من آليات الصراع السياسي الرئيسية توصيف الصراع ذاته. قبل الثورة وبعدها كان الصراع ايضا حول اوصاف وتسميات ومن ثمة معاني وطبيعة هذا الصراع. تحت حكم بن علي كان تبرير الاستبداد يتم عبر تسمية ومعنى "محاربة الظلامية". ورثاؤه بعد الثورة استعملوا مصطلحات ومعاني "الدفاع عن مكاسب النمط المجتمعي" التونسي، في سياقه تم التبرير حتى للخروج عن سكة الديمقراطية ذاتها. هذا الركن اساسا اي استعمال شعار "الحداثة" لضرب احد اهم اليات الحداثة اي الديمقراطية كانت نقطة مشتركة لحاملي عقلية الدولة القديمة المتخلفة.
كانت الثورة الاعلان المفاجئ العملي والسريع لاستحالة هذه العقلية كعقلية تهيمن في ظل الاستقرار. الصراع في تونس حقيقة هو حول تأسيس دولة عصرية منسجمة مع سياقها وزمنها على الضد من دولة اخرى متهالك تنتمي لعصر سابق. وموضوع الديمقراطية خاصة بمعانيها "التشاركية" و"الحكم المحلي" تبدو الجوهر المحدد للحد الفارق بين دولة عصرية واخرى رجعية. ومن هنا سنرى ان من بين الرجعيين الاكثر صلابة هم اكثر المرددين لشعار "سقوط الرجعية".
عاد الجدال حول "الحكم المحلي" مؤخرا اثر سلسلة خطب للرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي اثار فيه ضرورة تفعيل فصول الباب السابع من دستور الثورة والتي اتكأت بوضوح على اللامركزية وتحقيق ديمقراطية تشاركية قائمة على هيكلة الاقاليم وتخصيص جزء من الموارد المحلية للتنمية الجهوية والاقليمية. غير انه ووجه بحملة هستيرية تتهمه بـ"الانفصالية" و"تهديد الوحدة الوطنية"، كأن الهيكلة اللامركزية العصرية التي تشهدها عديد الديمقراطيات عبر العالم تعني تقسيما سياسيا.
لم يتم الاشارة في الدستور بشكل ضمني بل بشكل صريح وقطعي. غير اننا نشهد منذ صعود منظومة السبسي ردة علنية وصريحة. تمثلت في الممارسة عبر المماطلة في الانتخابات البلدية والبطء المقصود في اعداد مجلة الجماعات المحلية. وتجسمت ايضا في تصريحات موالين لها. اذ صرح مثلا نائب موال للسبسي اسمه وليد جلاد منذ شهر: "النظام السياسي اليوم جعلنا في هذه الوضعية، وهذه أكبر عملية تحيّل سياسي حدثت في تونس في عهد الترويكا التي تغير معها نظام الحكم والقانون الانتخابي إلى جانب الباب السابع من الدستور وتفكيك الدولة باللامركزية وهي كلمة حقّ يريدون بها باطلا أمام ضعف الدولة المركزية". وهو طعن مباشر في الدستور واعتباره بوضوح دستورا يخص احزابا محددة وليس دستور البلاد.
انضم احد وزراء الحكومة الحالية لهذه الحملة المعادية للدستور، وهو مبروك كورشيد اذ نقلت عنه هذا الاسبوع وسائل اعلام مختلفة تصريحات تطرق فيها إلى ما أسماه بـ”خطر الفتنة المحدق بتونس من خلال الباب السابع المنظم للحكم المحلي”، في تصريحات أدلى بها قبل دخوله حكومة الوحدة الوطنية. واعتبر كورشيد أن "أخطر ما في الدستور هو الباب السابع الذي أعطى طابعا انفصاليا للمحافظات والأقاليم التونسية"، مشيرا إلى أن "الباب السابع يشجع الجماعات على افتكاك السلطة من المركز ويجعله ضعيفا ليس لديه حتى حق الفيتو بل فقط اللجوء إلى القضاء".
تصريحات المرزوقي تأتي ضمن ايمان عميق بمفهوم الدولة العصرية، وقد عامل طاقمه في الرئاسة بين سنتي 2012 و2014 خاصة عبر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية الذي ترأسته آنذاك حول هذا الموضوع. انطلق عمل المعهد في فترة الرئيس المرزوقي على اساس رؤية تم صياغتها ونشرها على موقع المعهد في صيف 2012. وتم اختيار اهم محاور الدراسات التي تم الشروع فيها على اساس خلاصات هذه الرؤية. كانت هذه الرؤية قائمة على تصور لتاريخ تونس لاسيما منذ دولة الاستقلال حيث انتهى الى خلاصة فشل مشروع "الدولة الوطنية" التقليدية والذي ان حقق استقلالا رسميا فلم يحقق سيادة الشعب على ارضه ولم يحقق رفاهيته بل خلق دولة الغنيمة لمصلحة الاقلية على حساب الاغلبية. واحد اهم سمات هذا الاختلال هو دولة مركزية متضخمة في بيروقراطيتها وتمثل بنيتها المسوغ الاساسي لسيادة الاستبداد والفساد والهوة الكبيرة بين مجالين، المركز والهامش. وعليه وكان موضوع اللامركزية هو احد أهم المحاور التي تركز عليها عمل المعهد. وتم التعاقد مع ثلاثة باحثين (غازي بوليلة ومكرم منتصر وراسم مهدي) من اهم المختصين في الموضوع لانجاز دراسة انطلقت اخر 2013 وتم نشرها في ديسمبر 2014.
تصور الدراسة قائم على فلسفة الباب السابع من الدستور ويهدف إلى دمج الولايات في كيانات إقليميّة يمثّل استثناءا في التاريخ التونسيّ الذّي درج على منح السلطة الأعلى على المستوى المحليّ للولايات.
ترتكز رؤية المعهد بالأساس على مبدأ محوري يقوم على تكامل الولايات والجهات الأكثر تطوّرا وديناميكيّة اقتصاديّة واجتماعيّة مع الأخرى الأقل حظّا والأكثر تهميشا ضمن كيان إقليميّ موحّد لخلق حالة من التبادل الإيجابيّ لخصائص الجهات المدمجة ولضمان استفادة المناطق الأقل تطوّرا من نشاط الجهات الأخرى: "لتعزيز وتحقيق الارتباط بين المناطق المتقدمة والمناطق الأكثر حرمانا، سيتم انشاء مشاريع موحدة في المجالات الإستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية، والتي تشترك فيها أكبر عدد ممكن من جهات الإقليم الواحد."
رؤية المعهد تؤكد على أن اصلاح المنظومة البلدية-المحلية ومنظومة الجهة-الولاية يجب ان تكون وفق تصور استراتيجي لمنظومة لامركزية شاملة ولهذا يتم التركيز على اعادة هيكلة البلاد على اساس كيانات اقليمية. ويتمّ اعادة هيكلة اللبلاد وفق المشروع المطروح إلى خمسة أقاليم كبرى وفق المعايير التالية: البعد الوطني والدولي (بمعنى دمج المناطق الداخليّة بالسواحل)، البعد الوظيفي (بمعنى كثافة حركيّة السلع والأشخاص)، الفعاليّة (بمعنى الأخذ بعين الاعتبار مساحة الإقليم وعدد السكّان وعدد الولايات المدمجة ضمن الإقليم الواحد لتحقيق التكامل الاقتصادي)، النفاذ (بمعنى سهولة تنقّل السكّان)، التقارب الجغرافي (بمعنى الأخذ بعين الاعتبار قرب التجاور الجغرافي بين مختلف الجهات)، وأخيرا التوازن الاقتصادي والسياسي بين مختلف الأقاليم المستحدثة.
ووفقا لهذا التصور انتهينا لاقتراح خمسة اقاليم: اقليم مجردة (ولايات باجة وجندوبة والكاف وسليانة وبنزرت)، اقليم قرطاج (ولايات تونس الكبرى أي أريانة ومنوبة وبن عروس وتونس بالإضافة إلى ولاية زغوان)، واقليم الوطن القبلي والساحل (خمسة ولايات هي نابل وسوسة والقيروان والمنستير والمهدية)، اقليم الوسط الكبير (صفاقس والقصرين وسيدي بوزيد وقفصة)، واخيرا اقليم الواحات والقصور (ولايات مدنين، تطاوين، قابس، قبلي وتوزر).
بمعنى اخر الدولة العصرية التونسية القائمة على ديمقراطية تشاركية ستتعزز وحدتها بتقارب الدولة مع مصالح المواطنين والتماهي معها واسترجاع الثقة فيها عبر حكم محلي قريب من الناس يساهمون في تفاصيل تسييره. اما الاصرار على الدولة الرجعية المتخلفة فهو الذي سيقوي النزعات الجهوية المنجرة عن هيمنة اللوبيات وحكم دولة الفئات والخاصة، وهو الذي يستبب الان في نزاعات جهوية لاعقلانية ومنفلتة، ومن ثمة يهدد فعليا وحدة البلاد.
السبسي يحرف النظام الديمقراطي الى منظومة "تسلطية انتخابية"
"الحرقة": تسفير الشباب إلى المحرقة
دعوة البغدادي لاسالة الدماء: مستقبل داعش