كتاب عربي 21

أفٍّ عليه من رفاه

جعفر عباس
تشهد الولايات المتحدة حوادث إطلاق نار دامية وقع بعضها في مؤسسات تعليمية- جيتي
تشهد الولايات المتحدة حوادث إطلاق نار دامية وقع بعضها في مؤسسات تعليمية- جيتي
قبل أيام قليلة فتح طالب في مدرسة ريتشنيك الابتدائية، في ولاية فرجينيا الأمريكية، النار على معلمته أبيغيل زورنر، لأنها زجرته ونهته عن الشغب، ويبلغ الجاني من العمر ست سنوات، وكان قد جاء إلى المدرسة حاملا المسدس الذي يخص والدته، مما يشي بأنه افتعل المشاغبة كي يجد ذريعة لإطلاق النار على المعلمة، وهكذا افتتح هذا الطفل "موسم" عام 2023 بجريمة صارت مألوفة في الولايات المتحدة، فقد شهد عام 2022 ستمائة وتسعة وعشرين حادث إطلاق نار داخل مؤسسات تعليمية، أسفرت عن مصرع 39 شخصا وجرح 101 إصابات 18 منهم مُقْعِدة، وتداعى عقلاء الحزب الجمهوري الأمريكي لحث المعلمين على التسلح، وحث إدارات المدارس والجامعات على الاستعانة بفرق أمن مسلحة، باعتبار ان ذلك يضمن استمرار الامريكان في التمتع بحرية التسلح.

إذا كان ثمة مجال نتفوق فيه نحن أهل الشرق على الغربيين، فهو مجال العافية النفسية، فبالمعيار المادي قد يكون الشرقيون أقل سعادة، ولكنهم وبالمعيار الموضوعي أقل عرضة للاضطرابات النفسية والعاطفية، ففي الفترة 2019-2020، عانى 21% من الأمريكان مثلا، أي نحو 50 مليون شخص من علة نفسية، ولكن معظمهم لا يجد أي قدر من الرعاية الصحية التي لا يجد الفقراء اليها سبيلا، لأن مظلة التأمين الصحي لا تتسع لهم، وإذا كان اليهود ـ كما يرون أنفسهم ـ "شعب الله المختار"، فالأمريكان هم شعب الله المسطول، لأنهم أكثر أهل الأرض استهلاكا للمخدرات، ومع هذا فإن أكثر من 93% من مدمني المخدرات لا يجدون عونا يخلصهم من الدمار الصحي جسديا ونفسيا، وتفيد دراسات مسحية أجرتها هيئات صحية مرموقة أن الأمريكان أيضا أكثر الشعوب ميلا للانتحار، بسبب تفشي الاعتلال النفسي، ولا ينافسهم على ذلك المركز سوى الأوكرانيون (منذ ما قبل تعرضهم للغزو الروسي)، يليهم اليابانيون واليونانيون والكوريون الجنوبيون، ففي العام 2020 انتحر 45799 أمريكيا (مقابل 42773 حالة في 2014) وجاء في تقرير للمركز الوطني الأمريكي للإحصاءات الصحية ان معدلات الانتحار ارتفعت بنسبة 30% ما بين 2000 و2020.

نوع الرأسمالية التي يطبقها الأمريكان شديدة الشراسة ـ ولا مكان فيها لضعيف، وعلى كل راشد وبالغ أن يسعى بالناب والظفر لتحقيق الحلم الأمريكي، ولهذا ما إن يبلغ شاب سن ال18 حتى يقول له الوالدان: أعطنا عرض أكتافك، وما إن تفشل بنت بلغت الـ 16 في الحصول على "حبيب" حتى يعايرها أهلها ب"البوار"،
ولعل هذه الأرقام تشي بأن الرفاه المادي لا يجلب الراحة والعافية النفسية، بل ـ وبالنظر إلى النموذج الأمريكي ـ قد يؤدي إلى تجريفها، ففي أرض الأحلام الباذخة كما يحلو للأمريكان تسمية بلدهم، فالقانون هو المثل السوداني "الحشاش يملأ شبكته"، والحشاش هنا هو الأكثر قدرة على حش / قص وتجميع الحشائش لإطعام ما عنده من بهائم، أي أن الأكثر قدرة على تلك المهمة يفوز بالمغانم، وما يحدث في الولايات المتحدة هو أن كل مجال مفتوح للمنافسة الشرسة (اسم الدلع: المنافسة الحرة)، ولهذا فالأسماك الكبيرة فيها تفترس صغار السمك، ووفقا لتقارير وزارة الزراعة الأمريكية، عانى أكثر من 34 مليون أميركي من شح الطعام في عام 2021، بينما يعيش تحت مستوى خط الفقر ما لا يقل عن 12 مليون طفل، أي ما يقرب من سدس الأطفال الأميركيين.

نوع الرأسمالية التي يطبقها الأمريكان شديدة الشراسة ـ ولا مكان فيها لضعيف، وعلى كل راشد وبالغ أن يسعى بالناب والظفر لتحقيق الحلم الأمريكي، ولهذا ما إن يبلغ شاب سن ال18 حتى يقول له الوالدان: أعطنا عرض أكتافك، وما إن تفشل بنت بلغت الـ 16 في الحصول على "حبيب" حتى يعايرها أهلها ب"البوار"، وبالمقابل أنظر حالنا وواقعنا: يتزوج كثيرون منا في سن الـ 25 أو ما بعدها بكثير أو قليل، وقد تفسح له العائلة النواة مسكنا بين ظهرانيها، أو في موقع شديد القرب من مسكنها، والأبوة والأمومة عندنا "حكم مؤبد" يظل ساريا على الذرية ما دام الوالدان أحياء، بل يسري مفعول الحكم على الأحفاد، أي أن الترابط الأسري بين الشعوب العربية هو الذي يقيها شرور الاختلالات والاعتلالات النفسية والاجتماعية التي تقود إلى الزلل والانكسار.

والغريب في الأمر هو أن الأمريكان هم أكثر شعوب الغرب "تديّناً"، وما يسمى بالحزام الإنجيلي في الولايات المتحدة يشمل ولايات مثل تكساس وأوكلاهوما حيث تشكل البروتستانتية التبشيرية المحافظة العنصر الرئيس في ثقافة ساكنيها، الذين يشكلون الرصيد التاريخي للحزب الجمهوري الذي يأتي برؤساء من شاكلة الكذوب المخاتل نيكسون، والعصامي في جهالته دونالد ترامب، ويرى في الحد من انتشار السلاح اعتداء على الحريات الشخصية، ومن ثم فتديُّن أهل تلك الولايات قِشري ـ مظهري لا يتعدى ارتياد الكنائس بين الحين والآخر، ولا يعصمهم من التنكيل بالمواطنين السود وذوي الأصول اللاتينية.

عندما ظهرت الغواصات لأول مرة كسلاح حربي مدمر قال فيها أحمد شوقي:

ودبابة تحت العباب بمَكْمن / أمين ترى الساري وليس يراها/ هي الحوت أو في الحوت منها مشابه / فلو كان فولاذا لكان أخاها / خؤون إذا غاصت غدور إذا طفت / ملعَّنة في سبحها وسراها

وبعد سرد مزايا الغواصة يختتم شوقي القصيدة بقوله:

وأُفٍ على العلم الذي تدّعونه / إذا كان في علم النفوس رَداها
وأفٍ على جنس الرفاه الأمريكي طالما يؤدي إلى علل مهلكة ومدمرة
التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
الأحد، 15-01-2023 02:37 م
أنا الآن رجل عجوز كبير في السن تعلَمت الكثير من الآخرين و تعلَمت الكثير أيضاً ذاتياً على مدى السنوات . عند إنهائي الدراسة الثانوية بتقدير جيَد جداً ، شجَعني أصدقاءٌ من حارتي على الدراسة في أمريكا و زيَنوا لي صورتها "بلد الرخاء ، بلد الفُرص ، بلد تحقيق الأحلام ، بلد التقدَم ... الخ.) . أرسلت رسالة مؤدبة مكتوبة بالانجليزية بالبريد العادي إلى جامعة –اخترتها عشوائياً - في ولاية "Michigan "الأمريكية -لا أتذكر اسمها الآن - متمنياً أن تُرسِل جامعتهم لي طلبين أحدهما للالتحاق ببرنامج دراسي و ثانيهما للحصول على منحة . تلقيت من تلك الجامعة ردَاً مكتوباً جافاً قليل الأدب في منتهى الإسفاف فأساءني في حينه فقررت عدم الدراسة في أمريكا بل و عدم زيارتها ما حييت . مع مرور الوقت ، تبيَن لي صدق قول الله الحقَ سبحانه و تعالى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) حيث من واسع فضل الله و كرمه أنه يسَر لي تلقي العلم الأفضل في أوروبا على أيدي بروفسورات موسوعيين ممتازين راقين في المعاملة دبَروا لي منحة تغطي نفقات المعيشة. مع مرور الوقت أيضاً ، ثبت عندي –بما لا يدع مجالاً للشك- أن الشاب العربي ، الذي يذهب إلى أمريكا ، هو واضعٌ لنفسه في ورطةٍ قد لا ينجو من تداعياتها . يوجد لدينا مثلٌ في بلاد الشام يقول "البيت بسكانه مو بحيطانه" ، فالأهم من زخارف بلدٍ ما - في أبنيتها و شوارعها و أسواقها – نوعية البشر الذين ستعيش بينهم . إن كانوا أسوياء - في الغالب- ارتحت أيها الشاب ، و إن كانوا غير ذلك تعذَبت أيها الشاب . قبل الذهاب إلى بلدٍ معيَن ، الأصل القراءة عنها من عدة كتب لرؤية المتوافقات و المتقاطعات فيما بينها و التقاء أشخاصٍ ثقاتٍ سبقوك بالذهاب إليها . أمريكا هي أكثر بلدٍ في العالم يتناول سكانها المهدَئات و المسكَنات – مثل الأسبرين- و لا يتسع المجال في التعليق للحديث عن الخمور و المخدرات و يكفي هذان الصنفان. تناول هذين يشير بوضوح إلى قسوة الحياة المادية هناك بما فيها من هموم و غموم و ضيق و قلق و توتر و اضطراب و نكد و هذه كلها أمراض نفسية قاتلة ، فإن أضفت إليها تبضع الناس من محلات بيع السلاح بسهولةٍ تكفلُها القوانين عندهم كان نتاج ذلك بيئة في منتهى الخطورة . أيَ عاقلٍ يذهبُ إلى بلدٍ يمتلك الحمقى فيها السلاح ؟؟؟