بورتريه

طلال سلمان.. صفحة من العروبة تجللت بالسواد مع رحيل "صوت من لا صوت لهم"

عربي21
عربي21
عرف بافتتاحياته المدوية وآرائه غير المهادنة في ما يتعلق بفلسطين والقومية العربية.

ناصري الهوى، عشق تجربة كمال جنبلاط ومواقفه القومية حين كانت البوارج الأمريكية تحط على شواطئ لبنان بدعوة من الرئيس اللبناني كميل شمعون.

مسيرة إعلامية وصحافية حافلة بالنجاحات والخيبات لـ"واحد من متخرجي بيروت، عاصمة العروبة"، كما وصف نفسه ذات مساء.

بداية طلال سلمان، المولود في بلدة شمسطار في محافظة بعلبك الهرمل بلبنان عام 1938 لأب شرطي فقير، كانت نهاية الخمسينيات من القرن الماضي في مجلة "الأنباء" التي كانت تصدر عن "الحزب التقدمي الاشتراكي" ثم تأثره بثورة كمال جنبلاط قائد الحزب ورفاقه على رئيس الجمهورية بشارة الخوري احتجاجا على تمديد ولايته الدستورية.

 ثم عمل مصححا لغويا في جريدة "النضال"، فمراسلا صحافيا في جريدة "الشرق".

وطغت اهتماماته السياسية بعض الوقت على عمله الصحافي فشارك في المظاهرات الطلابية التي خرجت في شوارع بيروت تأييدا للرئيس المصري جمال عبد الناصر وتأميمه قناة السويس عام 1956.. وفي عام 1958 شارك في الثورة ضد الرئيس اللبناني كميل شمعون احتجاجا على وصول البوارج الأمريكية إلى شواطئ بيروت لنصرته وبناء على طلبه.

اظهار أخبار متعلقة


وهو ما اعتبر خيانة قومية في جلب الأمريكان أعداء العرب في ذلك الوقت إلى أرض عربية.

ثم لاحقا قدمه والده إلى الصحافي اللبناني الشهير سليم اللوزي الذي كان تعرف عليه حين كان يحرس زنزانته في سجن الكرنتينا، واللوزي نفسه عثر عليه مقتولا عام 1980 في أحراج عرمون جنوب بيروت قرب مواقع للقوات الخاصة السورية، وحملت جثته آثار تعذيب شديد تضمن إحراق يده اليمنى بالأسيد.

عمل طلال سلمان في مجلة "الحوادث" مصححا ومحررا لصفحة بريد القراء ثم محررا فسكرتيرا للتحرير. ومع ولادة الوحدة بين سوريا ومصر قرر الذهاب إلى دمشق في عام 1958 لمقابلة عبد الناصر وكان هذا اليوم مفصلا محوريا في حياته الشخصية والمهنية لا يغادر ذاكرته.

انتقل بعدها مديرا للتحرير في مجلة "الأحد"، ولكن الأمن اللبناني قام باعتقاله في عام 1960 بتهمة تهريب السلاح إلى ثوار الجزائر، وقضى عشرين يوما في المعتقل وحين خرج من السجن وجد نفسه مفصولا من العمل.

واضطرته الظروف لأن يغادر لبنان في عام 1962 حيث شد الرحال إلى الكويت للعمل في مجلة "دنيا العروبة"، ليعود إلى بيروت ليعمل من جديد في "الصياد" و"الأحد".

النقلة الكبرى في مسيرته المهنية إصداره في عام 1974 جريدة "السفير" في بيروت حيث قرر الاستقلال والانفراد بصحيفة خاصة به، بدعم مالي من الرئيس الليبي معمر القذافي كما أشيع، ويقول إنه جاء على شكل قرض.

حملت الصحيفة شعار "صوت الذين لا صوت لهم"، كما حملت شعار "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان". مع شعار الحمامة البرتقالية حاملة الرسائل، و"البرتقال يعني الشام وفلسطين"، كما قال سلمان.

وتضمن العدد الأول مقابلة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (أبي عمار)، وفي اليوم التالي لصدورها أقيمت ضدها أول دعوى قضائية، تلتها 16 دعوى مع ختام العام الأول.

اظهار أخبار متعلقة


اتخذت "السفير" خطا عروبيا واضحا مؤيدا للشعب الفلسطيني ومناهضا لدولة الاحتلال. كما أنها عارضت أنور السادات وعنونت عددها الصادر بعد زيارته إلى القدس عام 1977: "الساقط عند المغتصب"، وعندما اغتيل، عنونت "إعدام السادات".

كانت "السفير" تجربة ثرية في الصحافة اللبنانية والعربية، وجمعت أسماء لامعة في الفكر والأدب مثل: عبد الرحمن منيف، سعد الله ونوس، طارق البشري، رفعت السعيد، ياسين الحافظ، عصمت سيف الدولة، عبد الرحمن الخميسي، كلوفيس مقصود. وفتحت صفحاتها أمام اتجاهات فكرية وسياسية كالناصرية والبعث والقوميين العرب والسوريين القوميين والعلمانيين والشيوعيين وغيرهم.

ومعهم طبعا ظهر الرسام الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، صديق وحبيب طلال سلمان، وعند إنتاج فيلم عن حياة ناجي وقام ببطولته نور الشريف عام 1992، ظهرت شخصية طلال سلمان على الشاشة ولعب دوره الممثل اللبناني ماجد الأفيوني.

وفي ذكرى استشهاد العلي قبل عام تقريبا كتب سلمان في صفحته على "فيسبوك": "تحية لرفيق سلاح لا يموت. ناجي العلي معنا: الأمس، اليوم، وكل يوم".

 أجرى طلال سلمان لقاءات مع العديد من الزعماء والقادة العرب.

اتسم بالتواضع وكان لطيفا وقريبا من العاملين معه وداعما لهم. وكان مزيجا من رهافة الوجدان السياسي والصلابة في الموقف، وكثيرا ما كاد أن يدفع ثمنا لمواقفه المعادية للصهيونية وحلفائها، فقد تعرض في عام 1984 لمحاولة اغتيال أمام منزله في رأس بيروت تركت ندوبا في وجهه وصدره. وكانت سبقتها محاولات لتفجير منزله، وكذلك عملية تفجير لمطابع "السفير" في عام 1980.

تماسك قدر استطاعته أمام العاصفة التي واجهت الصحافة الورقية لكنه اضطر في عام 2017 إلى إقفال جريدة "السفير"، وبرر تلك الخطوة بـ"انعدام السياسة" و"تغلب وسائل التواصل الاجتماعي على الصحف" و"انقراض القراء". وكأن واقع المهنة المر قد انتصر عليه، واختار سلمان افتتاحية العدد الأخير تحت عنوان "لعلها تكون أطيب تحية وداع"، وجاء فيها: "يحق لنا أن نلتقط أنفاسنا لنقول ببساطة وباختصار وبصدق: شكرا".

بعد إغلاق السفير، بقي طلال سلمان يكتب عبر موقع حمل اسمه واسم "على الطريق"، وهو عنوان زاويته الأسبوعية الشهيرة في "السفير".

أثرى المكتبة العربية بعدة مؤلفات من بينها: "مع فتح والفدائيين"، "ثرثرة فوق بحيرة ليمان"، "إلى أميرة اسمها بيروت"، "حجر يثقب ليل الهزيمة"، "الهزيمة ليست قدرا"، "على الطريق.. عن الديمقراطية والعروبة والإسلام"، "هوامش في الثقافة والأدب والحب"، "سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق"، "لبنان العرب والعروبة"، و"كتابة على جدار الصحافة".

رحل في أحد مستشفيات بيروت حيث كان يعالج بعد تدهور صحته خلال الأشهر الأخيرة عن 85 عاما، رحل الرجل الذي قال في افتتاحية سابقة له بعنوان "لماذا فلسطين؟": "زماننا يبدأ بفلسطين، ويمتد مع فلسطين من الماضي إلى المستقبل الذي سوف تشكله فلسطين بموقعها فينا وموقعنا منها".

قال ذات يوم إنه في يوم تحرير فلسطين، سيكون "المانشيت" الرئيسي لجريدة "السفير" هو "العيد"، وفتح ذراعيه ومد كلمة العيد على قدر استطاعته.

حين احتجبت "السفير" تركت فراغا وثقبا أسود كبيرا في مهنة الصحافة، وحين مات طلال سلمان سقط جدار آخر من قلعة الصحافة العربية، لم يسقط طلال سلمان بحبر المطابع ولم ينجح الرصاص في وقف نبضه، لكنها نهاية كل شيء.. الرحيل الموجع، ورحل "الأستاذ".
التعليقات (0)