كتب

تاريخ مدينة دمشق.. سيرة فكرية وعلمية

كتاب يؤرخ لأهم المذاهب الفقهية التي قامت في دمشق ولأسرها العلمية وفقهائها ومدارسها وتطور التعليم بها.
كتاب يؤرخ لأهم المذاهب الفقهية التي قامت في دمشق ولأسرها العلمية وفقهائها ومدارسها وتطور التعليم بها.
الكتاب: الشام شريف.. دور الفقهاء في المجتمع الدمشقي في العهد العثماني
الكاتب: محمد شريف الصواف
الناشر: دار أفنان ط1، دمشق 2014
عدد الصفحات: 960 صفحة


1

يراد بالعبارة [الشام شريف] عند الاستعمال الدقيق، المنطقةَ التي تضم اليوم فلسطين والأردن، وسوريا ولبنان وتحدُّها بلاد الأناضول شمالا، وشمال جزيرةِ العرب وسيناء جنوبا والعراق شرقا والمتوسط غربا. وتنعت بالشريف أو المبارك للإشارة إليها في سورة الإسراء، عند قوله تعالى: "سبحانَ الذي أسرى بعبدِهِ ليلا من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنَا حولَه". أما في بعض الاستعمالات الخاصّة، ومنها الاستعمال الجاري في أثر" الشامَ شريف: دور الفقهاء في المجتمع الدمشقي في العهد العثماني" للباحث محمد شريف الصواف، فتشير إلى مدينة دمشق. وهذا ما يبينه العنوان الفرعي، ويصدقه المتن الذي يعرض تاريخ المدينة علميا وإداريا واقتصاديا.

وليس هذا المؤلف، الكتاب الوحيد الذي صُنّف في خصائص المدينة وتاريخها، قديما وحديثا، ولكن ما يميّزه هو بعده التوثيقي؛ فقد أتى على عناصر كثيرة من مختلف مظاهر الحياة الفكرية للمدينة في العهد العثماني، فخاض في أهم المذاهب الفقهية التي قامت فيها وأرّخ لأسرها العلمية وفقهائها ومدارسها وتطور التعليم بها.

2

يعرض الأثر شيئا من تاريخ مدينة دمشق قبل وقوعها تحت السلطة العثمانية، فقد أحكم تيمورلنك قبضته عليها سنة (803ه ـ 1401م) بعد انسحاب السلطان المملوكي، فكان نصيبها التدمير واستباحة دم أهلها، ثم غادرها بعد ثمانين يوما مخلفا وراءه ركاما من الجثث، بعد أن هدم القصر الأبلق وحرق الجامع الأموي. وتواصلت فوضى الحكم والتّدهور السياسي والأمني والاقتصادي لأكثر من قرن، "وهكذا كانت دمشق عند دخول العثمانيين إليها مثقلة بالخراب، وأهلها في ضائقة اقتصادية كبيرة". فقد استسلمت إلى سليم الأول دون مقاومة؛ إثر انتصاره على جيش المماليك بقيادة السلطان الغوري في مرج دابق شمال حلب بعد 217 سنة على تأسيس الدولة العثمانية.

وليضمن نهضتها من جديد، عوّل السلطان العثماني على معرفة حاكمها بأحوال أهلها، فأبقى على نائب الشام زمن المماليك جانبردي الغزالي واليا عليها. واتضح لاحقا أنّ هذا التدبير لم يكن حكيما؛ فإثر وفاة سليم الأول، حاول هذا النائب الانفصال عن السلطة العثمانية والاستئثار بحكم طرابلس، غير أنه انهزم عند مواجهته لجيش سليمان القانوني وقُتل، وأعيد عندها تنظيمها الإداري لضمان ولائها؛ فتم تقسيم بلاد الشام عامّة إلى ثلاث ولايات؛ هي: طرابلس وحلب ودمشق، التي اتخذت مدينة دمشق عاصمة لها، ثم تم تغيير اسمها ليضحى ولاية سوريا. وكان ولاتها ومتقلدو المناصب الكبرى عامة من غير الدمشقيين. وبالمقابل، كان للأعيان الذين تقربوا من الولاة أو من مجلس إدارة الولاية دور ونفوذ.

على المستوى الاقتصادي، ازدهرت التجارة في كل من دمشق وبيروت بعد توقيع اتفاقية المرافئ بين فرنسا والدولة العثمانية 1535، منها تجارة الحرير والمنسوجات خاصّة. فبُني سوق للخياطين وازدهرت تبعا لذلك الصناعات الدمشقية، ثم عاودت الازدهار ثانية في القرن الثامن عشر، بعد أن تراجع في القرن السابع عشر، مستفيدة من تطور المنتوجات الفلاحية في جنوب الشام ومن تراجع دور مدينة حلب. فظهرت أسواق مهمة مثل سوق الذراع للثياب وسوق الذهب وسوق الكوافين، وغير ذلك من الأسواق التي ترتبط بالمهن والصنائع.

ولم يبحث محمد شريف الصواف في الحياة الاقتصادية للمدينة إلا ليصل بين التجارة والحياة العلمية والدينية، فقد أغرى مرور قوافل الحج بدمشق عديد العلماء للانخراط في التجارة، ومنهم من كوّن منها الثروات الطائلة، ونال بذلك الحظوة الاجتماعية التي دعّمت حظوته الدينية. يذكر الباحث من بينهم الشيخ تاج الدين بت أحمد الماحسني وابنه الشيخ إسماعيل ق 17م والشيخ محمد بن مصطفى النابلسي ق18 م.

3

يؤرخ الباحث لانتشار المذاهب الفقهية بالمدينة مبرزا حركيتها بين صعود ونزول؛ فقبل أن يستقرّ الحكم للعثمانيين، كان أغلب أهل الشام على مذهب الفقيه الشّامي الأوزاعي (ت 157 ه)، ثم انتشر المذهب الشافعي بدعم من بعض أتباعه حتى وصول الفاطميين، الذين فرضوا المذهب الإسماعيلي مذهبا رسميّا للدولة. ثمّ لمّا آل الأمر إلى السلطان نور الدين زنكي (ت 569)، عزّز من وجود المذاهب الأربعة، وانحاز أكثر إلى المذهب الحنفي وبنى له المدارس. وإثر موته، دعم الأيوبيون الشافعية فانتشر المذهب في الشّام من جديد؛ فكانوا عامّة يسندون منصب قاضي القضاة لفقهاء الشافعية، ويجعلون نائبه من فقهاء المذهب الحنبلي. أما أتباع المذهب المالكي فكانوا قلة، وكان أغلبهم وافدا من بلدان المغرب الإسلامي. ومثل العهد العثماني طور بروز المذهب الحنفي؛ فقد دعمته السلطة.

قبل أن يستقرّ الحكم للعثمانيين، كان أغلب أهل الشام على مذهب الفقيه الشّامي الأوزاعي (ت 157 ه)، ثم انتشر المذهب الشافعي بدعم من بعض أتباعه حتى وصول الفاطميين، الذين فرضوا المذهب الإسماعيلي مذهبا رسميّا للدولة.
ولم يكن الإفتاء في دمشق قبل العهد العثماني حكرا على عالم بعينه. ولم يكن ينصّب من السلطان. فقد يجد المرء أكثر من مفتٍ على المذهب الواحد ويسمى مسند إفتاء. وعندما دخل السلطان سليم دمشق، عيّن مفتيا رسميا لكل مذهب،  ثم أحدث العثمانيون مفتي السلطنة وأطلق عليه لقب شيخ الإسلام، واختاروه من بين أتباع المذهب الحنفي. وجعلوه لاحقا من أهمّ المناصب بعد رئيس الوزراء، الذي كان يسمّى الصّدر الأعظم؛ فتراجع دور المذاهب الأخرى، خاصّة بعد أن تحول كبار الحنابلة والشافعية إلى المذهب الحنفي؛ رغبة في الاستفادة من الوظائف الدينية التي كادت تقصر على الأحناف. ويذكر من بين هؤلاء علماء آل الفرفور وآل النابلسي الشافعيون وعلماء آل الأسطواني الحنابلة. ومع ذلك، ظلّ المذهب الشافعي منافسا للمذهب الحنفي لتجذّره في البيئة الدمشقية. وينتهي الباحث إلى ملاحظة مهمّة؛ فرغم تعدد هذه المذاهب وتنافسها، غلب التسامح  والتعايش على أتباعها.

4

وعرض الأثر شيئا من خصائص الحياة العلمية الدمشقية في العهد العثماني، وتضمّن ترجمات للأسر العلمية، ذاكرا أصولها وإسهاماتها، ثم عرض ترجمات لأشهر الفقهاء الدمشقيين وبوبها بحسب انتماء أصحابها المذهبي، وعرّف بأسانيدهم ومؤلفاتهم،  وبدور التعليم وتطورها واختصاصاتها.

ويؤكّد محمد شريف الصواف، أن الاهتمام بمختصرات المؤلفات قد ساد بين أعلامها، وكانت غاياته مدرسية تستهدف تيسير حفظها. ولكن هذا الاختيار أفضى إلى غلبة النقل بدل استيعاب المسائل، وتمثل الآراء المختلفة فيها وحجج أصحابها، فظهرت الحواشي والتقريرات التي تشرح غريب المتون المختصرة الملغزة. وتساهل العلماء في منح الإجازات دون متانة علم المُجاز أو طويل مجالسته للعلماء والأخذ منهم. وكثيرا ما كانت حيازة المناصب العلمية تتم بالوراثة أو تسند بالرشوة، فأصبحت بعض المناصب العلمية كالفتوى والقضاء أو التدريس والإمامة في المدارس والمساجد الكبرى، تورّث من العالم المتوفى إلى أخيه أو ولده، وإن كان هذا الوريث غير أهل لهذا المنصب العلمي. وعندما يكون وريث منصب الإمامة أو التدريس صغيرا، يقوم أحد العلماء الأكفاء، وكيلا عنه. وتكشف الترجمات المضمّنة احتكار بعض العائلات لهذه المناصب فعلا.

ومن مظاهر التدهور العلمي في هذا الطور من الحياة الفكرية الدمشقية، رفض فتح باب الاجتهاد؛ فدارت الخلافات بين الفقهاء حول جوانب ثانوية شكلية لا تهم حياة الناس.

5

من الأحداث الكبرى التي شهدتها دمشق في عهد العثمانيين وأثرت عميقا في ثقافتها وفق الأثر، احتلال محمد علي باشا الشام وإعلانه الحرب على الدولة العثمانية. ففي 1247هـ، حدّ الفرنسيون والبريطانيون من أطماع محمد علي للتوسع باتجاه الغرب الإسلامي، وشجعوه بالمقابل على توجيه جيوشه إلى الشّام ثم الأناضول؛ لمزيد إضعاف الدولة العثمانية من جهة، وللتصدّي للتوسع الروسي الزاحف باستمرار من جهة ثانية. فجعل من إيواء عبد الله والي عكا مصريين فارين من التجنيد أو من ابتزاز عبد الله للتجار المصريين ذريعة لهجومه. ودفع بجيوشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا. فوصل إلى دمشق وسيطر على بلاد الشام كافة، وحكمها لثماني سنوات (حتى 1255 ه).

من الأحداث الكبرى التي شهدتها دمشق في عهد العثمانيين وأثرت عميقا في ثقافتها وفق الأثر، احتلال محمد علي باشا الشام، وإعلانه الحرب على الدولة العثمانية.
ولئن أصلح الإدارة ونشر الأمن ونمّى الاقتصاد، فاستعادت المدن عمرانها القديم، فإنه شجّع البعثات التبشيرية الغربية بالمقابل. فنُقلت مطبعة الإرسالية الأمريكية من مالطا إلى بيروت. وزودت الأديرة بمطابع أخرى، "في إطار حرص الدّول الأوروبية على حصر المطابع في يد المسيحيين فقط؛ حتّى تتمكّن من تحقيق أهدافها، في ظلّ عجز المسلمين عن امتلاك وسيلة للتعبير عن آرائهم أو نشر أفكارهم في هذا المجال".

ويتهم الباحث محمد علي بإثارة النعرات القومية والمذهبية، و"بث روح التّمرّد لدى غير المسلمين". ولكن موقفه هذا يتناقض مع الخلاصة التي ينتهي إليها من حكم المصريين للشام. فيقول لاحقا "كان عهد إبراهيم باشا في دمشق عهد استقرار ورخاء على الإجمال، ولم يكد المصريون يخرجون [كذا]، حتّى عادت البلاد إلى الفوضى وثارت العداوات القديمة في الصّدور".

6

لكتاب "الشام شريف: دور الفقهاء في المجتمع الدمشقي في العهد العثماني"، أهميته التوثيقية بكل تأكيد، منها: عرضه لتراجم كبار علماء المدينة في العهد العثماني، وتعريفه بمدارسها الفقهية، وإحصاؤه لمصنّفاتها العلمية، وبحثه في أثر أعيانها وعلمائها في نهضتها الفكرية. فهو أثر موسوعي يختزل الجهد لمن يدرس تاريخ المدينة من مستويات متعدّدة، ويكفيه عبء البحث في المدونات المختلفة. ولكن تكاد قيمته تنحصر في هذه الخلة، أي في تجميع المعلومات الكثيرة من مضانها الأصلية.

وبالمقابل، يعاب عليه إدراجها دون تحكيك أو تحليل. وهذا ما أوقعه في مواقف مختلفة لاختلاف المراجع التي ينقل عنها، كأن يدوّن "كانت دمشق في عهد العثمانيين واحدة من أبهى وأجمل وأعظم مدن هذه الإمبراطورية الشاسعة وأكثرها رفاها. وقد شهدت دمشق في عهد العثمانيين نهضة تجارية وعمرانية وعلمية"، ثم يناقض نفسه فيذكر: "وكانت أيام حكم العثمانيين بدمشق بالمجمل أيام شدة على العامة واضطراب؛ فقد ازدادت المكوس والضرائب وكثر فساد جيش الدولة من الانكشارية والسهابية والقابي قول، وتصارعت هذه الجيوش مع القوات المحلية البرلية". ومثل هذا كثير جدا.

7

لم يخل الأثر من تصوّرات تقليدية رغم حداثة تأليفه، كأن يصف الأهالي المتمردين على الحكام لكثرة المكوس بالرعاع والغوغاء والأوباش الثائرين. ولم يخل كذلك من ردّة الفعل الآلية التي تحكم بعض الفكر المحافظ، وهي تخوين كل رموز الحداثة وتصوير حرصهم على تطوير بلدانهم من منظور ليبرالي، يشجع على الحريات، مؤامرة غربية تُفيد من خيانة القادة المحليين، واعتبار سياساتهم تواطؤا على الشريعة لبسط نفوذ الأمريكيين والأوروبيين، وتحقيق مصالح البلدان الغربية على حساب المصالح الفضلى للشعوب المحلية المسلمة. ونخصّ هنا  عمل محمد علي باشا على النهوض بالشعوب الإسلامية بعد عهود طويلة من الانحطاط الحضاري.  فيتهم ابنه إبراهيم باشا بأنّه "قاد البلاد باتجاه الثّقافة الغربية، مبتعدا عن الشريعة الإسلامية شيئا فشيئا، وكان هدفه في ذلك كلّه إضعاف الدولة العثمانية".

ولا شك أنّ مثل هذا الموقف، يشكّل موضوعا شائكا شائعا بين مفكّرين كثّر. ولا شكّ أنه  لا يعني تجربة محمد علي فحسب، وإنما تجارب أغلب رموز "الدولة الوطنية" منذ عصر النهضة. ولكن الفكر العربي لم يتوقف عندها بعد، بالنّقد العميق استنادا إلى المعطيات المادية الثّابتة.
التعليقات (0)