقة أعتبر الرئيس مبارك وحرمه السيدة مبارك أصدقاء لعائلتي.” في برقية أخرى نشرها موقع ويكيليكس، أرسلت قبيل اللقاء الأول بين أوباما ومبارك في عام 2009، جرى التأكيد على أن: “الإدارة ترغب في استعادة الدفء الذي تميزت به تقليدياً الشراكة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية" وأن "المصريين يرغبون في أن تثبت الزيارة أن مصر ماتزال الحليف العربي لأمريكا الذي لا يستغنى عنه.” وأشارت البرقية بأسلوب لا يخلو من الدعابة الساخرة إلى أن "مدير المخابرات عمر سليمان ووزير الداخلية العدلي ينجحان في إبقاء الوحوش المحلية محشورة في الزاوية، وليس مبارك من النوع الذي يؤرقه ما يلجآن إليه من أساليب.” ظلت إدارة أوباما تدعم مبارك إلى اللحظة التي بات فيها سقوطه حتمياً، وحتى آنذاك، تآمرت الإدارة على استبداله بعمر سليمان: الذي لم يكن أقل ولاء من مبارك، بل ربما كان أكثر طغياناً ووحشية منه، تقدره دوائر واشنطن تقديراً كبيراً لجهوده المشكورة في تعذيب الناس نيابة عن الأمريكان.
 
خلال التغطية المسهبة لاحتجاجات ميدان التحرير، لم يخبر الجمهور الأمريكي بشيء من ذلك (تماماً كما حصل في معظم التغطية الإعلامية لأحداث الربيع العربي، حيث سقط من هذه التغطية أي ذكر للدعم الأمريكي المستمر منذ سنوات طويلة لمعظم طواغيت المنطقة الذين استهدفهم الربيع). بدلاً من ذلك، جرى إيهام الجمهور الأمريكي بأن الطبقة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقف بشكل لا لبس فيه إلى جانب الديمقراطية والحرية في مصر، مبرزة تصريح أوباما بأن المصريين أعلنوا بوضوح أنهم "لن يقبلو بأقل من التحول نحو ديمقراطية حقيقية.”
 
لم يعد أحد يتذكر شيئاً من تلك الأحاديث الداعمة للديمقراطية، وكأنها أصلاً لم تكن. وها قد عادت الطبقة السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى دعم الدكتاتورية العسكرية في مصر بشكل علني، وبحماسة لا تقل عن تلك التي دعمت بها نظام مبارك من قبل. فالفريق عبد الفتاح السيسي، الذي قاد انقلاباً عسكرياً في العام الماضي ضد حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة ديمقراطياً في مصر، بات الآن من الشخصيات المفضلة في واشنطن، بالرغم من (أو ربما بسبب) ما قام به بلا رحمة ولا شفقة من عمليات قتل وسجن للمخالفين، شملت حتى الإعلاميين، بما في ذلك صحفيو قناة الجزيرة. في حزيران (يونيو) أشارت منظمة هيومان رايتس واتش في تقرير لها بأن فترة ما بعد الانقلاب تضمنت "أسوأ حدث لجرائم قتل جماعية في تاريخ مصر الحديث" وأن "السلطات القضائية أصدرت أحكاماً بالإعدام على نطاق هائل غير مسبوق وأن القوات الأمنية قامت بعمليات اعتقال جماعية وتعذيب جماعي تعيد الذاكرة إلى أشد الأيام حلكة في ظل نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك.” وفي الأسبوع الماضي صدر عن المنظمة توثيق جديد لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر جاء فيه:
 
“تشير إحصائيات السلطات المصرية ذاتها أنها اعتقلت 22 ألف شخص منذ الانقلاب المدعوم عسكرياً ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي في يوليو 2013. وقد شملت موجة الاعتقالات الموسعة أناساً كثيرين كانوا يعبرون بشكل سلمي عن معارضتهم للإطاحة بالرئيس مرسي وعن معارضتهم لحكومة السيسي. ولا يستبعد أن يكون عدد المعتقلين الفعلي أكبر من ذلك بكثير. هناك تقارير ذات مصداقية تفيد بأن عدداً ضخماً من المعتقلين يحتجزون في مرافق عسكرية في عزلة تامة عن العالم الخارجي، وأن العشرات من المحتجزين قد لقوا حتفهم في ظروف من سوء المعاملة أو الإهمال، مما يستدعي فتح التحقيق في ذلك.”
 
لا يحل أي من ذلك دون استمرار الدعم الأمريكي لقادة الانقلاب. فبعد شهور من الانقلاب زار وزير الخارجية جون كيري القاهرة وكال المديح للنظام العسكري، وهو تصرف قالت عنه النيويورك تايمز بأنه "يعكس عزم إدارة أوباما على العمل مع القيادة العسكرية التي استخدمت البطش في قمع المحتجين من جماعة الإخوان المسلمين.” في تموز (يوليو) من هذا العام، أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن 550 مليون دولار حولتها إلى النظام في مصر. وفي آب (أغسطس) بدا كيري مادحاً للنظام نفسه، فيما عبرت عنه النيويورك تايمز بقولها إنه "منح رافعة غير متوقعة للقادة العسكريين في مصر … بقوله إنهم قد استعادوا الديمقراطية حينما أطاحوا بالرئيس محمد مرسي، بأول رئيس انتخبه المصريون بحرية." وفي منتصف أكتوبر، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "أن الولايات المتحدة الأمريكية ستسلم مصر عشر طائرات أباتشي من طراز AH-64.”
 
كانت تلك هي الخلفية لاجتماع السيسي الأسبوع الماضي مع بيل وهيلاري كلينتون في نيويورك. كما اجتمع مع زعماء قطاع التجارة والأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية ومع غرفة التجارة وكذلك أيضاً مع وزيري الخارجية السابقين هنري كيسنغر ومادلين أولبرايت. وبعد ذلك اجتمع السيسي بأوباما نفسه، حيث "وصف الرئيس الأمريكي العلاقة القديمة بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر بحجر الزاوية للسياسة الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط.”
 
ربما لا شيء يشهد بقوة بالتزام الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الدكتاتورية في مصر مثلما يشهد ذلك الهجوم المنسق في وسائل الإعلام والدوائر السياسية الأمريكية على دولة قطر، حليف أمريكا المدلل سابقاً. فكما نشرت ذي إنترسيبت في الأسبوع الماضي، معظم الحملة المناهضة لقطر مرجعها إلى الغضب الإسرائيلي (وكذلك السعودي والإماراتي ومن داخل تيار المحافظين الجدد في أمريكا) على ما يزعم أنه دعم قطري لجماعة الإخوان المسلمين، الحزب الذي فاز بالانتخابات التي أجريت بعد الإطاحة بنظام مبارك، الأمر الذي وضع الدوحة في مواجهة مباشرة مع السعوديين والإماراتيين ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وهؤلاء جميعاً يدعمون بقوة الانقلاب العسكري. وقد ورد توصيف واضح لهذا الانقسام في مقال مناهض لقطر نشرته هذا الأسبوع مطبوعة فورين بوليسي، وكثر المقتبسون له:
 
“لسنوات، ظل المسؤولون الأمريكان يبدون الرغبة في تجاهل شبكة الدوحة التي تعمل بالوكالة – أو حتى في الاستفادة منها من وقت لآخر. إلا أن جيران قطر لم يكونوا يرون ذلك. خلال العام الماضي نددت دول الخليج الأخرى، وهي السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بقطر بشكل علني بسبب دعمها لنشطاء الإسلام السياسي في المنطقة. وقد هددت هذه الدول بإغلاق الحدود البرية وبتعليق عضوية قطر في مجلس التعاون الخليجي ما لم تتراجع البلد عن سياستها. بعد عام كامل من الضغط لاحت أولى علامات الرضوخ القطري في الثالث عشر من سبتمبر حينما غادر سبعة من كبار شخصيات جماعة الإخوان المسلمين المصرية الدوحة بطلب من الحكومة القطرية …
 
بدأت استراتيجية قطر في التعامل مع الربيع العربي في الفشل في نفس المكان الذي صيغت فيه، وذلك وسط احتجاجات جموع المتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة. ففي الثالث من تموز (يوليو) 2013 أشاد المتظاهرون بإطاحة العسكر في مصر بالزعيم الإسلامي محمد مرسي، والذي دعمت قطر حكومته بمبلغ خمس مليارات دولار. خلال أيام قليلة أعربت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت عن ترحيبها بالحكومة الجديدة المدعومة من قبل العسكر وأعلنت عن الالتزام فيما بينها بدعمها بمبلغ قدره 13 مليار دولار.”
 
أي كون هذا الذي يعتبر فيه دعم نظام الانقلاب العسكري في مصر (أمريكا/السعودية/الإمارات) مفضلاً من الناحية الأخلاقية على دعم فصيل تم انتخابه بشكل ديمقراطي (قطر)؟ مما يؤكد عمق التزام واشنطن بدعم الاستبداد المصري أن قطر تصور الآن في دوائر صناعة السياسة الخارجية في واشنطن العاصمة على أنها اللاعب الشرير في الساحة المصرية بينما تصور الإمارات العربية المتحدة والسعوديون على أنهم الأطراف الطيبة والتي تتصرف بمسؤولية وتحافظ على الاستقرار.
 
على كل حال ليس هذا تطوراً جديداً. فإدارة أوباما طالما صنفت مصر والسعوديين على أنهم "المعتدلون" في المنطقة. لقد أجملت البرقية التي أرسلت عام 2009 تمهيداً لزيارة مبارك الموضوع على النحو التالي: “إن النزاع الجاري حالياً ما بين العرب، والذي يضع مصر والمملكة العربية السعودية في موقف المواجهة ضد سوريا وقطر، والذي يغذيه بالدرجة الأولى النفوذ الإيراني في المنطقة، يشكل الاختبار الحالي لمبارك. حتى هذه اللحظة، مازال معسكر الاعتدال المصري السعودي صامداً.”
 
منذ زمن بعيد والولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بدعم الطغيان في المنطقة، والغاية بالضبط هي ضمان أن وجهة النظر الشائعة بين الناس – والتي ترى بأن الولايات المتحدة وإسرائيل يشكلان التهديد الأكبر للسلام – تظل مكتومة ومقهورة على أيدي الطغاة الموالين للولايات المتحدة الأمريكية. وذلك هو ما جعل التغطية الإعلامية الأمريكية للربيع العربي بشكل عام ولميدان التحرير بشكل خاص عملاً دعائياً لافتاً: إذ نجحت هذه التغطية في جعل الأمريكان يشعرون بالارتياح لتوهمهم بأن بلادهم تشجع الديمقراطية في المنطقة ويتجاهلون في نفس الوقت دور حكومتهم المركزي في الحيلولة لعقود طويلة دون تحققها. ولا يقل إثارة عن ذلك الطريقة التي انتقلت فيها الطبقة السياسية في الولايات المتحدة بكل نعومة وبلا حياء من موقع الادعاء بدعم الديمقراطية في مصر إلى الموقع القديم الذي ما فتئت من خلاله ولعقود طويلة تساند الطغيان والاستبداد.
 
(موقع ذي إنترسيبت الأمريكي)