أفكَار

الإعلام الغربي و"الآخر".. كأس العالم والحرب على أوكرانيا نموذجا

أكثر ما يعاب على كثير من المؤسسات الإعلامية في الغرب الاستسلام السهل لأحكام جاهزة يسهل دحضها  (الأناضول)
أكثر ما يعاب على كثير من المؤسسات الإعلامية في الغرب الاستسلام السهل لأحكام جاهزة يسهل دحضها (الأناضول)

                                                                  توفيق رباحي

خضع الإعلام الغربي خلال سنة 2022 لامتحان نادر في نزاهته وموضوعيته. الشوط الأول من الامتحان بدأ في روسيا/أوكرانيا منذ شهر شباط/فبراير الماضي، أما الشوط الثاني فانطلق في قطر يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني. لكن لنبدأ من الشوط الثاني، فهو أقرب إلينا.

عندما كان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يُلبس نجم الأرجنتين، ليونيل ميسي، البشت (العباءة الخليجية) قبيل تسليمه كأس العالم، كان غاري لينيكر، أشهر مذيعي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وأعلاهم راتبا، يعلّق بصوت مندهش محتج: لا، هذا غير معقول! طيب، لماذا؟ لاحظوا أن الرداء غطى حتى على علم الأرجنتين.. إلخ.

يوم الثلاثاء 20 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نشر ديفيد وولش، وهو صحافي أيرلندي مخضرم كان ضمن فريق مراسلي صحيفة التايمز البريطانية، تقريرا تضمّن سلسلة من الانطباعات الشخصية حول تجربته في تغطية كأس العالم في قطر 2022. كانت انطباعات خفيفة وجميلة من رجل دقيق الملاحظة وسريع البديهة. هذا مقتطف ورد في تقريره: "جلستُ في ملعب لوسيل رفقة زميل ورحنا نتبادل أطراف الحديث عن المونديال وقطر. كان الرجل معجبا بالتجربة إلى حد الانبهار لكنه تحسّر لأنه لا يستطيع نشر انطباعاته. قال إن المؤسسة الإعلامية (البريطانية) التي أوفدته كانت واضحة منذ البداية: لا نريد تغطية إيجابية عن كأس العالم". أصر وولش على التوضيح أن الزميل المذكور ليس من "التايمز" أو "الصانداي تايمز".

نجم نادي مانشيستر يونايد السابق، غاري نيفيل، تعرَّض لحملة تشهير علنية غير مسبوقة. "جريمته" أنه أثناء مشاركته في تحليل مباراة نهائي كأس العالم في قطر لصالح قناة "آي تي في"، ردَّ على زميله السابق في النادي نفسه، رُوي كين، الذي زعم في نفس الأستوديو أن "هذا المونديال ممتع لكنه ملطخ". ردّ نيفيل بالقول ما مختصره "لسنا أفضل من قطر.. هذا البلد (بريطانيا) أيضا يضطهد الممرضات ويستغلهن مقابل رواتب حقيرة. النزاهة تحتم علينا إدانة الظلم حيثما كان".

استمرت حملة اضطهاد نيفيل أسبوعين وشارك فيها سياسيون من مختلف الأطياف وإعلاميون وصحف قوية ومشاهير، وانتهت بإعلان "آي تي في" (تمتلك حق بث مباريات كأس العالم مناصفة مع "بي بي سي") براءتها من نيفيل وإقصائه من العمل محللا لديها.

أستطيع أن أسرد عشرات الوقائع المشابهة عن تعامل الإعلام الغربي مع مونديال قطر واستسهاله الوقوع في فخ التنميط والأحكام الجاهزة السلبية.

أكثر ما يعاب على كثير من المؤسسات الإعلامية في الغرب، ومن ورائها كتائب من الصحافيين، هذا الاستسلام السهل لأحكام جاهزة يسهل دحضها على مَن أراد. خذ مثلا رقم 6500 عامل آسيوي لقوا حتفهم في ورشات بناء ملاعب مونديال قطر. هذا تعداد جيش يخوض معارك تلو المعارك، ومع ذلك جرى تعميمه نقلًا بلا عقل تقريبا. الرقم توصلت إليه صحيفة "الغارديان" البريطانية في تحقيق نشرته قبل واحد وعشرين شهرا من تاريخ انطلاق مونديال قطر. نشرت الصحيفة هذا الرقم بناءً على تخمينات وحسابات افتقدت إلى الدقة والصرامة المهنية. والأهم نشرته مدفوعة بأحكام سلبية جاهزة وذهنية مُصرَّة على رفض الاعتراف بحق قطر أو دولة عربية مسلمة في استضافة فعالية كبرى من قبيل كأس العالم. ثم تلقفت بقية وسائل الإعلام الغربية الرقم لتجعل منه تعويذتها في تغطية المونديال.

لا يحتاج المتابع لجهد كبير لكي يقف على نموذج آخر يستحق أن يُدرَّس في كليات الإعلام كنموذج يتخلى بسهولة عن الحياد والمعايير المهنية عندما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية، أيديولوجية وحضارية واستراتيجية، بالنسبة للغرب ولوبيات الحكم والحرب فيه.
الانغلاق الذهني والاستعجال في إصدار الأحكام جعلا جهود المسؤولين القطريين الحثيثة لتفنيد هذا الرقم أو دحضه، تبدو ضئيلة أمام قوة الآلة الجهنمية الغربية، وصوتهم غمره ضجيجها.

هل من الطبيعي ألَّا يخطر ببال أحد في الأوساط الإعلامية التي وظّفت هذا الرقم إلى أقصى الحدود أنه ضخم أو مضخّم؟ أستبعد أنهم فاتهم فعلا أن 6500 وفاة خلال إحدى عشرة سنة تعني 600 حالة في السنة، أي نحو خمسين وفاة في الشهر، أي قرابة حالتين في اليوم، أي وفاتان كل أربع أو خمس ساعات عمل. أهذه ورشات بناء وتعمير أم حرب؟

المنطلق هنا واضح: عندما يتكرس لديك أن استضافة قطر نهائيات بطولة كأس العالم خطأ ثقافي وحضاري وحتى سياسي، يصبح من السهل أن يتقبل ذهنك كل ما يُضخُّ له من مزاعم عن قطر ومَن يشبهها. ويصبح مشروعا لذهنك أن يرفض الاعتراف بأن قطر دولة مختلفة في منطقة مختلفة بعاداتها وتراثها ورصيدها ومعاييرها الثقافية والأخلاقية. أسوأ من ذلك أن هذا الرفض يجرُّ معه بالضرورة إيمانك بأنك تستطيع أن تحجر على قطر حقها في أن تجاهر بأنها مختلفة وأنها ترفض أن تكون مثل بريطانيا أو ألمانيا أو السويد أو فرنسا... لا لشيء إلا لأنها مختلفة عنهم.

هذه ليست مواقف عابرة، ولا يمكن أن تكون ثمرة صدفة أو سوء فهم. نحن أمام حالة ذهنية متجذرة ورؤية ثقافية تراكمت على مدى قرون من الزمن تناولها الراحل إدوارد سعيد باستفاضة في نقده للاستشراق.

يجب البحث غن جذورها في صفحات الجرائد وبرامج التلفزة (حتى الكوميدية منها) وفي الكتب والمسرح والسينما. يجب البحث عنها في الخطاب السياسي الحديث في أوروبا وأمريكا، وفي المعاملات الإدارية للناس وفي حالة خطيرة. يجب أن نمتلك شجاعة القول إن الأمر يتعلق بعنصرية ثقافية وأيديولوجية متجذرة و"مُمأسَسة" RACISM INSTITUTIONALISED  تجاه الشرق المُلوَّن (بالمعنى الثقافي/الحضاري وكذلك الجغرافي). وما سهولة وسرعة نسب جرائم الإرهاب للإنسان العربي والمسلم حتى قبل أن يقول المحققون والقضاة كلمتهم إلا نتيجة طبيعية لهذا العمل المستمر في العمق. هذه الذهنية هي التي تملي على ضابط الأمن الغربي في مطار أورلي أو هيثرو أو فرنكفورت أو شيكاغو نظرته السلبية إليك وتوجسَّه مما في حقيبتك. وهذا التوجس هو الذي قد ينتهي بك معزولا عن بقية المسافرين تخضع لتفتيش مهين في الغالب.

من العراق إلى أوكرانيا

أترك جانبا خطورة ما فعلت روسيا بتوغلها في الأراضي الأوكرانية. هذا ليس موضوعنا. رغم خطورة "الفعل"، تشكل الحرب الروسية على أوكرانيا نموذجا آخر جديرا بالتأمل عن أداء الإعلام الغربي. لا يحتاج المتابع لجهد كبير لكي يقف على نموذج آخر يستحق أن يُدرَّس في كليات الإعلام كنموذج يتخلى بسهولة عن الحياد والمعايير المهنية عندما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية، أيديولوجية وحضارية واستراتيجية، بالنسبة للغرب ولوبيات الحكم والحرب فيه.

الإعلام الغربي في مجمله، بغض النظر عن التصنيفات التقليدية التي يمثلها أو ينطق باسمها، مثل يمين ويسار ووسط، يلتقي حول مسلمات غير قابلة للنقاش بالنسبة إليه، ومنها أن الغزو الروسي لأوكرانيا جريمة مرفوضة بكل المقاييس والمعايير (وهي كذلك من وجهة نظر القانون الدولي). ومنها أن على الغرب كلّه أن يساعد أوكرانيا بالمال والسلاح، ليس من باب المنَّة، بل كواجب أخلاقي وسياسي وعسكري. ومنها أيضا أن بوتين أجرم ولابد من وقفه عند حدّه ومحاسبته بشدة. إلى هنا لابأس، لا نزال في حدود العقل والمنطق.
أحيانا تبدو التغطية مسلّية للحاذقين، لكنها في العمق خطيرة وتأثيرها كارثي لأنها موغلة في تكريس الصورة النمطية عن "نحن الأخيار" و"هم الأشرار".

لكن الأمر لا يتوقف هنا. المشكلة أن تغطية وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية للحرب الروسية في أوكرانيا، رغم مرور الزمن وتغيّر الظروف، لا تختلف في جوهرها عن تغطيتها لحرب الخليج الأولى التي بين صيف 1990 وشباط/فبراير 1991، وما تلاها من حروب ومعارك وصولا إلى ربيع 2003 وإسقاط نظام صدام حسين. تغطيةٌ تعيد إنتاج تجارب الماضي البائسة. توضع فيها الموضوعية والحق في الإعلام جانبا لتراعي بدقة شراهة السياسي الغربي وأهدافه المعلنة والمبطّنة، وكذلك مزاج الإنسان البسيط (في الغرب) وجهله بطبيعة الصراعات وافتقاده للرغبة في المعرفة وامتناعه عن بذل الجهد.

أحيانا تبدو التغطية مسلّية للحاذقين، لكنها في العمق خطيرة وتأثيرها كارثي لأنها موغلة في تكريس الصورة النمطية عن "نحن الأخيار" و"هم الأشرار". القوالب اللغوية والذهنية واحدة: الشجاعة الغربية التي تتدخل في الوقت المناسب زعمًا لنصرة الحق، و"تنصره" حتى لو كان نصرا يُخلّف في طريقه كوارث إنسانية ومادية. فلاديمير بوتين اليوم هو صدام حسين آنذاك (وقبلهما جمال عبد الناصر). اللغة متشابهة جدا. الأوصاف، الأزمات النفسية المزعومة عن الرجل. الكلام عن الأمراض والمتلازمات التي يُدَّعى أن بوتين يعاني منها اليوم وزُعم أن صدام عانى منها آنذاك. الانتباه (أخيرا) إلى وجود معارضة تستحق المساعدة والتشجيع. الحديث عن هروب الزعيم وطلبه اللجوء في دولة ما (قيل عن بوتين أنه يخطط للهروب إلى فنزويلا!).

الصحف الشعبية البريطانية تتفوق بوضوح في انتقاء لغتها، فتستعمل مصطلحات من قبيل our boys (أولادنا وليس جنودنا أو الجيش البريطاني، رغم أن بعض "أولادنا" يعودون في صناديق الموتى من بلدان لم يسمعوا بها في حياتهم ولم يعرفوا موقعها الجغرافي). وتستميت هذه الصحف والمواقع في إبراز طيبة الجندي وتضحيته في سبيل الآخر، تماما مثلما اجتهدت هوليوود طيلة سبعين عاما لتكريس هذه الصورة النمطية.

الحديث عن "الأولاد" موجه لأفئدة العائلات والناس البسطاء الذين لديهم مُجنَّدون في الجيش أُرسلوا إلى جبهات الحروب وقد يُقتلون فيها. لسان حال الصحف، ومن ورائها لوردات الحروب ولوبيات السياسة والسلاح، أنهم أولادنا أيضا وسنبكي معكم لو عاد بعضهم جثثا هامدة في توابيت مشمَّعة.

الكلام موجه أيضا للآخر، أنت، أنا. انتقاء العبارات والقصص التي تستحق أن تُروى في هذا المقام أمر يخضع للمنطق النفسي ذاته وينبع من الذهنية المتجذرة ذاتها المذكورة آنفا، فيتفق السياسي وبائع السمك على دعم صاحب قرار الحرب، بينما تُطارَد الأصوات "الشاذة" وتتعرَّض للسخرية والتصنيفات غير العادلة (جيريمي كوربين في بريطانيا نموذجا).

أقرأ يوميا عشرات المقالات والتقارير في كبريات الصحف العالمية بثلاث لغات. أعترف بأنني أحيانا أتعب في العثور على مادة خالية من الدعاية الحربية والعقائدية عندما يتعلق الأمر بروسيا وبوتين. العثور على مضمون غير مؤدلج عن حرب روسيا وأوكرانيا في المطبوعات الغربية الكبرى مهمة شاقة اليوم. أصبح هو الاستثناء في مقابل القاعدة المتمثلة في ضخ إعلامي يفتقد لمتطلبات النزاهة والحياد. يحزنني أنني أحيانا لا ألمس فرقا كبيرا بين مجلة "فورِن أفيرز" الأمريكية العريقة وصحيفة "الصن" البريطانية الصفراء، وأن أجد شبها بين عناوين "واشنطن بوست" الأمريكية و"ديلي ميل" الشعبية الصادرة في لندن.

العبرة هنا أن العمل الإعلامي الغربي، وعندما يتعلق الأمر بحرب تتغذى من أبعاد عقائدية وحضارية، يتجرد من الكثير من القيَم المهنية والأخلاقية التي تضبط مهنته، ويصبح مواكبا للعمل السياسي (المؤسساتي بتعبير أدق) مواكبة عمياء تشبه مواكبة المراسلين الحربيين للجيوش في ساحات المعارك فلا تريهم هذه الجيوش إلا ما تريد، وإذا ما استدعى الأمر تطبق عليهم قوانين الرقابة الحربية.

ملفت أيضا أن مرافقة مراسلين صحافيين للجيوش في ساحات المعارك، رغم أن مهمتهم (من المفروض) نقل المعلومة بصدق وحياد، لا يثير أيّ نقاش أو وخز ضمير. غريب أن يصبح الأمر من المسلّمات على الرغم من أن المراسل هنا يتحوَّل إلى جندي يقاتل بقلمه إلى جانب الجندي الذي يقاتل بسلاحه. أكثر من ذلك أصبح بطولة وعلامة نجاح. ولا أحد يتمنى تغيير هذا الاستنتاج لأن إثارة الأسئلة عن وجود مراسل صحافي مع كتيبة عسكرية سيقود بالضرورة إلى أسئلة حول نزاهة ما يسوِّق من معلومات للمتلقي.

مؤلم استنتاج أننا لسنا أمام إخفاق وفقط. الإخفاق يفترض وجود نية حسنة سابقة، ويعني وجود محاولة (أو محاولات) للنجاح لكنها لم تثمر. نحن أمام إصرار على نهج معيّن يتعمد الخروج عمَّا هو مطلوب. وهذا أكثر من كافٍ لإلغاء أيّ مساحة للأمل والتفاؤل بالمستقبل... لأن القادم أسوأ.

*كاتب وإعلامي جزائري
التعليقات (1)
عماد
الثلاثاء، 27-12-2022 02:14 م
مقال رائع ممتاز في منتهى الدقة .. متابعتي اليومية للإعلام الغربي بكل تفرعاته تتفق تماما مع ما جاء في مقال الأستاذ توففيق رباحي