كتاب عربي 21

حمدوك ربان يرفض "التقفف"

1300x600

أكملت الثورة الشعبية في السودان، والتي اندلعت في كانون أول (ديسمبر) من العام الماضي انتصارها لمعظم مبادئها مساء الخميس الموافق الخامس من أيلول (سبتمبر) الجاري، عندما أعلن رئيس وزراء الحكومة الجديدة الانتقالية في السودان د. عبد الله حمدوك التشكيلة الوزارية التي ستتولى أمور السلطة التنفيذية في البلاد خلال السنوات الثلاث المقبلة، بعد مخاض عسير استغرق ثمانية أشهر ونيف، ظل العسكر والمدنيون يتشاكسون خلالها، وكلٌ يحاول تقليم أظافر الآخر لمنعه من الاستحواذ على النصيب الأكبر في السلطة الانتقالية.

 

رئيس وزراء توافقي

كان هناك تراضٍ تام بين فرقاء المشهد السوداني على الخبير الاقتصادي الأممي حمدوك رئيسا للوزراء، وبمقتضى الوثيقتين السياسية والدستورية التي تحكمان كيفية إدارة شؤون حكم البلاد حتى أواخر عام 2022، وهو الموعد المحدد لإجراء انتخابات عامة، كان من المقرر أن يقوم حمدوك بالإعلان عن التشكيلة الوزارية الكاملة في 28 آب (أغسطس) الماضي، باختيار شاغلي الحقائب الوزارية من بين الترشيحات المقدمة اليه من القيادة المدنية للثورة (قوى الحرية والتغيير- قحت) بواقع ثلاثة مرشحين لكل وزارة.

ولكن حمدوك لم يلتزم بالجدول الزمني المحدد لتلك المهمة، لأنه رفض أن يكون "قُفَّة"/سلّة، والسودانيون يصفون الإنسان فاقد الشخصية، الإمَّعة الذي يستسلم لإرادة الآخرين، بأنه قفة، لأن للقفة أُذنين يستطيع من يمسك بهما تحريكها كيفما شاء، وقد حدث أن حمدوك رفض أكثر من 50% من الترشيحات التي عرضت عليه، وكانت حججه في ذلك أن الكفاءة للمنصب الوزاري لا تكون فقط بالشهادات الأكاديمية الكبيرة، وأن التعويل يجب أن يكون على الخبرة العملية في مجال التخصص، مع قدر من الوعي السياسي، لأن الوزير، وبالضرورة "سياسي"، وليس مجرد كائن بيروقراطي/إداري.

 

واقع الأمر هو أن أهل السودان جميعا في مرحلة "الصف الأول" في مدرسة الديمقراطية،


ورغم التناغم التام بين حمدوك و"قحت" التي رشحته للمنصب، إلا أن حمدوك رفض بحزم تولي قيادات في "قحت" مناصب وزارية، بل إنه لم يقبل بالقيادي الوحيد الذي أصرت قحت على وجوده في مجلس الوزراء باعتبار أنه الممثل الوحيد لمنظمات المجتمع المدني (ومن طرائف الصدف أن اسمه مدني عباس مدني) وزيرا، حيث أرادت قحت (شؤون مجلس الوزراء) بل أحاله إلى وزارة التجارة والصناعة.

ورغم أن حمدوك لم يستطيع إكمال اختيار وزرائه خلال الإطار الزمني المحدد لتلك المهمة، إلا أن ذلك قوبل جماهيريا بالاستحسان وليس بالاستهجان، فقد رأت جماهير الثورة أنه بذلك التأني والتدقيق يبدي حرصا شديدا على إحسان الاختيار، وكان معلوما في الشارع الثوري أن حمدوك أجرى مقابلات (إنترفيو) مطولة مع عدد من المرشحين للمناصب الوزارية، وكان هذا إجراء غير مسبوق حتى في أكثر الديمقراطيات رسوخا، ولهذا كانت ردود الفعل الشعبية على تأنّي حمدوك في استكمال تلك المهمة: "على أقل من مهلك".

 

الحكومة المدنية

تحركت عجلات الثورة السودانية نحو محطة الحكومة المدنية في 17 آب (أغسطس) الماضي بتوقيع وثيقة دستورية بين المُكوِّنين العسكري والمدني للسلطة الانتقالية في البلاد، لتكون الهادي والمرشد في أمور الحكم خلال الأشهر التسعة والثلاثين المقبلة، وكانت الخطوة الأولى في هذا المسار اختيار أعضاء المجلس السيادي (الرئاسة الجماعية للدولة)، وهي مرحلة ثبت خلالها أن للديمقراطية الشعبية أنياب ومخالب، فقد تعرض عدد من الشخصيات المرشحة لعضوية المجلس للنقد الجارح أحيانا، والموضوعي في أحيان أكثر، فكان أن تم سحب ترشيحاتهم وتثبيت فقط من لم يثر غبار حولهم.

واقع الأمر هو أن أهل السودان جميعا في مرحلة "الصف الأول" في مدرسة الديمقراطية، لأنهم عاشوا بعد استقلال بلادهم من الاستعمار البريطاني إثنين وخمسين سنة في ظل ديكتاتوريات عسكرية، وثلاث عشرة سنة فقط في كنف حكومات منتخبة، ولكن هزيلة القدرات والآداء، ولهذا كان واضحا أن هناك حرصا شعبيا شديدا على أن تأتي الحكومة المرتقبة مبرأة من العيوب قدر المستطاع، ومن ثم ظلت الترشيحات للحقائب الوزارية متداولة بين الناس بالتسريب المتعمد، كي يقول الناس آراءهم حولها، وقد أطاح الرأي العام بالفعل بعدد من المرشحين، مما قوَّى موقف حمدوك الميال للتأني والتدقيق في الاختيار.

 

تحركت عجلات الثورة السودانية نحو محطة الحكومة المدنية في 17 آب (أغسطس) الماضي بتوقيع وثيقة دستورية بين المُكوِّنين العسكري والمدني للسلطة الانتقالية


ورغم الإعلان عن تشكيلة الحكومة السودانية الجديدة، إلا أن هناك حقيبتين ما زالتا تنتظران من يمسك بهما، وهما الثروة الحيوانية وهي وزارة شديدة الأهمية في بلد فيه نحو 120 مليون رأس من الماشية والضأن والإبل، ووزارة البنى التحتية في بلد يعاني اقتصاده من الإعاقة لهشاشة البنى التحتية.

وقد كان حمدوك صريحا مع الإعلاميين عندما قال إن التشكيلة التي أعلن عنها لا تنسجم تماما والتعهدات التي بذلتها قحت بشأن إسناد نسبة مقدرة من المناصب التنفيذية والتشريعية للنساء وممثلي بعض أقاليم البلاد التي عانت من التهميش، مما يشي بأنه لم يقبل بالترشيحات المقدمة إليه من قبل قحت للحقيبتين الشاغرتين، وبأنه ينظر في أمر إسنادهما، إلى جانب ستة مناصب وزراء دولة لممثلي تلكما الفئتين.

من حق السودانيين اأن يستبشروا بحكومة يقودها شخص ذو خبرة في شؤون الحوكمة والاقتصاد والمال، ويتمتع بقوة الشخصية التي ستعصمه من "التقفف"، أي من أن يصير قفة بيد نخبة أو فئة تحركه كيفما تشاء، لخدمة أجندة لا تتوافق وتطلعات عامة الشعب خلال مرحلة الانتقال الحرجة والتي سيحدد الأداء الحكومي فيها شكل الحكم في ظل ديمقراطية مستدامة مرتجاة.