أفكَار

حتى لا يتحول الصيام إلى مجرد مشهدية شخصية واجتماعية

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".. (الأناضول)
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".. (الأناضول)
يرى الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية، أن شهر رمضان يمكنه أن يتحول إلى مشهدية شخصية واجتماعية، إذا لم يتم تحصينه بكثير من الضوابط الأخلاقية التي من شأنها أن تجعل من فريضة الصيام جزءا من التصور الإسلامي الشامل لعمارة الأرض.


                                                     عبد الرزاق مقري

ويؤكد مقّري في سلسلة مقالات كتبها بمناسبة شهر رمضان وتنشرها "عربي21" بالتوازي مع نشرها على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن الأخلاق عماد التدين، وأنه بمراعاتها تتحقق الغاية ليس فقط من الصيام وباقي العبادات، وإنما من الوجود الإنساني.. ويشرح ذلك كالتالي:


التدين الصحيح حسن الخلق

لا شك أن شهر رمضان هو شهر الاستزادة في الطاعات والعبادات، على نحو ما سنتحدث عنه في السلسلة القصيرة الأولى عن: " أفضل الطاعات في رمضان" وأهمها الصيام والقيام. غير أن ثمة ما يجعل الإنسان يبلغ درجة الصائم القائم دون صيام ولا قيام، وهي الحالة السويّة التي يكون عليها في سائر أيامه، في شهر رمضان وغير شهر رمضان، وما جاءت الطاعات والعبادات المخصوصة في الشهر الفضيل إلا للتدريب عليها لتكون سمة لازمة فيه، ألا وهي حسن الخلق. روت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال؛ "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".

وكما أن الصيام والقيام يتطلبان مجاهدة النفس وإكراهها حتى يتحولا إلى عادة سلسة تستمر ما تم تعهدها، فكذلك الأخلاق الحسنة تتطلب المجاهدة حتى ترتفع النفس إلى مستوى العلياء فتأنف تلقائيا الانحدار إلى سفسافها، كما تتطلب المحافظةُ على الأخلاق السوية مجاهدةً دائمة من صاحبها، لكي لا ينقص رصيدها عند أحوال وأهوال المخالطة.

ولعظمة شأن الأخلاق الحسنة، جعلها الله تعالى أعظم ما يثقل الموازين وفق قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق". فهي لذلك أعلى صورة الكمال الإيماني التي يمكن بلوغها على نحو ما يبينه صاحب الخلق العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في الحديث الصحيح: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".

كما أن آثار حسن الخلق تصيب أصحابها في حياتهم الدنيا بعمارة الأرض وبركة الأعمار وفق ما جاء في الحديث الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم؛ "إنَّهُ مَن أُعْطيَ حظَّهُ مِنَ الرِّفقِ، فقَدْ أُعْطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ، وصلةُ الرَّحمِ، وحُسنُ الخُلُقِ وحُسنُ الجِوارِ، يُعمِّرانِ الدِّيارَ، ويَزيدانِ في الأعمارِ". فعلى أساس شيوع الأخلاق الفاضلة، تنهض الجماعات والجمعيات والأحزاب والدول والأمم، وكلما انحطّت الأخلاق وشاع سيّئها، أذنت المجموعات والتنظيمات والحضارات البشرية بالانهيار مهما بلغ شأنها من قبل.

لعظمة شأن الأخلاق الحسنة جعلها الله تعالى أعظم ما يثقل الموازين وفق قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق". فهي لذلك أعلى صورة الكمال الإيماني التي يمكن بلوغها على نحو ما يبينه صاحب الخلق العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في الحديث الصحيح: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".
إن الأخلاق هي الحال الذي يكون عليه الإنسان وتصرفاته  التي تصدر عنه تلقائيا دون تفكير تجاه الأوضاع النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها. والمصدر الأصلي لمعرفة حسن وقبح الخلق، هو الفطرة الإنسانية التي فطر الله عليها الإنسان كما جاء في قوله تعالى في سورة الروم: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)"..

 فالإنسان مخلوق على تلك الفطرة، ثم يطرأ ما يحرفه عنها وفق قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها". ثم قرأ أبو هريرة: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾. وكل مخلوق من ولد آدم أودع الله فيه معرفة المنكر من تلقاء نفسه، وفق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ أنه قال: "البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ".

وأرزاق الأفراد في الأخلاق مقسمة كأرزاقهم في المعاش، ثمة أخلاق فاضلة يهبها الله لبعض عباده جبلّة، وبعضها يكسبها الإنسان بالاجتهاد. فقد جاء في الحديث الصحيح  أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لِأَشَجِّ عبدِ القيسِ؛ "إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ"، فقال: أخُلُقَينِ تَخلَّقتُ بهِما؟ أم خُلُقينِ جُبِلتُ علَيهِما؟ فقال: "بل خُلقَينِ جُبِلتَ عليهما" فقال: الحمدُ للهِ الَّذي جبَلَني على خُلقَينِ يُحِبُّهما اللهُ [ورسولُه]. ولكن في حديث آخر حسن الإسناد: "إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، و مَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ".

أما المصدر الثاني لتشكل الأخلاق، فهو الأعراف والتقاليد والعادات التي تستقر في المجتمعات، حسنها وقبيحها، وهي التي تؤثر في المصدر الأول المتصل بفطرة الإنسان، بإحياء الحسن ودعمه أو تحريفه وبعث القبيح أو إضعافه وإطفائه.

وأما المصدر الثالث، فهو الوحي الذي ينزله الله على الأنبياء ليذكر به عباده ما استقر في أنفسهم من إيمان بالله وأخلاق حسنة ويصلح الانحرافات التي تطرأ على النفوس والمجتمعات. ولذلك اختصر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام رسالته، بأنه إنما بعث ليكمل النقص الذي طرأ على مكارم الأخلاق في حياة الناس، أي إن تلك الأخلاق مودعة في نفوس كل البشر مهما كانت الانحرافات الدينية والعقائدية والنفسية والاجتماعية التي طرأت عليهم.

إننا حينما نتأمل في أحوال البشر وتصرفاتهم نجد أن أكثرهم، أو كلهم يقرّ بقبح القبيح من الأخلاق وإن كان يقترفه، وبحسن الحسن من الأخلاق وإن كان لا يتصف به، وقد أردنا في هذه السلسلة الثانية في شهر رمضان أن نذكر بقرابة عشرين خلقا من مكارم الأخلاق المتعارف عليها بين الأمم، التي جاء ديننا الإسلامي لإعلائها، والتي نسأل الله تعالى أن يجعل صيامنا وقيامنا وسائر عباداتنا في هذا الشهر الكريم فرصة لنا جميعا لتجديدها في أنفسنا وإعلاء شأنها بيننا.

أفضل الطاعات في رمضان

يتميز شهر رمضان الفضيل بطاعات مخصوصة تتضافر كلها لتحقيق مقصد تشريعه إن رعاها الصائم خرج من الشهر، وكأنه ولد من جديد بفضل الله تعالى وهي:

1 ـ العناية بالصيام؛ فهو العبادة الأصلية لشهر رمضان الذي على أساسه تتحقق الغاية من الصيام،  فيكسب الصائم ما ينشده من صلاح وتقوى، وفق قوله تعالى في سورة البقرة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)".

والعناية بالصيام في شهر رمضان تكون بانصراف المسلم إليه إيمانا به، لا مكرها ولا مقلدا لغيره، قاصدا الأجر والثواب من الله تعالى كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانا وَاحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

فهو العمل الصالح الذي خصه الله بأن نسبه إليه دون سائر الأعمال، ما لم يفسده صاحبه بما يقع بين بعض الصائمين من مشادات وخصومات في شهر رمضان. وفق ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم".

ـ وعلاوة على هذا السبب الرئيسي المفسد للصيام المتعلق بالمشاحنة والخصومة بين الصائمين، فإن ثمة أعمالا سيئة كثيرة يجعل اقترافُها شهرَ رمضان مجرد مناسبة للمشهدية الشخصية والاجتماعية التي تمنع صاحبها من الارتقاء إلى مقام أجر الصيام ومقاصده، بل تزيده بعدا عن الله إذ لم يراع حرمة الشهر، فلم يُقوّم نفسه المنحرفة رغم تحريرها بتكبيل مردة الشياطين، وترَكها تغرق في أقوال وأعمال مشينة باطلة معوجة مائلة عن الحق، مغشوشة لا تصدر إلا عن أصحاب الجهالة والتفاهة، وهذه الأعمال كثيرة ومتنوعة بعضها ينتبه إليها الصائم ويتجرأ على اقترافها دون خوف من الله، وبعضها خفي أو مرتبط بالطباع يُقدم عليها وهو لا يشعر بأنها أفسدت صيامه، وهي كلها تدخل ضمن الحديث الذي رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".

العناية بالصيام في شهر رمضان تكون بانصراف المسلم إليه إيمانا به، لا مكرها ولا مقلدا لغيره، قاصدا الأجر والثواب من الله تعالى كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانا وَاحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ومما يُضيّع الصيام أعمال كثيرة أخرى تظهر وكأنها من المباحات أقل ما فيها من السوء أنها تُضيّع الوقت، فتحرم الصائم من اغتنام هذه الدورة التربوية السنوية المحدودة بثلاثين يوما سرعان ما تنقضي، وأخطر ما فيها أن الانشغال بها يفتح إلى أبواب كثيرة من الآثام المفسدة للصيام، ومن هذه الأعمال الانشغال بالمسلسلات والبرامج التلفزيونية التي تُعدّ خصيصا لشهر رمضان، والتي أصبح الكثير منها من تدبير المحاربين لله ورسوله الذين يقصدون كسر حرمة رمضان بين المسلمين، ومنها  المبالغة في تصفح الهاتف وما يعرض من مشاهد تافهة أو مفسدة للعقل أو المزاج أو الأخلاق والدين، ومنها الانشغال باللعب واللهو عن الذكر والمساجد والطاعات، ومنها كثافة الاتصال بالغير من غير طائل ولا مصلحة دينية أو دنوية، وما يجرّ ذلك من هدر للساعات والتورط في الغيبة والنميمة، ومنها السهر الطويل مع الأصحاب في ما لا فائدة منه سوى استهلاك الصحة والأوقات وربما ارتكاب الذنوب والآثام أو إمضاء أوقات كثيرة في الأسواق والإسراف في المشتريات، وإعداد الأطباق الكثيرة التي لا يؤكل منها إلا القليل، ومنها كذلك كثرة النوم التي تبلّد العقل وترهّل الجسم وتنقص الأجر، وتتسبب في الغفلة وقسوة القلب،  وما كثرة النوم إلا تفريط في الأوقات الثمينة التي يتيحها شهر رمضان، وإن هي في حقيقة الأمر إلا إنقاص إرادي للعمر.

والله الهادي إلى سواء السبيل.
التعليقات (0)