كتاب عربي 21

شظايا التاريخ بين أقدام اللاعبين

أحمد عمر
شغلت الكرة العالم أجمع- عربي21
شغلت الكرة العالم أجمع- عربي21
إن من كرة القدم لسحرا، فقد غدت هي البيان، وكان البيان باللسان والقلم، وأصبح في الرفس بالقدم، وإن من أسماء الكرة اسم الساحرة، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.

يزعمون أنَّ الكرة تصنع التاريخ، والتاريخ أكثر الألفاظ ذكرا في المقالات واستديوهات التحليل الرياضي المشفوع بوسائل البيان، فلأذكر خبرين من التاريخ لعلّي آتيكم منهما بقبس:

الخبر الأول هو خبر وفد تميم في السيرة النبوية، ذلك أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج إليهم تعلقوا به وقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم: "ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا". ثم صلى الظهر، واجتمع حوله رجال الوفد يتفاخرون بمجدهم ومجد آبائهم، وطلبوا من الرسول أن يأذن لخطيبهم وشاعرهم بذلك، فأذن لهم. وقد جرت مباراة بينهم بالشعر والخطابة، فأقرّ الوافدون بعلوّ كعب المسلمين بالشعر والخطابة، فأسلموا.

والخطابة والشعر يومها من علامات السلطان، وقد أضحت كرة القدم، أو أمست -لأن المباريات تكون في المساء- من آيات القوة والسلطان، وبلغ فريق عربي ما تصفه صحافة الرياضة بالمربع الذهبي، أما المعلقون على المباريات، فجعلوا التاريخ كل التاريخ بين الأقدام، وهم يجزمون جزما أن الكرة العربية تصنع التاريخ، ولو كانت تصنع التاريخ لصنعت الجغرافيا، فلا تاريخ من غير جغرافيا، فإن لم تكن الجغرافيا، فبعض الاقتصاد أو قليل من العدل، فإن لم يكن، فرغيف خبز كريم.
المعلقون على المباريات، فجعلوا التاريخ كل التاريخ بين الأقدام، وهم يجزمون جزما أن الكرة العربية تصنع التاريخ، ولو كانت تصنع التاريخ لصنعت الجغرافيا، فلا تاريخ من غير جغرافيا، فإن لم تكن الجغرافيا، فبعض الاقتصاد أو قليل من العدل، فإن لم يكن، فرغيف خبز كريم

حاول صديق لي سوري متزوج من مغربية بعد أن ضاقت به الأرض في الإمارات النزوح إلى بلد زوجته، فمُنع بسبب جنسيته السورية، فاضطر إلى العودة إلى حضن الوطن، وهو حضن مهلك أكثر من البيداء المبيدة للأنفس.

تقول الوقائع والإحصاءات: إن مئات الألوف من النازحين العرب، مشارقة ومغاربة، قد نزحوا إلى بلاد الشمال الباردة بحثا عن الطعام والأمان، وقد احتفلوا بالأمس في منافيهم بالفوز المغربي على فريق البرتغال، ومن قبله على إسبانيا، فمُنعوا في بلجيكا ولقوا منهم نصبا، فكيف يسبقون أبناء الأكرمين، وتهاونت بعض الشرطة في ألمانيا فأباحت لهم الاحتفال، فهم وافدون وإن اكتسبوا الجنسية. والوافد أقل حقوقاً من المواطن، لكن يظهر أن حقوقهم في المنافي أفضل من الوطن، وإلا لكانوا عادوا إلى "المربع الذهبي".

بالغ الكتاب والمحللون الرياضيون، ومنهم أصحاب رأي وهمّة وعزم وحكمة في الاحتفال بالفوز الكروي في الملعب الأخضر، حتى عدّوه نصراً مبيناً، وفتحاً ثميناً، بل إن بعضهم تذكّر أمجاد الأندلس. وقد احتفل العرب والمسلمون بالفوز في العواصم العربية، بما في ذلك دولة الجزائر الشقيقة، التي تغيّظ إعلامها من فوز المغرب الشقيق، وظهر منه حزن على خسارة إسبانيا في مباراتها مع المغرب! وكتب العشرات من الكتاب يفاخرون بفشل التطبيع مع العدو الإسرائيلي، لكنه فشل لا يرد عيرا ولا يمنع نفيرا، ومن حسن الحظ أنَّ المباريات تجري بين فرق غير عربية، وإلا لكانت غذت الخلافات العربية بالضغائن، ويمكن تذكّر واقعة أم درمان سيئة الذكر، فالكرة تجمع وتفرّق، فلا عهد للكرة ولا ميثاق.

اللاعبون المغاربة أفضل من السياسيين العرب في الأعمّ الأغلب، فهم على الفطرة والسجيّة، ولا يزال فيهم خير كثير، فقد ذكّرونا بمكارم الأخلاق وبرّ الوالدين، حتى أنهم جعلوا الكرة بريدا ومنبرا، فالرياضة واحدة من مجالي الأمم ومراقيها، لكن أصحاب الرأي العرب جعلوها ذروة البيت الشريف المصمد.

وهم في جميع التعليقات والأوصاف والمدائح ينسبون الفريق العربي إلى جدّ بعيد من أيام الجاهلية، مثل الفراعنة أو قرطاج، وأحياناً إلى المحيط الكبير، وهو الأطلس، وقلّما نسبهم معلّق إلى جدّ قريب، فهم يدركون أن الفاتحين المرابطين لم يكونوا أصحاب لعب ولهو، فقد جاء اسمهم من رباط الخيل

وهم في جميع التعليقات والأوصاف والمدائح ينسبون الفريق العربي إلى جدّ بعيد من أيام الجاهلية، مثل الفراعنة أو قرطاج، وأحياناً إلى المحيط الكبير، وهو الأطلس، وقلّما نسبهم معلّق إلى جدّ قريب، فهم يدركون أن الفاتحين المرابطين لم يكونوا أصحاب لعب ولهو، فقد جاء اسمهم من رباط الخيل.

الكرة كائن قومي، ويظهر أنَّ للملعب الأخضر المعشب دوراً يشبه دور المسرح في التطهير الأرسطي، فالشعوب العربية مكلومة وجريحة، ولم تذق نصراً منذ مائة عام، ولهذا احتفل العرب ورقص المسلمون وطربوا.

ولهذا أيضاً ألبسوا مبارياتها أثواب المعركة، وجلًلوها بالدين أحياناً، وأسبغوا على اللاعبين صفات الأسود، ووصفوا اللعبة بالملحمة، وجعلوا كل فوز عيدا للأم، فهي قيم منسية في الغرب، فهم قوم شهوات ولذّات، لا قوم برّ وطاعات. وشكر كثيرون الشعوب العربية على مجافاة التطبيع مع إسرائيل، لكن ثمة تطبيع وقع، وهو مع الكرة التي حلّت محل السيف، وتلك قسمة ضيزى.

قد استأثر اللاعب بالمجد دون العالم واللغوي والنحوي والمفكر والشاعر والشيخ.. التطبيع مع الكرة سيسرّ الحكام العرب، وصناع اللعبة في الغرب، فاللاعب أقل خطراً من العالم والشاعر والأديب. وشاعت آلاف الطرائف واللطائف بعد فوز المغرب وبلوغه المربع الذهبي. مهما يكن فقد نجحنا في أمر واحد بعد مائة سنة من الخذلان والهزائم والنكسات، وهو الانتصار في اللعب، وسبب ذلك أنّ الخدع السياسية تقلّ في الرياضة، إلا ما يجري من صفقات بيع وشراء للنتائج أو اللاعبين، أو المقايضات خلف الظهور ووراء الأستار، لكنها في العموم أعدل بكثير من السياسة التي لا تنتظم في سلك سوى سلك الإكراه وأصفاد الاستعباد.

لقد انتقلنا إلى المربع الذهبي من غير تهمة الإرهاب حتى الآن على الأقل، وهذا مكسب محمود، بعضهم يأمل أن تكون الكرة محاولة لإيقاظ التاريخ، فما إصرارنا على التذكير به إلا لغيابنا عنه

وكنا بدأنا بخبر من السيرة النبوية، ونختم بخبر من التاريخ الروماني، وفيه أن سفناً أرسلها القيصر الروماني إلى مستعمرة مصر من أجل استيراد الرمال المصرية منها إلى روما، فترابها زعفران، وكانت الغاية منها أن تفرش بها أرض الملاعب والحلبات الرومانية، وعلم القائد الروماني في مصر، من البحارة والملاحين، أنَّ روما بها مجاعة، ففكر في نجدة قومه بالميرة والمؤن فاستفتى الحاكم، أيشحن بالسفن قمحاً لإنقاذ الشعب الروماني أم ينفذ أوامر القيصر؟

يقول الخبر: إنَّ المباريات الدموية بدأت في حلبات روما على الرمال الزعفرانية المصرية، فهدأ الشعب وانشغل بالصراع بين الأسود والمصارعين المستعبدين عن الجوع واللقمة.

لقد انتقلنا إلى المربع الذهبي من غير تهمة الإرهاب حتى الآن على الأقل، وهذا مكسب محمود، بعضهم يأمل أن تكون الكرة محاولة لإيقاظ التاريخ، فما إصرارنا على التذكير به إلا لغيابنا عنه.

في قصص الأمثال العربية، أن رجلا اسمه مرين، خطفت الجن أخويه مرة ومرارة، فخرج يطلب بهما في "المربع الذهبي" الذي هلك فيه أخواه، فأصابته حمّى فنام، فاحتمله الجني، وقال له: ما أنامك وقد كنت حذرا؟ فقال: الحُمّى أضرعتني إلى النوم.

وقد أضرعتنا الحمّى إلى الكرة.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)