بورتريه

"الأم أنجيلا" نادلة الحانة السابقة نحو تتويج رابع (بورتريه)

أنجيلا ميركل
أنجيلا ميركل
تسكن في الطابق الرابع في شقّة لا تتوفر فيها وسائل الترف في وسط برلين، ويسكن في الطابق الأسفل من المبنى حراسها، تتناول ستة أكواب من القهوة في اليوم، تحب التنزه والنوم لساعات طويلة.

تشاهد بانتظام في سوبر ماركت متدني الأسعار قريب من منزلها، وهي تتسوق بنفسها من راتبها السنوي الذي يصل إلى نحو 240 ألف يورو.

ترفض دائما إبراز أنوثتها في العمل السياسي، وتعترف هذه المرأة التي يوحي أسلوبها الرزين بالفتور والبرود، والتي كثيرا ما تتعرض لسخرية وسائل الإعلام على ما ترتديه من ملابس، بأن "الموضة ليست من هواياتي" لكنها تقر بأنها أصبحت مع مرور الوقت "تجد متعة أكبر" في اقتناء الأزياء، مبدية ميلا للألوان الزاهية.

أوروبا والعالم يعرفون تماما أن ألمانيا هي بيضة القبان والتوازن لأوروبا، وهي بوابة الاستقرار أو بوابة الفوضى.

ألمانيا التي تقودها سيدة من حديد هي الأقوى بين نساء العالم حسب البعض، تخطت بكثير النفوذ الأسطوري للمرأة الحديدية في بريطانيا مارجريت تاتشر، وباتت عنوانا وحيدا على قدرة أوروبا على حماية وحدتها وعملتها رغم التصويت البريطاني على الخروج من جلباب أوروبا.

ولدت أنجيلا ميركل في مدينة هامبورغ عام 1954، وانتقلت أسرتها إلى ألمانيا الشرقية حيث عمل والدها كاهنا، وكانت أنجيلا في شبابها عضوا ناشطا في منظمة "شباب ستالين"، وتخصصت في أثناء دراستها الجامعية في علم الفيزياء بجامعة لايبزغ، كما حازت على درجة الدكتوراه في الفيزياء في عام 1986 من الجامعة نفسها.

وفي 1974 وفي أثناء دراستها للفيزياء، تعرفت أنجيلا على زوجها الأول أولريش ميركل وهو زميل لها يدرس الفيزياء أيضا، وتزوجا فيما بعد في عام 1977 إلا أن الزواج لم يدم طويلا وسرعان ما انفصلا، ومع ذلك بقيت أنجيلا تحمل اسمه العائلي، والتزم الزوج السابق الصمت عن فترة حياته معها رغم محاولات الصحافة للحديث معه عن تلك الفترة.

وفي عام 1984 تعرفت في الأكاديمية على زوجها الحالي الكيميائي يواخيم زاور، الذي تزوجته في عام 1998.

 عملت ميركل في شبابها نادلة في حانة، بينما كانت تدرس الفيزياء في ألمانيا الشرقية إبان الحكم الشيوعي، وذلك وفقا للصحفية الألمانية باتريشيا ليسنير كراوس، في كتاب صدر مؤخرا لها يتحدث عن السيرة الذاتية لأول مستشارة ألمانية.

خلال سنوات قليلة صعد نجم ميركل بسرعة فائقة، لتتحول من عالمة فيزيائية مغمورة تعمل في أحد مختبرات برلين الشرقية؛ إلى سياسية أصبحت حديث الساعة في الحزب "المسيحي الديمقراطي" المحافظ.

وقبل انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية في أواخر الثمانينيات، نما حسها السياسي وبدت نشيطة أكثر في هذا المجال، تدعو لحرية سياسية أكثر لمواطني ألمانيا الشرقية، وهذا ما دفعها إلى الانضمام لحزب "نهضة الديمقراطية" في عام 1989 .

وبعد الوحدة الألمانية انضمت لحزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، وبدأت عملها السياسي في عام 1990 بتعيينها مساعدة للمتحدث باسم حكومة رئيس الوزراء الألماني الشرقي المحافظ لوثر دو ميزيار، وذلك قبل قليل من حصولها على مقعدها النيابي الأول في عام 1990، في أول انتخابات حرة في عموم ألمانيا الموحدة.

بعد الوحدة التحقت ميركل بمكتب المستشار السابق هلموت كول الذي شجعها ودعمها، واعتاد كول، الذي أتى بميركل إلى مجلس وزرائه في عام 1991، أن يخاطبها بشكل أبوي مستخدما كلمة "فتاتي"، وبعد عشر سنوات حملت ميركل لقب "الأم الشجاعة" بعد أن تولت مقاليد "الاتحاد المسيحي الديموقراطي" المهزوم في انتخابات عام 2000، دون أن تتردد في الابتعاد عن كول بعد كشف قضية الصناديق السوداء.

وبعد هزيمة كول في انتخابات عام 1998 أمام الحزب المنافس " الديمقراطي الاجتماعي" بزعامة غيرهارد شرودر، وسلسلة من الفضائح المالية التي هزت الحزب، استقال كول، وصعدت ميركل لتصبح الأمين العامة لحزب " الاتحاد الديمقراطي المسيحي"  في عام 2000، في سابقة تاريخية كأول امرأة وأول بروتستانتينية تتولى مثل هذا المنصب، في حزب له جذور مسيحية كاثوليكية متشددة.

وبعد توليها قيادة "المسيحي الديمقراطي" وقفت ميركل وقفة حازمة في الوقت الملائم كزعيمة تتعاطى بجدية مع تحديات الساعة، إذ تولت رئاسة هذا الحزب الذي هيمن عليه مستشار الوحدة الألمانية كول أكثر من 25 عاما في أصعب فترة مر بها في تاريخه.

نجحت ميركل في الخروج بالحزب إلى بر الأمان، بعد الكشف عن فضيحة التبرعات التي وضعته في مأزق أخلاقي تسبب في فقدانه المصداقية لدى الناخبين الألمان، وكانت "فتاة كول" هي أول مسؤول رفيع المستوى في الحزب" المسيحي الديمقراطي"، يهاجم المستشار السابق ويطالبه بوضوح بالكشف عن ملابسات هذه الفضيحة، التي لم يشهد هذا الحزب مثلها في تاريخه، وكانت بالنسبة لكول نوعا من الخيانة ونكران الجميل، وهي "الخيانة" التي لم يغفرها لها بعض قدماء الحزب.

حصل الحزب بزعامة ميركل على أعلى نسبة في الانتخابات النيابية التي جرت في عام 2005، بفارق بسيط أمام الحزب المنافس " الديمقراطي الاجتماعي" بزعامة غيرهارد شرودر.

 أتت النتيجة مفاجئة، حيث توقع المحللون حصول ميركل وحزبها على نسبة أعلى، بالرغم من ذلك، شددت ميركل على أحقيتها بحصولها على منصب مستشار ألمانيا، بينما زعم شرودر أحقيته بالبقاء في هذا المنصب، ولم يتمكن أي حزب من الحصول على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة، وكان على ميركل وشرودر الدخول في ائتلاف كبير.

تمكن الحزبان من الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلاف تقودها ميركل، لتصبح في تشرين الثاني /نوفمبر عام 2005 أول مستشارة لألمانيا وأول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية من شرق ألمانيا.

ورغم أن ميركل من الحزب المحافظ المعروف بكونه ضد الإنفاق الحكومي الباذخ، ومع تضييق الخناق
على العاطلين عن العمل، إلا أن سياستها تميزت بتسامح نسبي ومراعاة للطبقات الفقيرة وللعاطلين عن العمل، كما أن خططها الإصلاحية في الاقتصاد راعت الطبقات الفقيرة أيضا.

وتشدد ميركل على أهمية محور برلين- باريس في دفع عجلة الاتحاد الأوروبي، حيث كانت أول زيارة خارجية لها منذ توليها منصبها الجديد على سبيل المثال إلى باريس، وهذه عادة التزمها المستشارون الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، أي زيارة فرنسا أولا قبل أي دولة أخرى في العالم.

وتمثل ميركل الصوت الأعلى في حزبها ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كعضو كامل.
في موضوع الهجرة، عبرت ميركل عن آرائها في عدة مناسبات، ففي عام 2010 قالت إن تجربة التعددية الحضارية فشلت فشلا ذريعا في ألمانيا. لكنها قالت لاحقا في مؤتمر لحزبها إنها تأخذ على محمل الجد الجدل الدائر حول الإسلام والهجرة، وقالت: "إننا لا نعاني من وفرة في الإسلام، بل نعاني من قلة في المسيحية".

انحازت ميركل إلى خيار أخلاقي ومصلحي في مسألة اللاجئين، ودافعت عن مفهومها للعولمة ورفضت حصرها بحرية انتقال السلع والرساميل والتضييق على البشر. وهذا يعني فتح الأبواب لمن يطرقها من مهاجرين ولاجئين، وهو ما وضعها أمام فوهة مدافع اليمين.

ويرى اليمينيون أنها عرضت البلاد للخطر باستقبالها عام 2015 حوالي 900 ألف لاجئ هاربين من الحرب والفقر، فيما وصل حوالي 300 ألف شخص إضافيين عام 2016.

لكن كل ذلك لم يمنع رفاقها من إعادة انتخابها لرئاسة الحزب "الاتحاد الديمقراطي " في كانون الأول / ديسمبر الماضي، للمرة التاسعة وبأغلبية ساحقة.

ومباشرة أعلنت ميركل نيتها الترشح لولاية رابعة، وقالت في اجتماع لحزبها، في برلين، إنها تتوقع أن تكون أصعب حملة انتخابية تخوضها، متعهدة بـ "الكفاح من أجل قيمنا وأسلوب حياتنا".

ولا تبدو ميركل مرتاحة لنتائج الانتخابات المقبلة خصوصا مع صعود أسهم الحزب اليميني "البديل من أجل ألمانيا"، وكذلك لوجود روسيا في الحديقة الخلفية لأوروبا في أوكرانيا، مما تسبب في بناء علاقة متوترة بينها وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وقالت إنها لا تستطيع أن تستبعد التأثير الروسي على سير الانتخابات العام الحالي.

وهو ما ألمح إليه مدير المخابرات الداخلية الألمانية هانس غيورغ ماسن، معبرا عن قلقه من إمكانية أن تحاول روسيا التأثير على سير الانتخابات العامة القادمة، من خلال "نشر أخبار مزيفة في وسائل الإعلام".

وكان مسؤولون أمريكيون قد اتهموا روسيا بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو ما ينفيه المسؤولون الروس.

وكانت ألمانيا قد اتهمت وسائل إعلام روسية بشن حرب إعلامية ضد ألمانيا، التي تعتبر أكبر قوة اقتصادية وسياسية في الاتحاد الأوروبي.

ومن جانبها، حذرت الاستخبارات الفرنسية من إمكانية تدخل روسيا في الانتخابات الفرنسية التي يتوقع أن تجري في أيار / مايو المقبل.

نجحت أنجيلا ميركل التي باتت برأي أنصارها "زعيمة العالم الحر" بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة، خلال أحد عشر عاما من السلطة، في فرض أسلوبها الخارج عن الأنماط المعروفة، أسلوب يمزج بين الذكاء الشديد في خوض علاقات القوة، والبراغماتية القصوى التي تحمل أحيانا على اتهامها بعدم امتلاك قناعات، والافتقار إلى البراعة الخطابية.

ميركل وحدها بعد أن غاب نظراؤها السابقون عن الساحة الدولية مثل جورج بوش وتوني بلير وجاك شيراك وسيلفيو برلوسكوني ونيقولا ساركوزي وباراك أوباما وديفيد كاميرون، وهي لا تزال تمسك بزمام السلطة في ألمانيا وتستعد للترشح لولاية رابعة في المستشارية.

تبقى ميركل الملقبة في الصحافة الألمانية "الأم أنجيلا" أمل الألمان رغم الهجوم عليها بسبب سياسة الهجرة وعملية برلين الأخيرة، فهم يتخوفون من إحداث تغيير كبير ومفاجىء في سياسة البلاد، وتبدو ميركل خيار الضرورة في الانتخابات التي ستجري في أيلول / سبتمبر المقبل.

وينظر لها على أنها قوة استقرار في أوروبا، في وقت يسود فيه الغموض بعد تصويت بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة.
التعليقات (1)
ابو سامي
السبت، 07-01-2017 10:19 ص
اللهم ارزقنا بانجيلا في بلاد العرب و خلصنا من اولاد شحيبر الذين يحكموننا بسوط الظلم و الخراب