كتب

النخبة الفلسطينية لم تعرف تحولات جوهرية رغم تحديات الاحتلال

بعد نكبة 1948 انتشر الفلسطينيون في الدول العربية، وباتوا في معظمهم لا يعيشون على أرض واحدة
بعد نكبة 1948 انتشر الفلسطينيون في الدول العربية، وباتوا في معظمهم لا يعيشون على أرض واحدة

الكتاب: تحولات النخبة الفلسطينية.. مراجعات في التاريخ والهوية"

المؤلف: صقر أبو فخر

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022

 

يناقش الباحث الفلسطيني صقر أبوفخر في كتابه هذا بعض القضايا التي كان لها شأن في صياغة الوعي التاريخي والهوية التاريخية للفلسطينيين، قضايا مثل دور النخب في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتداعيات اللجوء ودوره في تشكيل نخب جديدة، وهما الموضوعان اللذان يحتلان الجزء الأكبر من كتابه، بينما يخصص الفصل الأخير منه للمرور بشكل سريع على موضوع السير والمذكرات الفلسطينية التي بدأت تظهر بعد النكبة في سنة 1948، وأبرز موضوعاتها التي ركزت على الاحتلال والمقاومة، وسرد الوقائع السياسية، وحضور المكان (فلسطين) بشكل قوي فيها، كتعبير عن تأكيد حضور الذات فيه.

 

سمات عشائرية

 

يرى أبو فخر أنه طوال حكم الدولة العثمانية لم تتطور لدى الفلسطينيين، كما العرب، أي هوية قومية جلية، حيث ظل الفلسطينيون مقيمين عند هوياتهم الوشائجية الموروثة، يدينون في ولاءاتهم للعشيرة أولا، ثم للطائفة أو القرية. عدا عن أن فكرة الوطن أو الولاء للوطن كانت فكرة جديدة تماما على الثقافة السياسية، ولم تبدأ بالظهور إلا في حقبة الاستعمار البريطاني أو قبله بقليل. وقد حاولت النخب المدينية الفلسطينية التي كانت قد تلقت تعليما في اسطنبول وبيروت ودمشق وأوروبا أن تطور هوية قومية عربية حديثة، مثل المفتي الحاج أمين الحسيني، غير أن عموم الشعب بقي،على الرغم من المخاطر التي جسدتها الحركة الصهيونية، منقسما إلى مكوناته الأولى كالعائلة والعشيرة والمنطقة، مع ميل للانتماء للعرب.

 

يتابع أبو فخر بأن هذا الميل كان ميلا أقواميا وليس ميلا قوميا واضحا، فالأول لا ينتج إلا فكرا تقليديا وهو مفتت وغير متفاعل. ويلفت إلى الفرق بين النخب والإنتلجنسيا مشيرا إلى أن النخبة الفلسطينية التي يبحث تحولاتها في كتابه هذا هي التي قادت المجتمع الفلسطيني في مراحله المتعاقبة، منذ الحقبة العثمانية حتى قيام السلطة الفلسطينية. بينما الانتلجنسيا هي فئة من المثقفين المستقلين عن أي سلطة دينية أو سياسية، يكرسون حياتهم لنشر رؤى وأفكار تتعلق ببناء الدولة والمجتمع.

 

وبحسب أبو فخر فإن ضمور الانتلجنسيا الفلسطينية وانحسار فاعليتها اليوم أدى إلى شيخوخة المؤسسات العلمية والمنظمات النضالية التاريخية، الأمر الذي ربما يؤدي لاحقا إلى موت نوع من السياسة والتفكير السياسي الفاعل، والتحول نحو السياسة بمعناها المبتذل، أي تأمين مصالح المجموعات والأفراد في نطاق الدولة.

 

لم تكن في فلسطين أحزاب جدية قبل سنة 1934. في ذلك العام أسس الحاج أمين الحسيني الحزب العربي الفلسطيني، وقبله بسنتين أنشىء فرع فلسطيني لحزب الاستقلال العربي السوري. ويوضح أبو فخر أن مع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى تفسخت فئة الأعيان والأغوات التي تكونت بعد قانون الأراضي العثمانية الذي أقر في عام 1858. وهذا الأمر يمح بصعود نخب جديدة أسست أحزابا ذات أيديولوجيات حديثة تضمنت أفكار العدالة الاجتماعية والمساواة، والديمقراطية، علاوة على الوحدة السورية والاستقلال الوطني والتصدي للانتداب والهجرة اليهودية.

 

لكن هذه الأحزاب كانت، في أحد وجوهها، غلافا للانقسام العائلي الموروث والمتجدد. فالحزب العربي الفلسطيني وحزب الدفاع الوطني كانا التجسيد الحديث للصراع القديم بين آل الحسيني وآل النشاشيبي. وحتى الجمعيات الخيرية الأهلية كانت ذات سمات عائلية عشائرية، أكثر من كونها مدنية حديثة. أما الحركة الوطنية الفلسطينية التي بدأت تظهر بالتدريج بعد هبة البراق عام 1929وأنعشها استشهاد عزالدين القسام سنة 1935 فلم تتحول إلى قوة ثورية، بل بقيت تقليدية، وتخثرت مع تولي الوجهاء المحليين وبعض مشايخ الدين واجهاتها السياسية العلنية، بحسب أبوفخر.

 

الريف المعزول

 

الأعيان الفلسطينيون في أواخر عهد الدولة العثمانية توزعوا مراتب وطبقات، فمنهم ملاك الأرض وزعماء العشائر ومفتو المذاهب والقضاة والوجهاء ، ومنهم كبار رجال الدولة والضباط والموظفون، ثم يأتي المهنيون ورجال الأعمال . ولما بدأ الوهن يدب في أوصال الدولة في القرن الثامن عشر اضطرت إلى التعاون مع الأسر المحلية المتنفذة لضمان سيرالإدارة، فبرز مشايخ النواحي والأرياف، وكذلك أعيان المدن وأغواتها. ونبعت قوة هؤلاء من التزامهم بجباية الضرائب لمصلحة والي الشام، واستعدادهم لتجنيد أبناء الريف والمدن، ما أشعل المنازعات القبلية والعائلية.

 

في عهد الانتداب البريطاني برزت فئة جديدة من الأعيان استفادوا من ازدهار المدن الساحلية والتجارة والتوسع في زراعة سلع التصدير، وجمعوا ثرواتهم من فائض إنتاج الأرياف من الفلاحين الذين فقدوا أراضيهم، بسبب قانون تسجيل الأراضي العثماني، وتخلى عنهم زعماؤهم التقليديون. كانوا في معظمهم من أعيان العائلات القدامى الذين ازدادت ملكية الأراضي لديهم، والتجار الذين ارتقت أوضاعهم المالية وبينهم فلسطسنيون مسيحيون ووافدون من سوريا ولبنان.

 

يضيف أبوفخر أنه تدريجيا في عهد الانتداب البريطاني ظهر اقتصادان: اقتصاد يهودي مزدهر قائم على الزراعة الحديثة والصناعات والتجارة، واقتصاد فلسطيني متعثر قائم على الزراعة المتخلفة والحرف التقليدية والصناعات المحلية التي دمرتها السلع المستوردة. وتسبب هذا لاأخير بقيام مجتمعان فلسطينيان متنافران الأول تقليدي يعبر عن الهويات العشائرية والإثنية والطائفية، والثاني حديث لكنه هش ومتردد فشل في تعميم قيم القومية والتحرر والحداثة، حيث كان التغاير الاجتماعي بين الريف والمدينة واضحا. لهذا لم يكن مستغربا أن تتحول ثورة 1936-1939، بعد سنتين من بدايتها، إلى ثورة فلاحين خالصة. واتخذت هذه الثورة منذ ربيع 1938 شكل تمردات فلاحية محلية، ولم يكن ثمة أي قيادة موحدة تجمعها أو تنسيق وتنظيم أوسع لها، ما نتج عنه في كثير من الأحيان صدامات بين أبناء الشعب الواحد وعمليات سلب واغتيال.

 

يقول أبو فخر إن الريف الفلسطيني كان حتى ثلاثينيات القرن العشرين معزولا عن السياسة إلى حد كبيروالفلاحون مشرذمين لا وزن لهم في تقرير مصيرهم. بينما كانت المدينة الفلسطينية منقسمة عائليا. لذلك مع ازدياد الهجرة اليهودية وانكشاف مرامي الحركة الصهيونية كانت ردات فعل الفلسطينيين أقرب إلى التضامن والفزعة، ولم يتأسس على تلك المخاطر حركة وطنية مقتدرة وواعية.

 

النخب الجديدة

 

بعد نكبة 1948 انتشر الفلسطينيون في الدول العربية، وباتوا في معظمهم لا يعيشون على أرض واحدة. وهذا الواقع المستجد كان من معوقات تطوير هوية وطنية منسجمة مع هويتهم القومية الأشمل، بحسب أبوفخر، غير أنهم طوروا هوية جديدة هي هوية الشتات، فهم لا يتميزون بأي هوية غير تاريخهم السياسي في مواجهة الصهيونية والاقتلاع. وهوية الشتات تعني اشتراك جميع اللاجئين في تجربة فقدان الأرض والبيت علاوة على موقف الآخرين منهم كلاجئين. وهذه التجربة اشترك فيها الفلاحون والأعيان القدامى وأبناء المدن الساحلية والداخلية. وأبناء هؤلاء اللاجؤون هم الفئة التي خرج منها مؤسسو المنظمات الفدائية وشكلوا النخبة السياسية الجديدة.

 

انشطرت هذه النخبة الجديدة إلى قسمين: الذين تمكنوا من إخراج أموالهم من فلسطين قبيل النكبة وبعدها، ونقلوا شركاتهم وأعمالهم إلى بيروت ودمشق وعمّان، والذين جنوا أموالهم في دول الخليج العربي ثم وظفوها في لبنان وسوريا والأردن. وخلافا للاتجاه الذي سارت عليه النخبة الفلسطينية التي لجأت إلى سوريا ولبنان، والتي تميزت بضمور فاعليتها السياسية، فإن أعيان فلسطين الذين صاروا جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية سيطروا على الحياة السياسية للفلسطينيين في الأردن.

كانت حرب 1948 ذروة الصدام بين الحداثة الأوروبية التي نشأ في سياقها المشروع الصهيوني، وبين المجتمع التقليدي الفلسطيني بوجهيه المتغايرين: القروي والمديني. وكانت نتيجة ذلك الصدام أن الفلسطينيين خسروا وطنهم وبدأوا حياة اللجوء، بينما أسس اليهود وطنا لهم وبدأوا في الخروج من ثقافة المنفى والشتات.

يقول أبو فخر، إن النكبة أنهت إلى حد كبير النخبة الوجاهية العائلية القديمة، وأحلت مكانها نخبة جديدة من المناضلين وخريجي جامعات القاهرة ودمشق وبيروت، واستندت على أبناء المخيمات كقاعدة أساس للعمل الفدائي، وأضافت جديدا إلأى الحياة العامة الفلسطينية من خلال اهتمامها بقطاعات حديثة كالطلاب والنساء والعمال والكتّاب والفنانين. وكانت تمثل جيلا نضاليا راديكاليا غير متصالح مع الاستعمار ونتائج النكبة. لكنه مع ذلك كان تقليديا إلى حد كبير في ميادين الثقافة والفكر والاجتماع. لذلك كانت قدرته على تحديث المجتمع حين تسلم مسؤولية السلطة الفلسطينية عام 1994، فقيرة ولا سيما في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، وضعيفة على مستوى إدارة المؤسسات والحوكمة.

 

ويتابع أبو فخر بأن النخب الفلسطينية الجديدة تكاد تنحصر اليوم في قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، وفي مسؤولي السلطة ومديري مؤسساتها وأجهزتها الأمنية والسياسية، علاوة على ناشطي المجتمع المدني، ورجال الأعمال. وهم في معظمهم نشأوا في غمار الحركة الوطنية الفلسطينية، وكانوا مسؤولين، بهذا القدر أو ذاك، عما وصلت إليه حال المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع ومخيمات الشتات. فها هو المجتمع الفلسطيني تسوده الرثاثة الاجتماعية، ويشهد عودة إلى إعلاء شأن العشيرة، وينتشر فيه مسلك جمع الثروة بأي وسيلة.

 

يضيف أبو فخر، أن التقلبات المتتابعة في تاريخ فلسطين الحديث أدت إلى تغيرات متسارعة في البنى الاجتماعية، وإلى عدم تكوّن نخب فلسطينية ثابتة، علاوة على أن غياب كيان وطني، والخضوع لنظم سياسية متعددة من شأنه أن يجعل تكوين نخبة فلسطينية طبيعية عملية معقدة ومشوهة أحيانا. لقد كانت حرب 1948 ذروة الصدام بين الحداثة الأوروبية التي نشأ في سياقها المشروع الصهيوني، وبين المجتمع التقليدي الفلسطيني بوجهيه المتغايرين: القروي والمديني. وكانت نتيجة ذلك الصدام أن الفلسطينيين خسروا وطنهم وبدأوا حياة اللجوء، بينما أسس اليهود وطنا لهم وبدأوا في الخروج من ثقافة المنفى والشتات. 

التعليقات (0)