قضايا وآراء

العدالة والقوة

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في جلسة نقاش فكري شبابي أثير سؤال حيوي: هل علينا في هذا العالم المضطرب أن نلتزم بالمبادئ الأخلاقية، أم أن نحرص على امتلاك القوة والسلطة التي تجبر العالم على احترامنا؟ كان التوجه الغالب هو أن الحديث في العدالة والأخلاق في الواقع السياسي ضرب من المثالية الحالمة، وأنه ما دمنا في عالم لا يحترم إلا الأقوياء، فإن علينا أن نصارع من أجل القوة والهيمنة، حتى وإن اقتضى الأمر التغاضي عن التجاوزات الأخلاقية بل وتبريرها.

في سبيل البحث عن إجابة لهذا السؤال الجدلي دعونا نرجع خطوة إلى الوراء فنسأل: من نحن؟ وماذا نريد؟ 

إذا كنا أمة صاحبة مشروع رسالي حضاري فهذا يعني أن لدينا إضافة نود تقديمها إلى الإنسانية، وهذا يعني بالضرورة أننا لا نبحث عن الهيمنة والنفوذ لذات الهيمنة والنفوذ، بل إن مسعانا الرئيس هو أن نحدث فرقا إيجابيا في واقع العالم، ولو كانت القضية صراع نفوذ وحسب فليس هناك مبرر أساسا للتفكير في تغيير الوضع الراهن؛ إذ إنه ما قيمة أن ننهي هيمنة أمريكا على العالم وحيازتها للثروات لننشئ إمبراطورية إسلامية تهيمن بدورها على العالم وتستأثر بالنفوذ والثروات، وما الفرق بين أن تعاني الشعوب من التمييز واختلال العدالة على أيدي أناس أسماؤهم جورج وجون وديفيد أو على أيدي أناس أسماؤهم محمد وعبد الله وعلي! 

القرآن في روحه كتاب يناقض فكر الهيمنة والتوسع الإمبراطوري؛ إذ إنه لا توجد فيه دعوات للقتال في سبيل إعلاء راية قومية أو قطرية، إنما القتال في سبيل الله، أي القتال في سبيل مبادئ أخلاقية مجردة ضد الظلم والعدوان والإخراج من الديار، والقرآن يرسم نموذجا للمؤمنين بأنهم الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وأنهم الذين يأمرون بالبر والقسط والمعروف والإصلاح بين الناس ويدعون إلى كلمة سواء ألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، هذه المفاهيم التي تهيمن على أجواء القرآن والتي تلوناها مئات المرات في حياتنا هي أبعد ما تكون عن ثقافة الهيمنة وصراعات النفوذ والعلو التي تسيطر على العالم.

المؤمن لا يبحث عن نجاح بالمعيار القومي بل عن نجاح أخلاقي، ومثال إيران القريب منا جدير بالتأمل، فهذه الدولة التي انطلقت من مبادئ نظرية إسلامية واحتل الهتاف ضد أمريكا الشيطان الأكبر مساحة رئيسة في خطابها التعبوي مما شكل جذبا لآمال المستضعفين، استطاعت فعلا تحقيق مواقع تقدم في صراع الهيمنة في المنطقة وتراجع المشروع الأمريكي أمامها، لكن ما هي جدوى الانتصار الكامل في معركة النفوذ إن لم تكن تحمل رؤية أخلاقية أكثر تسامحا ورحمة بالضعفاء ممن سبقك! 

إيران تبدو حتى اللحظة ناجحة بالمعيار التقني والقومي، لكنها فشلت فشلا مدويا في الامتحان الأخلاقي حين زرعت الفتنة والخراب في دول الجوار وحين سخرت أموالها وجهودها في سبيل المد الطائفي عوضا عن أن تسخرها في سبيل تعزيز حقوق الإنسان، وحين انحازت بكل ثقلها إلى مجرم بحجم بشار الأسد وأمدته في غيه، إنني كإنسان مستضعف تحت حكم احتلال إسرائيل بت أسأل إن كان علي أن أفرح أو أحزن لو استيقظت يوما ما فوجدت إسرائيل قد محيت من الوجود على أيدي إيران وحزب الله وما الذي سيتغير جوهريا إن أزيلت إسرائيل وانتفشت إمبراطورية فارس، وأي فرق بين أن تقتلني بصواريخ الأف 16 في غزة أو أن تقتل أخي بالبراميل المتفجرة في سوريا بل تزيد بتمويته جوعا أيضا!

هناك من يقول إن علينا أن نمتلك القوة من أجل حماية المبادئ الأخلاقية، وقد رأينا ماذا يحل بالعدالة وحدها حين تخلو من قوة تساندها في مثال الرئيس مرسي!

نعم لقد كان الرئيس محمد مرسي مثالا للنزاهة العاجزة في مواجهة الفجور المتغلب، لذلك لا أدعو إلى الزهد في امتلاك وسائل القوة بل أن تكون القوة تابعة للعدالة وأن يكون مشروعنا الحضاري مبنيا على أسس أخلاقية واضحة وضمانات صارمة بعدم تجاوزها ولا بأس بعد ذلك أن نمتلك كل أدوات القوة اللازمة بل من الواجب ذلك، ليس عبثا أن يذكر القرآن مثال ذي القرنين الذي أوتي من كل شيء سببا أو مثال سليمان، وقد كان الرسول يستعيذ بالله من العجز والكسل، وفي القرآن مثل العبد الكل الذي أينما توجهه لا يأت بخير في مقابل من يأمر بالخير وهو على صراط مستقيم لا يستويان مثلا، إن القرآن يستفزنا أن نكون أقوياء فاعلين في الحياة، لكنها قوة لا تطغى ولا تعمى بل تنصر الحق وتقيم العدل.
 
 إن غلبة الأقوياء رغم عدم أخلاقيتهم ليس مبررا لنا للتهاون في الالتزام الأخلاقي، إننا إذا مثلهم. نحن ندعو العالم إلى شيء جديد، إلى عالم أكثر عدالة وأخلاقية، وإذا كنا نأسف على مصير الرئيس مرسي، فإننا لن نكون سعداء لو حدث العكس، ماذا لو أوتي الإخوان في مصر كل أدوات القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية فبسطوا نفوذهم ثم استأثروا بالحكم وحدهم وأنشئوا نسختهم الخاصة من الدكتاتورية وكتموا كل صوت معارض؟ إن الظهور وحده دون ضمانات بحماية العدالة لكل إنسان والتفوق الأخلاقي ليست شيئا يبعث على الفخر.

العدالة ليست قضية قابلة للتأجيل إلى مرحلة لاحقة بعد استتباب الأمن وسحق الأعداء، بل إن من الصعب على من أسس بنيانه من أول يوم على منطق القوة أن يستطيع بعد ذلك أن يتخلى عن هذا المنطق لصالح العدالة، العدالة يجب أن تكون ملازمة للمسار منذ البداية، إن من الوهم الكبير الاعتقاد بأن المراحل الأولى تقتضي التركيز على تثبيت الحكم فيتم التساهل والتبرير إزاء انتهاكات العدالة، لأن هذا التبرير لن ينتهي إطلاقا وستظل العدالة مرحلة إلى أجل غير مسمى، وحين يفطن العقلاء بعد فوات الأوان إلى أن المشروع يسير في الاتجاه الخاطئ يكون منطق القوة قد ثبت نفسه وتحكم في مفاصل القرار وغدا من العسير إصلاحه. 

في تجربة حكم حماس لقطاع غزة نذير، فالحركة حسمت الأوضاع عسكريا في قطاع غزة قبل تسع سنين، وكان المنطق السائد يومذاك أنها خطوة اضطرارية لا بد منها، وأنه بعد التخلص من الفلتان الأمني في قطاع غزة سيصبح من السهل التفرغ لتطبيق البرنامج الاجتماعي الإصلاحي الذي وعدت الحركة به الناخبين، لكن ما حدث أن الهاجس الأمني لا يزال هو المهيمن إلى اليوم، ولم تطبق الحركة برنامجها الاجتماعي وتم التهاون في كثير من التجاوزات ضد حقوق الإنسان بحجة أن هناك من يتربص بغزة ويدبر لها المكائد، إن الدرس الذي تقوله لنا تجربة غزة المصغرة هو أن المدخل الأمني لن يقود إلى العدالة، وأن من أسس علاقاته وأفكاره منذ البداية على منطق التغلب والقوة فسيظل محكوما إلى هذا المنطق.

حين تكون هناك رؤية حضارية واضحة تركز على العدالة لكل البشر فلن ننشغل بأهداف فئوية ضيقة بل سيكون خطابنا إنسانيا وهذه في ذاتها قوة لأننا سنكسب مناصرين من كل الأمم وسنتعاون مع الآمرين بالقسط من الناس لتكوين جبهة عالمية موحدة ضد الظلم والاستكبار، لا أتشجع كثيرا لاهتمامات بعض المسلمين في الغرب الذين يركزون جهودهم في المجتمعات الغربية من أجل إنشاء مركز إسلامي أو من أجل قضية النقاب أو قضية بناء المآذن لأن هذا اللون من الاهتمامات يحجم الرسالة العالمية التي جاء بها القرآن ويظهرنا كطائفة دينية لها مطالب فئوية ضيقة، إن قضيتي الرئيسة كمسلم أن أقاتل في سبيل حل مشكلات الجوع والفقر والحروب عبر العالم، إن علي أن أقنع المواطن الأمريكي أنني أحمل برنامجا إصلاحيا يحقق له ما عجزت دولته عن تحقيقه، وإذا كنت مواطنا سويديا فعليَّ كمسلم أن أقاتل في سبيل تحقيق عدالة وتنمية أكثر لكل المواطنين السويديين لا أن أنكفئ في حدود فئوية ضيقة.

القوة ليست أدوات في المقام الأول، بل تقاس بفاعلية الأفكار وقدرتها على المنافسة وفرض أهليتها الأخلاقية، وبهذا المعنى الواسع للقوة تصبح مشكلتنا الرئيسة اليوم هي في صياغة خطاب حضاري أخلاقي يقدم تصورات عملية للمشكلات الإنسانية الملحة، صياغة هذه الرؤية الواضحة أشد إلحاحا من امتلاك القوة العسكرية، لأنك حين تملك الأفكار القوية الفعالة وتلقي بها بين الناس وتلتزم بها عمليا فإن هذه الأفكار تملك القدرة الذاتية على الانتشار والمدافعة وكسب المناصرين لها من كل أمم الأرض، فإذا توفرت القاعدة الشعبية المتينة التي تؤمن بأطروحاتنا الأخلاقية يصبح توفير الأدوات الاقتصادية والسياسية تحصيل حاصل. 

إن من يمتلك وسائل القوة الفنية وحسب يصبح إمبراطورا يستأثر بالمصالح والنفوذ على سنة فرعون وأمريكا، لكن من يمتلك الرؤية الأخلاقية الواضحة فهو المؤهل لتصحيح انحراف البوصلة العالمية وإقامة القسط في الأرض.
التعليقات (2)
رائد أبو ناصر
الأحد، 14-02-2016 01:37 ص
بارك الله فيك وبارك عليك وجعل كلماتك العميقة في مزانك، ونقد ايجابي وراقي جداً. ولكن المشكلة والعقبة الكئود(( يا ليت القوم يعقلون، أو حتى يسمعون، أو يراجعون)).
محمود سيسونو
الجمعة، 29-01-2016 10:54 ص
مقال جيد جدا يعالج جوهر المشكلة المحلية والإنسانية من منطلق اسلامي صحيح وسليم تماما ويطابق ما وجه له القرآن الكريم.