في الوقت الذي تحاول فيه الدولة العبرية تهويد منطقة النقب جنوب فلسطين وفي قلبه عاصمته مدينة بئر السبع التاريخية؛ فإن تاريخ هذه المدينة العريقة يؤكد على هويتها العربية والإسلامية التي سكنها الكنعانيون منذ فجر التاريخ، فيما لا يزال سكانها الأصليون يتمسكون بها رغم كل ما يتعرضون له من قبل قوات الاحتلال.
وتعتبر بئر السبع إحدى أقدم وأهم المدن الفلسطينية التاريخية، فهي أكبر مدينة في صحراء النقب، وكانت معروفة عند العرب تاريخيا مثلها مثل القاهرة، وبغداد، ودمشق، والقدس، والخرطوم، ومشهورة لديهم، ليتم عام 2005م إدراج مدينة بئر السبع القديمة من قبل منظمة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي.
ولمدينة بئر السبع بين المدن مكانةٌ مرموقة وموقع رفيع مميزٌ، فهي إضافة إلى كونها عاصمة النقب فإنها تعتبر المركز التجاري لملتقى الصحارى، يتردد عليها العرب والفلسطينيون، ويلتقي فيها التجار والمسافرون، وتتجمع فيها الجيوش الوافدة، وتتحرك منها إلى المدن والتخوم، وفيها يلتقي الغرباء ويَبيتُ العابرون، ويسكن فيها الحكام والمسؤولون، وعليةُ القوم وزعماء القبائل وشيوخ العشائر.
ويقول الدكتور مصطفى اللدّاوي الباحث والكاتب الفلسطيني: "إن مدينة بئر السبع موغلةٌ في القدم، ومعلومةٌ بين الأمم، تتوسط صحراء قاحلة، وتقع على طريق القوافل القديمة، وتبعد عن مدينة القدس قرابة سبعين الكيلومتراً، وكان فيها مستشفى وسكة حديد ومحطة قطارات، وحاميةٌ عسكريةٌ وسجنٌ قديم، ومسجدٌ جامعٌ كبيرٌ، فقد كانت مركزاً للدولة العثمانية، فاهتمت بها وبسكانها، وانشغلت بهم لتستفيد منهم ومن مركزية المدينة، وموقعها كواحةٍ كبيرة وسط الصحراء، تحتاج إليها الجيوش لتعبر من مصر أو من بادية العرب ووادي عربة".
وأضاف اللدّاوي لـ "عربي21": "مر سيدنا إبراهيم عليه السلام في أرض بئر السبع، وفيها حفر بئراً وقد كانت قريبة من مدينة الخليل التي يسكنها، ويقال إنه رزق فيها بولده إسماعيل عليه السلام، وفي المدينة على الطريق إلى الخليل بئرٌ قديمةٌ يقول عنها علماء الآثار إنها البئر التي ألقي فيه يوسف عليه السلام، وإليه وردت السيارة الذين وجدوا فيه يوسف، فأخذوه معهم بضاعةً إلى مصر، بعد أن عبروا معه صحراء النقب إلى سيناء".
مصطفى اللداوي.. كاتب وباحث فلسطيني
وأكد على أن أهل بئر السبع يحفظون عن مدينتهم أصولها الدينية، وجذورها الإسلامية، ويحرصون على استعادة ماضيها وبعث الحياة في تراثها الذي جعلها تبقى آلاف السنين وما زالت، وهو الأمر الذي يغيظ الإسرائيليين ويزعجهم، إذ ما زالوا يجدون من البدو صلابةً وعناداً، وإصراراً وثباتاً، وتمسكاً ومحافظة، لا تغريهم العطاءات والإغراءات، ولا يذهب بعيونهم بريق الحداثة ووعود الرخاء، ولا شعارات المواطنة وحقوقهم.
وقال: "كانت مدينة بئر السبع مدينةٌ عربيةٌ فلسطينيةٌ بدويةٌ بامتياز، لا يسكنها غير العرب، ولا يدين أهلها بغير الإسلام، وكانت منارةً لسكان النقب يتعلمون فيها، ويتلقون العلوم فيها على أيدي شيوخها وأساتذتها، إلا أن حرب العام 1948م غيرت هوية المدينة، وشطبت هويتها العربية، وعبثت بمعالمها الإسلامية، حيث عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى تهجير أهلها واستبدال سكانها، وكانت العصابات الصهيونية تتطلع إليها قبل النكبة، وتسعى للسيطرة على مراكزها في ظل الانتداب".
وأضاف: "فهي قلب النقب النابض، ولهذا كانت حملاتهم على سكان المدينة قاسية، ودعوتها لهم للرحيل جادة، وفيها الكثير من التهديد والوعيد، وقد علموا أن السيطرة على قلب الصحراء وعروس النقب، ستساعدهم في بسط السيطرة على باقي المنطقة، كما ستمكنهم من قطع أواصر الصلة والتواصل بين السكان، الذين اعتادوا أن تكون مدينة بئر السبع ملتقاهم ومركز اجتماعاتهم، وقد خشوا كثيراً من سكانها الذين يتوالدون بصورةٍ تزعجهم وتخيفهم، وتجعل المستقبل وإن طال كله لهم.
وأوضح اللدّاوي أن الاحتلال ينظر إلى مدينة بئر السبع، التي تتربع فوق تربةٍ غنيةٍ بالمعادن والثروات الجوفية، أنها رأس النقب، والعقدة التي يلتقي عليها العرب، إذ أن لكل بدويٍ في مدينة بئر السبع حاجة ومنفعة، وله فيها تجارة ومصلحة، وعنده فيها أقرباء وأصدقاء، فرأوا أن فك هذه العقدة أو قطع رأسها، سيؤدي مع الزمن إلى موت الأطراف أو ضعفهم، وسينهي مع الأيام وجودهم، وسيوهي روابطهم، وسيخلق في نفوسهم يأساً يصعب الخلاص منه، وإحباطاً لا يمكن معه النهوض أو المواجهة، وضعفاً لا يساعدهم في الثبات والصمود فضلاً عن الغلبة والعودة والانتصار.
وأشار إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بنت في مدينة بئر السبع مستشفى سوروكا، ليكون المركز الصحي والاستشفائي الأول في المنطقة الجنوبية وفق تقسيماتهم الإدارية والعسكرية، وافتتحت فيها جامعة بئر السبع، التي عرفت فيما بعد باسم "جامعة بن غوريون"، وأنشأت مسرحاً وداراً للفنون، في الوقت الذي أغلقت فيه المسجد الكبير، الذي كان إبان الدولة العثمانية وحتى سقوط مدينة بئر السبع في العام 1948 المسجد الجامع في المدينة، وحولته في سني ما بعد النكبة إلى متحفٍ تاريخي قبل أن تقوم بإغلاقه كلياً بحجة تصدع جدرانه وتهاوي أسقفه، رغم أنها منعت وزارة الأوقاف الأردنية وسكان النقب الذين بقوا في أرضهم من إعادة إعماره وتأهيله، والحيلولة دون انهياره، ولكن حجة سلطات الاحتلال كانت واهية، إذ كان هدفها الحقيقي هو هدم المسجد وشطبه، لئلا يبقى صرحاً فلسطينياً عربياً إسلامياً يدل ويشير إلى أصل سكان البلاد.
وقال الباحث الفلسطيني: "بهدف إخافة العرب والقضاء على أي أملٍ للفلسطينيين في مدينة بئر السبع، فقد بنى الإسرائيليون فيها سجوناً ومعتقلاتٍ، ولعل أشهرها سجن بئر السبع، وهو السجن الإسرائيلي الأكبر مساحةً، وفيه اعتقل عشرات آلاف الفلسطينيين منذ النكبة، وما زال حتى اليوم قائماً بأسواره العالية، وأبراجه الكثيرة، وحراساته المشددة، عله يخيف الفلسطينيين ويبعث فيهم الرعب، أو يفقد في قلوبهم الأمل".
وأضاف: "رغم الحملة الإسرائيلية المحمومة لتهويد المدينة، وتغيير معالمها وإعادة تسمية شوارعها، وطرد سكانها واستبدالهم بمستوطنين يهودٍ وافدين، إلا أن الصبغة العربية في المدينة طاغية، واللون العربي حاضر، ولسان الضاد موجودٌ، والكوفية والعقال منتشرة، والحجاب والجلباب والأثواب الساترة للمرأة البدوية لا تغيب، والثوب الفلسطيني القشيب يبقى محط الأنظار وقبلة العيون، والمدينة كلها لهم مصلى، يفترشون الأرض وقتما شاؤوا ويستقبلون القبلة ويصلون إذا حان وقت الصلاة، بل ويرفعون الأذان ولا يبالون، وإن كانوا قد حرموا الجامع الكبير فإنهم يؤدون صلاتهم جماعةً في الساحات والميادين، وجميعهم واثقٌ بأن هذه الأرض إنما هي لهم وحدهم، وأنهم إن فقدوها حيناً من الزمن فإنهم لن يفقدوها أبداً، ولن ينسوها مهما مر الزمان وتغيرت الأحوال".
وشدد الكاتب والباحث الفلسطيني على أن السبعاويين لن ينسوا مدينتهم، التي إليها ينتسبون، وبها في كل مكانٍ يعرفون، وإلى العودة إليها يتطلعون، وإلى ممتلكاتهم وإرثهم فيها يرنون، مؤكدا أن بدو النقب لن يتخلوا عن عاصمتهم، التي دفنوا فيها آباءهم، وحافظوا في ثراها على رفات أجدادهم وأوليائهم، وهي التي كانت لهم في دروبها الوعرة قصصٌ وحكاياتٌ، وعلى رمالها الصفراء اجتمع الأشتات والأضداد.
ومن جهتها أكدت الباحثة في التاريخ إسلام حبوش على أن مدينة بئر السبع هي مدينة قديمة سكنتها القبائل الكنعانية منذ فجر التاريخ، وازدهرت وعمرت في عهد الأنباط والرومان، وكانت محطة للقوافل التجارية التي تعبر البلاد، وكانت في القرن الثاني الميلادي قرية كبيرة بها حامية عسكرية رومانية.
وشددت على أنه ولأهمية هذه المدينة تاريخا فقد تم إدراج البلدة القديمة من مدينة بئر السبع على قائمة التراث العالمي لمنظمة الثقافة والفنون اليونسكو وذلك عام 2005م.
وتعود تسمية مدينة بئر السبع بهذا الإسم حسب حبوش نسبة إلى وجود بئر كان يشرب منها حيوان مفترس يُسمّى "السبع".
وقالت حبوش لـ "عربي21": "هناك رأي آخر يقول إن التسمية تعود إلى الآبار السبع التي حفرها النبي إسحاق عليه السلام، بينما يرى آخرون أن التسمية ترجع إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي حفر بئرًا في منطقة خالية تمامًا من الماء، بعد خلاف بينه وبين أبي مالك، ملك فلسطين وقتها، حيث أهدى الخليل إبراهيم للملك سبع نعاج، لكي تشهد عليه بأنه هو الذي قام بحفر البئر، وبالتالي سُمي المكان بـ بئر السبع".
وأضافت: "يعود الاستيطان البشري في المنطقة إلى العصر النحاسي في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث كان يعيش السكان في الكهوف، ويقومون بصناعة الأدوات المعدنية وتربية الماشية، وقد دمرت المدينة وأُعيد بناؤها مرات عديدة على مدى قرون".
وأكدت حبوش أن المدينة تحتضن "تل بئر السبع"، وهو موقع أثري يحتوي على أنقاض بلدة قديمة يُعتقد أنها كانت في بئر السبع، وتقع على بُعد بضعة كيلومترات شرق المدينة الحديثة.
وأوضحت أن مدينة بئر السبع من أوائل المُدن التي فتحها عمرو بن العاص عام 630 ميلادي، وقد عرفت بعد الفتح الإسلامي ببلدة عمرو بن العاص، حيث أقام بها قصراً له، وكان ذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حيث فرّ البيزنطيون من بئر السبع؛ إلا أن قلة الأمطار وكثرة المحول وتحول طرق المواصلات أدى إلى تأخر هذه البلدة وخرابها.
وأكدت على أن المدينة عادت بالازدهار في القرن السادس عشر الميلادي وتحديدًا عام 1519م، حيث بنى العثمانيون الطرق وعددًا من المباني الصغيرة من المواد المحلية التي لا تزال قائمة في البلدة القديمة، والتي أُنشئت من قِبَل المهندسين المعماريين السويسريين والألمان، وكانت جميع المنازل التي بُنيت خلال تلك الفترة من طابق واحد، لكن كانت محطة الشرطة من طابقين، وكان معظم السكان في هذا الوقت من العرب، ومع الوقت بدأ اليهود الاستقرار في المدينة، بالإضافة إلى تخلي كثير من البدو عن حياتهم البدوية، وقاموا بتشييد منازل حديثة في مدينة بئر السبع.
وأشارت الباحثة في التاريخ إلى انه في العام 1900م بنت الدولة العثمانية مركزًا للشرطة الإقليمية والقضاء هناك كان يحمل إسمها.
وأوضحت أن المدينة كانت في الحرب العالمية الأولى قاعدة للجيوش العثمانية وقد شهدت معركة حامية الوطيس آنذاك، حيث عمدت الجيش الانجليزي على شن هجوم كبير عليها لكسر خط الدفاع العسكري العثماني من غزة إلى بئر السبع.
وأكدت أنه خلال الحرب العالمية الأولى، بنى العثمانيون خط سكة حديد لخدمة الأغراض العسكرية يصل من خط الحجاز إلى بئر السبع، وتمّ افتتاح المحطة يوم 30 تشرين أول/ أكتوبر 1915م، وقد حضر الاحتفال قائد الجيش العثماني جمال باشا، والعديد من كبار المسئولين الحكوميين، لكن كان خط القطار أحد أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية على أيدي الجيش البريطاني في عام 1917، بعد تفجيره ووضع نهاية الإمدادات الحربية بين الفرق العسكرية العثمانية حتى وضعت الحرب أوزارها بهزيمة ألمانيا والعثمانيين.
وأشارت حبوش إلى أن البريطانيين احتلوا بئر السبع في 31 تشرين أول/ أكتوبر 1917، لتكون أول مدينة فلسطينية تحتلها القوات البريطانية، منوهة إلى أنه يوجد على حافة مدينة بئر السبع القديمة مقبرة تحتوي على قبور الجنود البريطانيين، وأيضا حديقة باسمهم.
وأوضحت أنه في منتصف أيار/ مايو عام 1948، تشكلت حامية للدفاع عن المدينة مؤلفة من أفراد الشرطة المحلية، وعدد من المناضلين والشباب المتطوعين من أبناء المدينة من البدو، وتولى قيادتهم المجاهد عبد الله أبو ستة، حيث خاضوا معارك باسلة دفاعاً عن المدينة أمام هجمات المنظمات الصهيونية المسلحة، وسقطت المدينة بأيدي عصابات الصهاينة في صباح 21 تشرين أول/ أكتوبر 1948 بعد معركة ضارية وغير متكافئة.
وأكدت حبوش أنه في عام 1947، اقترحت اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين، تقسيم فلسطين وإدراج بئر السبع ضمن حدود الدولة اليهودية في خطة التقسيم، ولكن عدّلت اللجنة من قرارها وجعلت بئر السبع ضمن حدود الدولة العربية، بسبب كونها مدينة تاريخية عربية في المقام الأول.
وشددت على أن الاحتلال الإسرائيلي حاول إبعاد وتشريد البدو من صحراء النقب من أجل زيادة السكان اليهود، لذلك حرموا البدو من رخص البناء أو الاستقرار في المنطقة، واستمرت هذه السياسة منذ عام 1948 حتى الآن.
وأكدت حبوش أنه منذ انتهاء حرب عام 1948م بهزيمة الجيوش العربية، فقد استولت إسرائيل على بئر السبع، وقامت ببناء بؤر استيطانية حولها وهدمت معظم بيوت سكانها العرب، وعمدت إلى إقامة المنشآت العسكرية والمستعمرات التي تتزايد يوماً بعد يوم وتتحول إلى مدن مثل: ديمونا، عراد، إيلات، نتيفوت، أفقيم، يروحام، وسدي بوكر..
ومن جهته شدد رئيس لجنة التوجيه العليا لعرب الداخل المحتل، جمعة الزبارقة، على أن النقب يمثل أكثر من نصف فلسطين التاريخية بمساحة 12 مليون دونم، وأن مدينة بئر السبع هي قلبه النابض وعاصمته التي تأبى التهويد لأنها مدينة عربية تضرب جذورها في بطن التاريخ.
وقال الزبارقة لـ "عربي21": "إن دولة لاحتلال هجرت منذ نكبة عام 1948، حوالي 100 ألف فلسطيني من النقب لإفراغه من سكانه الأصليين واستجلاب مستوطنين يهود بدلا منهم".
جمعة زبارقة.. رئيس لجنة التوجيه العليا لعرب الداخل المحتل
وأضاف: "سلطات الاحتلال أبقت على 12 ألف نسمة وحصرتهم في منطقة السياج، التي لا تزيد مساحتها على الـ5 في المائة من مساحة النقب، بعد أن كانوا موزعين على كل أنحائه".
وشدد الزبارقة على أن الاحتلال ركز مشاريعه الاستيطانية في النقب؛ لتهجير أهله، مؤكدا أنه أقام 12 مستوطنة جديدة، وعدة مصانع ضخمة، وما يعرف بشارع "عابر إسرائيل".
وقال: "نحن أصحاب هذه الأرض الأصليون، ودولة الاحتلال تحاول الكذب بالزعم أننا سرقنا هذه الأرض، فنحن نعيش بها قبل تأسيس كيان الاحتلال عام 1948م، وعاصمتنا بئر السبع هي عربية كنعانية منذ فجر التاريخ".
تل بلاطة بنابلس يحكي قصة دولة "شكيم" التي دمرها الفراعنة
مقام النبي صالح بين مطرقة الاحتلال وسندان انعدام الخدمات
الشاعر أحمد فرح عقيلان.. قصائده تدل الأجيال على طريق فلسطين