كتاب عربي 21

الديبلوماسية التونسية في مأزق تاريخي

صلاح الدين الجورشي
تتسبب تصريحات سعيد بأزمات دبلوماسية- جيتي
تتسبب تصريحات سعيد بأزمات دبلوماسية- جيتي
يبدو أن العلاقات التونسية الليبية مرشحة لتمر بأزمة جديدة، ويعود سبب ذلك إلى تصريح ورد على لسان الرئيس قيس سعيد تعرض فيه لملف قديم يتعلق بالجرف القاري. هذا الموقع البحري الغني بالنفط الواقع بين البلدين كان محل نزاع بينهما استمر ثماني سنوات، إلى أن قضت محكمة لاهاي الدولية في سنة 1982 بتبعية الموقع إلى ليبيا، رغم أن الطرف الليبي أبدى استعداده لتقاسم استثمار الموقع. هذا الحكم رضيت به تونس رغم أنه بدا للمسؤولين والخبراء حكما غير منصف، وحاولوا استئنافه دون جدوى. وبذلك أغلق الملف نهائيا، ولم يقع إثارته من جديد.

السؤال اليوم: ما هي الأسباب والدوافع التي جعلت الرئيس سعيد يعود إلى تلك الفترة الحرجة ويفتح هذا الملف الخلافي في هذه الظروف المختلفة عن السابق، وتحت وطأة أوضاع صعبة يعيشها البلدان داخليا وخارجيا؟

من المستبعد أن يكون الرئيس سعيد قد قصد بكلامه استفزاز الليبيين، فهو مغرم بسرد تفاصيل الماضي القريب والبعيد، وعندما يتحدث يتقمص شخصية الأستاذ وينسى في الغالب صفته الحالية باعتباره رئيسا للدولة. وفي الديبلوماسية يحاسب المسؤول السياسي على كلامه لا على نواياه، لهذا يعتبر الديبلوماسي الناجح هو ذاك الذي يحسن انتقاء عباراته ويتمكن من تركيبها في جُمل قد تكون أحيانا فضفاضة، وإن كانت تحمل في طياتها رسائل سياسية لا تخفى عن الخبراء في تفكيك اللغة الديبلوماسية. كما أنه يحسن اختيار التوقيت ويأخذ بعين الاعتبار السياق، لأن كلمة واحدة في غير سياقها يمكن أن تفجر حربا أو تولد خلافا بين دولتين.

من المستبعد أن يكون الرئيس سعيد قد قصد بكلامه استفزاز الليبيين، فهو مغرم بسرد تفاصيل الماضي القريب والبعيد، وعندما يتحدث يتقمص شخصية الأستاذ وينسى في الغالب صفته الحالية باعتباره رئيسا للدولة. وفي الديبلوماسية يحاسب المسؤول السياسي على كلامه لا على نواياه

الرئيس سعيد لا يُحسن هذا الفن لأنه لم يمارسه من قبل، فهو تعود على الخطاب المباشر الذي يفصح فيه عن قناعاته ويصدر أحكامه القاطعة كأستاذ جامعي. لكن رغم بقائه في السلطة أكثر من ثلاث سنوات، حافظ على أسلوبه وعلى عفويته التي أصبحت أحيانا تفاجئ المكلف بإدارة العلاقات الخارجية، الذي قد يجد نفسه يصحح أو يبرر أو يتبنى الخطأ ويدافع عنه مهما كانت النتائج والتبعات.

الليبيون غاضبون من تصريح الرئيس التونسي، قد لا يتطور الموضوع إلى أزمة عميقة بين البلدين، خاصة بعد الجهود الأخيرة التي بُذلت من أجل تحسين الأجواء بينهما، لكن المؤكد أن العلاقات لن تعود بسرعة إلى ما كانت عليه، فكلمات قيس سعيد جعلتهم يعتقدون بأنه في قرارة نفسه يعتبرهم سيطروا على جزء من الثروة الوطنية التونسية.

ليست هذه المسألة الوحيدة التي أثارت الغبار حول علاقات تونس الخارجية. فما حصل عند استقبال الرئيس لممثل البوليزاريو لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم، والسفير المغربي لم يعد إلى تونس، ولا تزال العلاقات الثنائية بين البلدين باردة، وتونس لم تجن من وراء تلك الحركة غير المدروسة أي شيء.

وبسبب تلك الكلمات التي نطق بها الرئيس سعيد، والتي اعتبر فيها أن تونس مهددة في وجودها وهويتها، وذلك من خلال تنفيذ خطة تغيير ديمغرافي ينفذها الأفارقة من جنوب الصحراء. هذا التصريح وجملة الإجراءات التي اتخذتها السلطة لمواجهة هذه "الخطة" أحدث شرخا بين تونس وأفريقيا من جهة وبين تونس والعالم من جهة أخرى، خاصة منظمات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي وصفها بـ"التصريحات غير المسؤولة". كما ترتب عن ذلك بذل جهود مكثفة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورة البلد التي اضطربت كثيرا.

بسبب تلك الكلمات التي نطق بها الرئيس سعيد، والتي اعتبر فيها أن تونس مهددة في وجودها وهويتها، وذلك من خلال تنفيذ خطة تغيير ديمغرافي ينفذها الأفارقة من جنوب الصحراء. هذا التصريح وجملة الإجراءات التي اتخذتها السلطة لمواجهة هذه "الخطة" أحدث شرخا بين تونس وأفريقيا من جهة وبين تونس والعالم من جهة أخرى

تستمد الدول قيمتها ووزنها ورصيدها المعنوي والمادي من شبكة علاقاتها الخارجية، فكلما كانت هذه العلاقات جيدة ومنفتحة كانت صورة البلد مشرقة وكانت الدولة محترمة. في المقابل كلما كانت الصورة سيئة ومقدوحا فيها عاشت البلاد عزلة قاسية ومؤلمة. فالتونسي عندما يسافر يحمل معه صورة بلاده معه، فهي بمثابة جواز سفره الحقيقي نحو العالم، تفتح له المجالات والآفاق كلما كانت الصورة برّاقة ومشرقة، أو تغلق الأبواب في وجهه وتثار حوله الشكوك وتطرح عليه الأسئلة المزعجة كلما كانت الأحداث في بلاده مضطربة ومتعارضة مع الحقوق والحريات.

الكلمة لها سحرها، يمكنها أن تفتح لك الآفاق والقلوب، وتسمح لقائلها بالارتقاء إلى أعلى المراتب، لكنها في المقابل يمكن أن تهوي بأصحابها إلى أسوأ الدرجات عندما تقال في غير سياقها، أو يساء اختيار العبارات فيساء فهمها وتؤدي إلى نتائج متناقضة مع النوايا. لهذا مرة أخرى السياسة الخارجية التونسية في حاجة إلى إنقاذ سريع قبل أن يسقط الفأس على الرأس.
التعليقات (1)
krimo
الثلاثاء، 21-03-2023 04:15 م
استقبال سعيد لرئيس الجمهورية الصحراوية عضو الإتحاد الإفريقي كان في إطار اجتماع هذا الأخير في تونس وأي رئيس دولة يتحتم عليه أستقبال ابراهيم غالي ممثلا شرعيا لشعب الصحراء.