قضايا وآراء

الأمن الذي يبحث عنه العالم

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
صدمات متتابعة من العيار الثقيل يتلقاها العالم في أرجاء متعددة لتعزز صورة فقدان الأمن وتفشي الخوف.

أربع حوادث كبيرة منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر وحتى الآن، الأول هو موجة عمليات الطعن والدهس ضد الإسرائيليين والتي أفقدت سكان دولة الاحتلال شعورهم بالأمن الشخصي، وأما التطور الثاني فهو إسقاط الطائرة الروسية في سيناء بعد أن ظنت روسيا نفسها في مأمن من عواقب المغامرة العسكرية في سوريا، وأن اللعب بالنار لن يحرق أصابعها، وأما الحادث الثالث فهو انفجار الضاحية الجنوبية الذي أوقع أكثر من 200 بين قتيل وجريح، ثم أخيرا ليلة باريس الدامية التي مثلت صدمة مدوية للغرب والعالم.

يتحسس البعض من ذكر أمثلة للعمليات ضد الإسرائيليين بحجة أن هناك خصوصية للحالة الفلسطينية، وأنه لا يجب ربطها بالعمليات المختلف عليها، وهذه الحساسية مردها القراءة السياسية للأحداث، لكنني هنا لست بصدد تقديم تحليل سياسي بل تقديم قراءة سننية وما يعنيه ذلك من البحث عن قانون موحد يفسر الظواهر البشرية، والظاهرة البشرية التي نتناولها هنا هي الخوف الذي يصيب المجتمعات البشرية وأسبابه، إن كلا من إسرائيل وفرنسا وروسيا والضاحية الجنوبية تشترك هنا في أنها قد أصيبت بحرمان نعمة الأمن بمقدار أو بآخر.

ما تتميز به سلسلة الحوادث الأخيرة هو توسع رقعة الشعور بالخوف في هذا العالم ودخول ساحات جديدة إلى بؤرة التوتر بعد أن كان الخوف محصورا في أماكن النزاع المباشر مثل سوريا والعراق ومصر، لكن الدارس المباشر لسلسلة الحوادث الأخيرة يجد أن المجتمعات التي كانت تظن نفسها في أمن صارت عرضة للاستهداف المباشر وتضرر مصالحها ومواطنيها، مما يعني أن تكلفة فقدان الأمن في منطقة من هذا العالم لن تظل محصورة داخل حدودها بل ستطال كل مكان.

ليس في كلامي شرعنة لسلوك العنف، بل هو محاولة لقراءة موضوعية للأحداث من على بعد مسافة فاصلة، في الموقف المبدئي، فإن قتل أي إنسان بريء هو عمل مدان غير مقبول دينيا ولا أخلاقيا، لكن الحياة لا تسير دائما وفق ما ينبغي أن يكون، إذ إن هناك حقائق اجتماعية وسياسية لها سلطان في صياغة الواقع، وإذا كانت تزعجنا النتائج فعلينا أن نرجع للبحث في الجذور التي وصلت بنا إلى الواقع الراهن.

إن بؤر التوتر لا تزال مشتعلة في العالم متمثلة في حياة الفقر والبؤس والحرب والاضطهاد التي يعيشها مئات الملايين حول العالم، هذا الفقر والظلم والحروب ليست ناتجة عن سوء توزيع طبيعي، بل هي المخرجات العملية لمنظومة اختلال العدالة المهيمنة على العلاقات الدولية، هذه المنظومة الدولية التي يقودها الكبار لا تجد حرجا في بقاء فلسطين واقعة تحت احتلال كولونيالي عنصري في القرن الحادي والعشرين، ولا تجد حرجا في دعم أو التغاضي عن جرائم أنظمة استبدادية تقتل شعوبها، ولا تجد حرجا في هيمنة 20 في المئة من سكان الأرض على 80 في المئة من ثرواتها، ولا تتداعى لحل مشكلة مليار جائع في هذا العالم، ولا تؤرقها حياة الفقر والبؤس والمرض التي يحياها مئات الملايين.

الأمن هو الحاجة الفطرية التي يبحث عنها كل الناس، لكن قانون الله يقول لنا إن الأمن لا يتحقق بالذكاء والحذر بل هو النتيجة الطبيعية لتحقيق العدل: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، وفقدان الأمن هو العقوبة الإلهية التي تطال الأمم التي يتفشى فيها الظلم: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَة ًمُطْمَئِنَّة ًيَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".

هذا هو المعنى الجوهري الذي يضيفه القرآن: لا أمن إلا بالعدل، بخلاف الفكرة السائدة في عالم السياسة التي تعتقد أن بإمكان المجرم أن يعيش آمنا مطمئنا ما دام يتمتع بقدر من الذكاء والدهاء يمكنه من الإفلات من أعدائه وأخذ الاحتياطات اللازمة بعد تنفيذ جريمته، وبذلك تتعزز اللا أخلاقية في السياسة، أما فلسفة القرآن فتقوم على أن الأمن هو رصيد نفسي قبل أن يكون واقعا خارجيا، فالمجرم الذي يرتكب جريمة قتل في بلده ثم ينجح في الإفلات من قبضة الشرطة والقانون وذوي الضحية لا يستطيع أن يعيش حياة سوية، بل تجده يكثر من الالتفات يمنة ويسرة خشية من عدو مجهول قد يفتك به في أي لحظة، وتجد شبح الجريمة يلاحقه في كوابيس مرعبة، كذلك الحاكم الذي يحكم شعبه بقوة السلاح والإرهاب تجده محاطا بالجند والأسلحة والأسوار المنيعة، ورغم ذلك تجد عينيه زائغتين ونبرات صوته مهتزة لأنه وإن أمن العدو الخارجي مؤقتا إلا أن تناقضه مع ناموس العدل الكوني يفقده الشعور بالأمن والطمأنينة.

هذا القانون الذي نستطيع ملاحظته بسهولة في المستوى الفردي موجود أيضا في المستوى الجماعي، فالمجتمعات التي يتفشى فيها الظلم والتمييز تتفشى فيها الجريمة أيضا وتتزايد مشاعر الكراهية والتحاسد وتربص الشر بين أفرادها، وإذا عممنا القانون على المستوى العالمي فإن ظاهرة "داعش" التي أرقت العالم في السنتين الأخيرتين ولدت وتغذت في سياق أجواء الإحباط التي أعقبت إجهاض الربيع العربي، فتوجه كثير من الشباب العربي إلى خيار العنف بعد أن سدت في وجوههم إمكانية الإصلاح عبر الوسائل السلمية، وإلا كيف نفسر انحسار فكر القاعدة وعملياتها عام 2011 بالتزامن مع مشاهد الاعتصامات السلمية في ميادين الثورة، ثم عودة هذا الفكر بقوة في نسخة تنظيم الدولة بعد انقلاب مصر عام 2013 الذي عزز الإحباط واليأس في نفوس الشباب العربي؟؟

في القوانين الاجتماعية هناك تعقيدات كثيرة وتشعبات وتفاصيل وهناك تداخل بين الوقائع الحقيقية وبين ألاعيب المخابرات، لكن في الصورة العامة لا يصعب الربط بين انتشار فكر العنف والتطرف في العالم وبين وجود بيئة حاضنة متمثلة في الظلم السياسي والفقر واليأس من إمكانية المشاركة الفاعلة في صناعة القرار وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن المنظومة الدولية حين تسكت على مجرمين كبار من أمثال بشار والسيسي وتتراخى في دعم إرادة الشعوب في الديمقراطية والاستقلال وتقدم مصالحها المباشرة على مبادئ دعم حقوق الإنسان وحريات الشعوب، فهي بذلك تساهم في إبقاء عناصر التوتر قائمة، وعليها أن تتحمل بشجاعة المسؤولية إذا طالتها شظايا هذا التوتر يوما ما.

أمام الدرس القاسي لتفجيرات باريس ومن قبلها تفجير الطائرة الروسية يمكن للدول الكبرى أن تسلك إحدى طريقين: فإما أن تهيمن عليها روح الانتقام وتزيد من إجراءاتها الأمنية وترتفع موجة العداء للمسلمين، وإما أن يتجه العالم إلى طريق العقلانية فتترسخ لديه قناعة أن بقاء أنظمة الاستبداد القمعية عبء لن يقتصر أضراره على الشعوب العربية بل إن الحريق التي تشعله هذه الأنظمة سيعبر القارات وسيحرق الجميع، وإن الطريق إلى الأمن لا يكون إلا بتعزيز العدالة وحقوق الإنسان والتنمية التي تقضي على مشكلات الفقر والجوع والقهر.

إن عالما تنتصر فيه كرامة الشعوب، ويقضى فيه على مشكلات الفقر والجوع والظلم، وتقوم منظومته الحاكمة على أساس المبادئ الأخلاقية لا على أساس المصالح التجارية، فتتدخل القوى الكبرى ضد أي نظام ينتهك حقوق الإنسان بغض النظر عن الحسابات السياسية، وتدعم حقوق الشعوب في أن تمثل نفسها وأن تنعم بخيراتها دون أن تنهبها الدول الكبرى، إن عالما بهذه المواصفات سيكون بيئة آمنة لأن أفكار العنف والكراهية لن تجد بيئة حاضنة تساعدها على الانتشار بل ستسود في هذا العالم قيم التعايش المشترك واحترام الآخر.

إنه ليس حلما طوباويا، بل هو مسار التاريخ حتما، لكن السؤال هو: بأي ثمن سيقتنع العالم أن مصلحته الحقيقية هي في العدل والعدل فقط!

"ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون".




جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربى21"

0
التعليقات (0)