في سهرة رأس السنة الأخيرة، شاركت في إحدى الفضائيات الفلسطينية الحديث عن حصاد سنة 2021 الفني بين عدد من الشعراء والفنانين، فتحدثنا عن الشعر والأدب والفن والتراث الفلسطيني. ولسببٍ ما، سأل المقدِّم ضيوفَه عن آبائهم، فقال أحدهم: أبي فنان تشكيلي له لوحات ومعارض وكان عضواً في اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين. وقال ضيف آخر: أبي شاعر وأستاذ لغة عربية، علمني البدايات في الشعر وشجعني على الكتابة. حين سألني المقدِّم عن أبي.. فكّرتُ قليلاً عن أي مهنة من المهن التي عمل بها أتحدث.. وحسمتُ أمري لأقول: أبي كان فلاحاً! أتدري ماذا تعني كلمة فلاح؟!
كلمة فلاح تعني أن يفكر بالأرض كأمّ وحضن ورزق وعرق واندماج ووطنية. أن لا يفكر مرتين بأن لون بشرته من لون الأرض، وأنه من تراب هذه الأرض، وأنه سيعود إليها. وأن مشيه حافياً في دروب القرية هو الصحيح، وأن انتعال الحذاء ليس أساساً.
وأن أمي وزميلاتها في القرية، لم يلبسن الأحذية، بل إن من تلبس "الكندرة" يقولون عنها متهكّمين "كانت اليوم مكندرة، كنّها رايحة عالمدينة". وأن من لم تلامس أقدامها تراب دروب القرية لن تحنّ إليها. وأنهنّ عندما يذهبن لمكان بعيد، مثل التحطيب في الجبال المحيطة، يحملن "كنادرهنّ" بأيديهنّ أو يضعنها في "البقجة" وهن عائدات.
(هنا تدخل أحد الضيوف وقال: إن هناك مؤسسة صهيونية تهتم بالأجيال الجديدة، تضع في برامجها أن تأخذ الأطفال والفتيان إلى الريف الفلسطيني، ليمشوا حفاةً في الطرق الترابية أو الأراضي الزراعية).
وأن شمس القرية التي تلفح رؤوساً تعتمر الحطة البيضاء تختلف عن شمس المدينة في ورؤوس الطرابيش والقبعات أو الرؤوس الحاسرة.
لا يمكن للفلاح أن يعيش بعيداً عن أرضه. ونحن قريبون من يوم الأرض، ندرك ماذا تعني له الأرض التي كان يحرثها ويزرعها ويكلمها ويغني لها ولمواسمها، ويحصد خيرها ويبيع حصادها ويعيش من غلالها، ثم يعود مرة أخرى لينثر فيها البذور.
علاقة الفلاح بأرضه علاقة عاطفية إنسانية روحية قلبية عائلية.. وعلاقة المديني بالأرض علاقة عقلية سياسية اقتصادية.. فالأول يدافع عنها بمنطق العِرض، والثاني يدافع عنها بمنطق العقل والحق..
وإذا كان أهل المدينة قد تأثّروا بلباس المستعمر، فإن أهل القرية بقوا متمسكين بلباسهم الذي فرضته عليهم الأرض والمناخ البلدي الأصلي (ولنا عودة إلى اللباس الفلسطيني وأصل الكوفية والقمباز في مقالات لاحقة).
يكفي أن تعرف أن التاريخ يؤكد أهمية الفلاح ولباسه في ثورات الشعب الفلسطيني. وأن "الحطة وعقال بعشر قروش.. والنذل لابس طربوش!"، كانت من أغاني المقاومة في الثورة الكبرى 1936، للشاعر نوح إبراهيم، واستخدمت لتشجيع أهل المدينة على هذا اللباس كي لا يلفت المقاومون الفلاحون بلباسهم جنود الاستعمار.
يكفي أن تدرك أن الثورات الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني كانت تدور حول الأرض والسيادة عليها، ألم يقولوا "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؟!"، هذه الأرض التي كانوا يقضمونها ليبنوا عليها المستوطنات، ويصادرون محاصيلها التي تعب فيها الفلاحون، حتى أنهم يروون كيف أن العصابات الصهيونية كانت تتقدم للاحتلال ومعها الحصادات (ماكينات كبيرة) لتغنم الغلال السنوي في موسم الحصاد، وكيف أن الحصادات كانت من غنائم الثوار لدى استردادهم لبعض القرى، وكيف أن أهل قريتنا "شعَب" عندما ساهموا بمعركة استرداد قرية "البروة" من العصابات، استردوها وحصدوا ما استطاعوا من مزروعاتها.. لقد كانت الحرب على الأرض شبراً شبراً وسنبلة سنبلة.
ويكفي أن تدرك كيف أن الشيخ عز الدين القسام، توسم خيراً بالفلاحين القادمين إلى المدن ليطلق ثورته، التي أطلق عليها البعض "ثورة الفلاحين"، وقاد الثورة بعده الشيخان فرحان ونمر السعدي وأبو إبراهيم الكبير وأبو حسن سلامة، وكلهم فلاحون.
ويكفي أن تعرف أن التاريخ يؤكد أهمية الفلاح ولباسه في ثورات الشعب الفلسطيني. وأن "الحطة وعقال بعشر قروش.. والنذل لابس طربوش!"، كانت من أغاني المقاومة في الثورة الكبرى 1936، للشاعر نوح إبراهيم، واستخدمت لتشجيع أهل المدينة على هذا اللباس كي لا يلفت المقاومون الفلاحون بلباسهم جنود الاستعمار.
ويكفي أن تعرف أن معظم رموز الثورة الفلسطينية المعاصرة، وقادتها وأبطالها وشهدائها من الفلاحين الذين اقتلعتهم النكبة من أرضهم، وأن الصراع الدائم مع العدو على الأرض وعلى الحق بامتلاكها والسيادة عليها. ولأن الأوطان تتكوّن من (أرض وشعب ولغة وفكر أو دين)، وأننا عندما فقدنا الأرض تحولنا من مواطنين إلى لاجئين.
ويكفي أن تعرف أن ثورة يوم الأرض قام بها الفلاحون، الذين هم وقود الثورات الفلسطينية على امتداد التاريخ الفلسطيني.
ليس في المقال عنصرية ولا تنمّر، ولكنه لتفسير معنى أن تكون فلاحاً فلسطينياً مرتبطاً بأرضه عاشقاً لترابها، مولوداً في مواسمها، ومندمجاً في مناخها. وهي مواصفات تستخرج من الأرواح الشعراء والفنانين و.. العشاق الذين يثورون من أجل معشوقتهم ويقدمون مهراً لها الدماء والأرواح!
*كاتب وشاعر فلسطيني
توفيق زياد.. شاعر الأرض في يوم الأرض
فلسطينيو الداخل.. إبداع وتمسك بالهوية والوطن رغم الألم
أسمى طوبى.. نموذج المثقف العضوي النسائي الفلسطيني