قضايا وآراء

الحاجة إلى تثوير الخطاب الديني

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
قال أحدهم: "أظن أن الله سيجزيني قصرا في الجنة من كثرة ما نالني من ظلم على أيدي الناس"، قلت: "ولماذا لا تعمل يا صديقي ليرزقك الله بقصر في الجنة على مجاهدتك لهذا الظلم ورفضك له وانتصار العدل على يدك!"

الفرق هو في النظرة إلى حقيقة الدين، هل هو رسالة انسحاب من الحياة بحجة أنها قد ملئت ظلما وفسادا وأن الحياة الحقيقية هي في الدار الآخرة، أم أن الدين هو رسالة إيجابية لصناعة الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها وإقامة العدل بين الناس ثم يأتي الجزاء يوم القيامة للمؤمنين على عملهم الصالحات في هذه الدنيا وإقامة العدل ونشر الخير.

الدين هو رسالة عمل وثورة إصلاح وعدل بين الناس، ولا تستقيم حقيقة الدين إلا بالإيجابية في هذه الحياة، لذلك فإن القرآن لا يذكر الجنة إلا مقترنة بالعمل في هذه الدنيا: "جزاءً بما كانوا يعملون"، كما أنه ينبهنا في مئات المواطن إلى الطبيعة الإيجابية لمفهوم العمل الصالح حتى لا يصيبنا مرض النصارى الذين ابتدعوا الرهبانية فعزلوا أنفسهم في الصوامع والكنائس ولم تعد لهم مساهمة اجتماعية فاعلة في قضايا الحياة.

إن العمل الصالح الذي يدخلنا الجنة ليس الاعتكاف في المساجد والانعزال في الزوايا، بل هو كل عمل ينفع الناس ويحقق العدل في الأرض ويصلحها، فالعدل هو رسالة الأنبياء جميعا، "ليقوم الناس بالقسط"، والرسل أرسلوا لمجاهدة أقوامهم ولتكون لهم كلمة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الملحة، فموسى وأخوه هارون عليهما السلام بعثا برسالة تحرير شعبهما من استعباد فرعون: "فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ"، وشعيب عليه السلام جاء برسالة إصلاح اقتصادي لتقويم أوضاع ظالمة: "قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا"، أما يوسف عليه السلام فجاء بخطة عملية متكاملة لحل مشكلة المجاعة وتحقيق العدل في توزيع الأقوات بين الناس: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".

في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان فرض الجهاد والقتال في حقيقته نقلاً لمفهوم الدين من دائرة العلاقة الفردية بين العبد وربه إلى دائرة المدافعة والمساهمة الإيجابية الفاعلة في مواجهة الظلم والفساد. ولو كان الدين يقر ترك الدنيا لأهلها واعتزال المؤمنين في صوامع للتعبد لما كان هناك مبرر لفرض القتال.

التأمل في السياق التاريخي لتنزل أول آية في القتال يؤكد حقيقة الطابع الثوري لرسالة الدين، إذ يروى عن ابن عباس أنه قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: "أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن"، فأنزل الله عز وجل: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "فعرفت أنه سيكون قتال".

دعونا نتأمل في مقولتي أبي بكر رضي الله عنه قبل وبعد إنزال أول آية في القتال، لقد كان أبو بكر قبل نزول هذه الآية مشبعا بروح القصص القرآنية التي تقص هلاك الأقوام السابقة لما كذبوا بأنبيائهم وتدخل المعجزات الإلهية في هذا الإهلاك عبر الطوفان أو الصيحة أو الريح أو الخسف، فلما اتبعت قريش سنن الأقوام السابقة مع أنبيائها علم أبو بكر أن مصير قريش سيكون مثل مصائر تلك الأقوام ولعله استذكر قوله تعالى: "وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلا"، لكن حين نزلت آية: "أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا" علم أبو بكر أن الله تعالى لن يهلك قريشا بذات الطريقة المباشرة التي أهلك بها الأقوام السابقة، إنما بطريقة جديدة تكون فيها المدافعة وأخذ زمام المبادرة من قبل المؤمنين، وهذا المعنى يؤكده قول الله تعالى: "وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ"، ويؤكده أيضاً قوله تعالى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ".

إن كثيرا من المسلمين ينشغلون بتفاصيل المعنى الاصطلاحي للقتال وأحكامه لكنهم لا يتفطنون إلى المعنى التاريخي لفريضة القتال في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم رغم ما في هذا المعنى من ثراء حضاري، فالقتال لم يكن انتقالا من مرحلة السلم إلى مرحلة الحرب، بل كان انتقالا من مرحلة التدخل الإلهي المباشر لنصرة المؤمنين عبر المعجزات وخرق قوانين الطبيعة إلى مرحلة "أيدي المؤمنين" التي يتحول فيها الدين إلى رسالة إيجابية ومدافعة للظلم وفهم للقوانين الاجتماعية والسياسية والتاريخية والعمل بمقتضاها ليأتي النصر الإلهي بعد ذلك عبر القوانين الطبيعية الحتمية وليس عبر خرق هذه القوانين. وبهذا الفهم للسياق التاريخي لا يصير القتال قاصرا على الشكل التقليدي له وحسب، بل إن كل عمل إيجابي فيه مدافعة للظلم والفساد بأي وسيلة فاعلة، فإن فيه حقيقة القتال التي شرعها الدين.

ولتأكيد المعنى الإيجابي للتدين، فإن القرآن يعزز حضور الأعمال الصالحة ذات البعد الاجتماعي المتعدي نفعها، فهذه الأعمال الصالحة لا تتمثل في صلاة وصوم وحسب وإنما في الحض على طعام المسكين والتعاون على البر والتقوى، والإنفاق على الفقراء والمساكين وعمارة الأرض، والإصلاح بين الناس، والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة ذي القربى، وفي المقابل فإن الذنوب التي يذمها القرآن لا تتعلق بصلة العبد بربه وحسب، بل هي الأفعال التي تضر بالناس بل وبالطبيعة أيضاً: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ"، "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ"، "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"، "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ".

كل هذا الحضور المكثف للآيات التي تحذر من الإفساد في الأرض يستفز المؤمنين للخروج من زوايا العزلة في الحياة ولفهم رسالتهم الإصلاحية الإيجابية، فمشكلة الكفر ليست مشكلةً فرديةً تتعلق بداخل الإنسان وحسب، بل هي مشكلة متعدية ينال ضررها الناس والطبيعة.
 
إن من يقرأ "ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل" يعلم أن نهب الثروات واستهلاكها دون تقنين والحروب وقطع الأشجار وإفساد الطبيعة، كل هذه معاص تغضب الله تعالى، ومن يقرأ: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" يعلم أن للمؤمن دورا في حماية الطبيعة والحيلولة دون انقراض الكائنات والحياة من أسماك وحيوانات، ومكافحة أطماع الدول الغنية التي تضر بطبقة الأوزون وبالتوازن الحيوي في هذه الطبيعة.

إن الدين جاء بدعوة الانطلاق في هذه الحياة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأرض والنهي عن إفسادها وفعل الخير وإقامة العدل في كافة ميادين السياسة والاقتصاد والقضاء، وما الشعائر التعبدية مثل الصوم والصلاة إلا تدريبات روحية مكثفة تملأ داخل الإنسان بالطمأنينة والرضا لتكون عونا له على تحقيق غاية إعمار الأرض وإصلاحها، فإذا جاء قوم من المتدينين ظنوا أن الله يأمرهم بالانسحاب من الحياة والانشغال بالشعائر وحدها فقد ابتعدوا عن مراد الله تعالى وعطلوا الرسالة الإصلاحية للدين.
 
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً" وإذا أخذنا من هذا الحديث دلالته الرمزية، فإن تحول كل بقعة في هذه الأرض إلى مسجد لعبادة الله يفيدنا بابتعاد هذا الدين عن طبيعة الرهبنة والاعتزال، وأننا في كل شبر من الأرض مستشفى كان أم مدرسة أم برلمانا أم سوقا أم محفلا عاما، فإننا نستطيع أن نستلهم روح الصلاة فيه عبر أداء الرسالة التي رضيها الله لنا وهي أمر بمعروف وإقامة للقسط وإصلاح بين الناس، وبذلك تتحول الأرض كلها إلى محراب كبير نتعبد الله تعالى فيه، ونتحرر من الانفصام النكد بين الدين والدنيا، ففي كل شأن من شؤون الدنيا نستطيع أن نتعبد الله تعالى بالخير والعدل والإصلاح.

لا يخشى المفسدون في الأرض تدينا يأمر الاعتزال عن الحياة، بل إنهم يجدون في هذا النوع من التدين بغيتهم إذ إنه يساهم في تخدير الشعوب عن المطالبة بحقوقها التي ينهبونها،لكن ما يخشاه المفسدون هو الدين الذي يستفز صاحبه للثورة على الظلم والفساد ومنازعتهم امتيازاتهم ومكاسبهم التي حققوها على حين غفلة من الشعوب، هذا وحده هو الدين الذي يخشاه أعداء الله. 
التعليقات (0)