مقالات مختارة

سؤال الخطوة التالية

1300x600
كتب عبد الله السناوي: لا توجد مدرسة اقتصادية واحدة فى مصر تدعو إلى الإبقاء على فاتورة دعم الطاقة، فالاقتصاد يئن بقسوة تحت وطأتها ولغة الأرقام تنذر بانهيارات قريبة.

التدخل الجراحى بدا محتما غير أنه جرى خارج غرف العمليات بلا تعقيم وتجهيز أو تحسب لآثاره المحتملة.

لا أحد مهد بحوار جدى يمهد الرأى العام للتدخل الجراحى، والقرارات الاقتصادية صدرت بلا إعداد محكم.

لا كانت هناك إجراءات حماية اجتماعية للفئات الأكثر تضررا من القرارات الاقتصادية الجديدة ولا كانت هناك آليات رقابية لها القدرة على التحكم والسيطرة فى حركة الأسواق، كما قال الرئيس نفسه.

لم تجد الحكومة ما تقوله سوى أنها لن تخضع لـ«الصوت العالى» بينما لم يكن هناك صوت ارتفع سوى الأنين العام تحت وطأة انفلات الأسعار عن طاقتها فى التحمل.

الجراحة التى أوجعت ليست آخر الجراحات، فهذه هى الخطوة الأولى التى سوف تتبعها خطوات تالية فى ملف رفع دعم الطاقة.

مع الموازنة الجديدة فى يوليو القادم. هناك جراحة ثانية فى ملف الطاقة ترتفع بعدها الأسعار مرة أخرى.

إذا كان ممكنا أن تمر هذه المرة بأقل كلفة سياسية، استنادا إلى الثقة العامة فى الرئيس فإن المرات القادمة ستكون الكلفة باهظة اجتماعية وسياسيا وأمنيا إن جرت على هذا النحو الذى حمل الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا تكاليف الإصلاح وأعفى الأثرياء منها تقريبا، ودون أن تكون هناك إجراءات حماية اجتماعية.

بصورة أو أخرى فإن السلطة منتشية باعتقادها أنها تخلصت من عقدة تظاهرات (1977) التى تحكمت فى الحكومات المتعاقبة بعد أن اضطر الرئيس الأسبق «أنور السادات» إلى التراجع عن قراراته برفع الأسعار، وهو انتشاء يغرى بالاستخفاف بالأنين العام وعدم التحسب لردات الأفعال.

بمعنى أوضح فإن الأداء الشعبى أكثر انضباطا من الأداء الحكومى وأعمق إداراكا لخطورة اللحظة المصرية.

صحيح أن القطاعات الغالبة من المصريين تضررت من القرارات الاقتصادية وتراجعت رهاناتها الكبرى على تحولات (30) يونيو، غير أنها تدرك على طريقتها عمق الأزمة التى تعانيها يوميا فى تفاصيل الحياة. ورغم أن شعبية الرئيس تأثرت سلبيا، وهو نفسه يقول إن «القرارات مخاطرة مستعد لتحمل مسئوليتها»، إلا أن هناك إدراكا ما أن إخفاقه هو إخفاق للبلد كله يدخله فى دوامات فوضى وانهيار وأن المصلحة العامة تقتضى إفساح الفرصة أمامه. هذا المعنى وحده هو الذى ضبط الأنين العام عند حدود لم يتعداها غير أن التصريح بالتصرف ليس مطلقا أو على بياض.

الاستعداد لتحمل تبعات الإصلاح الاقتصادى مرهون بخطوتين رئيسيتين أولاهما إجراءات الحماية الاجتماعية، وهذه مسألة لا يصح أن يطول انتظارها.. وثانيهما إجراءات تفضى أن يشعر المصريون بأن الأثرياء لا الفقراء هم من يدفعون الفواتير المستحقة، وهذه مسألة تتعلق بالعدل.

والمعنى أن الرئيس أمام تحدياته مدعو لحسم خياراته الرئيسية ووجهة طريقه والمعسكر الاجتماعى الذى يقف فيه.

فى مداخلاته المسهبة إشارات لافتة تستدعى أسئلة إضافية.

الإشارة الأولى أن «مصر أهملت خمسين سنة»، وفى كلامه ما يشبه الإدانة للسياسات الاقتصادية التى اتبعت بعد حرب (1973) وأنها أفضت إلى التخريب المنهجى فى بنية الدولة ووظائفها ومهامها. بنص ما قال فإن كوريا الجنوبية درست التجربة المصرية فى التقدم والتطور قبل نكسة (1967) وأن دولا أخرى نهضت تلقت الدروس نفسها غير أننا تدهورنا بصورة مفزعة وما حدث لنا كان تخريبا عمديا فى الإنسان المصرى وقدراته.

الإشارة بنصها وروحها تطرح سؤالا جوهريا حول مدى استعداده لمراجعة السياسات التى اتبعت لا الاكتفاء بإدانة نتائجها، ففى المراجعة فرص تصحيح حتى لا تتكرر الأخطاء مرة أخرى، وفى المراجعة تزكية جديدة للدور الاجتماعى للدولة. ما الذى سوف يفعله إذن لتصحيح المسار؟

الإشارة الثانية أننا فى حالة حرب، والتوصيف نفسه تعبير عن توجه ما للبحث عن وجهة طريق لكنه لا يكفى وحده، فخوض الحروب تتطلب دراسات مستفيضة لميادين القتال وتضاريسها وموازين السلاح وخطط العمليات وفوق ذلك كله الاستراتيجية المتبعة.

فى تقديره أن المنطقة تتعرض للتفكيك وأن أحدا ليس بوسعه أن يخرج من دائرة خطر الإرهاب، وهذا تقدير يتسق مع الحقائق لكنه يستدعى أسئلة أساسية فى السياسة الخارجية المصرية تجاه الأخطار المرعبة فى المنطقة. ورغم الظروف القاسية التى تمر بها مصر إلا أن إدارة مصالحها الاستراتيجية تقتضى أن تطل خارج حدودها حاضرة فى المشاهد الملتهبة بالمشرق العربى، لا أن تكتفى بالبيانات العامة التى تعكس الغياب أكثر من أى شىء آخر.

فى استخدام تعبير «الحرب» فإنه يقصد أن الدولة مهددة ورغم أن مصر أفلتت من مصائر دول عربية أخرى إلا أن الخطر مازال ماثلا داخليا وخارجيا.

فى سياق كلامه خشية أن تستثمر أطراف خارجية وداخلية القرارات الاقتصادية وتداعياتها لخلخلة النظام الجديد.

لا يفصح لكن المعنى حاضر. الكلام نفسه يستدعى أسئلة ضرورية عن سبل تلافى مزيد من الخلخلة فى جبهة (30) يونيو وأسئلة أخرى للأشقاء فى الخليج عن صحة المعلومات المتواترة من أن دولارا واحدا لم يدفع من التعهدات التى قطعت قبل انتخاب «عبدالفتاح السيسى» وإذا ما كان التباطؤ طبيعيا انتظارا لمؤتمر شركاء التنمية الذى دعا له العاهل السعودى أم أنه تحت ضغوط دولية بعينها.
فى كل الاحتمالات فإن مصر لابد أن تعتمد على نفسها وتدفع فواتير إنقاذ اقتصادها.

الإشارة الثالثة أن الفساد تجذر فى مصر لأربعين سنة وأن مواجهته سوف تكون بالقانون، غير أنه يتحسب لخوض حرب مفتوحة خشية تأثيرها السلبى على اقتصاد يحاول بالكاد أن يقف على قدميه، فكل شىء جرى تخريبه فى مؤسسات الدولة والتى تحتاج إلى وقت لإعادة بنائها على أسس جديدة أكثر كفاءة ونزاهة.

يستبعد أى صدام مع جماعات رجال الأعمال، مؤكدا مرة بعد أخرى أنه ملتزم بالقانون ولا إجراءات استثنائية. الخيار هنا مسألة أساسية، فالقانون لا يصح الخروج عليه والدستور يستبعد الإجراءات الاستثنائية غير أن عدم الحسم مع ملفات الفساد لدى الجهات الرقابية قضية مختلفة.

فى الجو العام تناقض مثير ما بين التطمينات والهواجس، فالرئيس يؤكد على دور رجال الأعمال، مراهنا على أن يسهموا فى التبرعات المفتوحة، ورجال الأعمال يعلنون تأييدهم لمبادرته دون أن يتبرعوا جديا حتى الآن.

فى سعيه للنجاح فى مهمة لا تحتمل إخفاقا قد يضيق بالمراوغات ويقلب المائدة، والرأى العام فى أغلبيته الساحقة يدعوه للتصرف على هذا النحو ورجال الأعمال بدورهم يتحسبون، وفق معلومات محققة من مثل هذا الاحتمال، وقد بدأت أنشطة تنقل إلى الخارج وأموال تنزح وملكيات توفق أوضاعها.

هو يقول لشعبه «أنا صادق معكم» ومن واجبنا بدورنا أن نكون صادقين معه، فإن لم يتبع القرارات الاقتصادية حزمة من الإجراءات الاجتماعية العاجلة فالأمور قد تزداد صعوبة والاستثمار السياسى العكسى قد يفضى إلى إرباك جديد فى المشهد، العدالة الاجتماعية مسألة غير قابلة للتأجيل وإن لم نقدم بوضوح عليها فإن الجراحة الثانية فى ملف الطاقة شبه مستحيلة.

(الشروق المصرية)