قضايا وآراء

ثورة القاهرة السادسة

سيلين ساري
1300x600
1300x600
الزمان: 1957.

المكان: أسيوط إحدى محافظات صعيد مصر.

كان اليوم الأول لعرض فيلم "الفتوة" بطولة فريد شوقي.

وفي أول مشهد يتم ضرب فريد شوقي أو "هريدي"، الفتى الصعيدي الذي أتى للقاهرة للعمل على قفاه ويقف دون حراك، ثم تأتي جملة "حُسنه" تحية كاريوكا لتقول: صحتين على بدنك يا تلح مش عيب على طولك وعرضك وتنضرب على قفاك من غير ما ترد القفا عشرة.

لتنقلب السينما رأسا على عقب، حاولت إدارة السينما تهدئة الناس قائلين انتظروا وستروا ما يفعل هريدي.

يهدأ الناس إلى أن جاء مشهد هريدي وهو يجر عربة خضار بدلا من الحمار، فكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير ولم يستطع الصعايدة الاحتمال أكثر، فقام كل مَن في السينما بتحطيم الكراسي وشاشة العرض قائلين: الصعايدة مينضربوش على قفاهم، الصعايدة مش حمير يا بقر.

هكذا كان الشعب المصري لوقت قريب، يثور من أجل كرامته، حيث كان ما زال حديث عهد بجمهورية العسكر التي قرر جنرالاتها تدجين الشعب المصري المسالم لأقصى الدرجات، ولكنه بذات الوقت يحافظ على هويته وكرامته بنفس الدرجة.

مصر التي لم تعرف يوما حائط مبكى أو بكاء على أطلالها بسبب طبيعة شعبها الذي كلما كان ألمه شديدا كانت سخريته أشد وصوت ضحكته أعلى من أنين الألم.

في مصر تبدأ الحكاية دائما وتنتهي بالقاهرة درة المدائن القديمة والحديثة، صاحبة الوجه الجميل الذي يضحك وهو ينزف، والقلب الذي يحمل داخله صهيل ثورات قديمة طُمست ودفن ذكرها تحت تلال من الفقر والجهل والقهر والنسيان، لكنها الآن تستعيد ذاكرتها وهي على حافة الانفجار بوجه أحد ظلاّمها لكي تتعافى.

هنا داخل الأزقة والحارات العتيقة بالأزهر اختلطت رائحة البهار بالبارود والدم، ما زالت تلك الجدران تحتفظ بصوات هتافات مضى أصحابها منذ عصور، ولكن بقيت أصوات هتافهم كتعويذة تلف كل حجر، تُفك طلاسمها مع زيادة القهر فتصير لعنة تطارد الظلمة عبر العصور.

هنا كانت.. ثورة القاهرة الأولى 1798.

فر المماليك تاركين المحروسة عارية مُستباحة أمام الفرنسيين. ظن نابليون أن هزيمته للمماليك معناها سقوط مصر فريسة له.

لم يتوقع أن الشعب الذي ترك عبيد الأمس ملوكا عليه سيقاوموه، لكن منذ اللحظة الأولى لنزول الفرنسيين الإسكندرية بدأت مقاومة الشعب. واندلعت ثورة وصفها الجبرتي قائلا: كانت تجمع الكثيرين من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم، حاملين ما أخفوه من سلاح وآلات حرب.

بنى الثوار المتاريس فضرب نابليون البيوت والمساجد بالمدافع واقتحم الأزهر بالخيول، ورغم ذلك استمرت المقاومة تصهر الشعب فتزيد من قوته وثقته بنفسه حتى كانت ثورة القاهرة الثانية 1800. كانت ثورة أكثر تنظيما يقودها التجار والحرفيون الذين قاموا بحصار بعض تجمعات الفرنسيين والاستيلاء على مؤنهم وبعض أسلحتهم، لكن كليبر حاصر القاهرة ودكها بالمدفعية.

ورغم ذلك لم يستسلم الثوار وصنعوا أول مصنع للبارود ودانات المدافع، واستخدموا المدافع التي خلفها المماليك. لكن تفوق الفرنسيين العسكري حسم الأمر لصالحهم وتم إخماد الثورة.

أخبرنا التاريخ أن موقع مصر كان لعنة أكثر منه نعمة، فجعلها في مرمى صراعات القوى العالمية لاحتلالها؛ لكن لم يذكر لنا أبدا أن جيش مصر تصدى لأي احتلال أو أخرج محتلا منها، بل دائما ما يُخرج محتل آخر، كأنه كتب على تلك الأرض وشعبها أن يظلوا محتلين.. يخرج الفرنسيون ليأتي الإنجليز.

الثورة العرابية 1881

بدأت شرارتها عندما صدر أمر بفصل بعض الجنود المصريين من الجيش، فكانت هبّة عرابي وأصدقائه من أجل الضباط المصريين، ولكن سرعان ما انضمت جميع طوائف الشعب له نتيجة ما يعانونه من فقر والهيمنة الأجنبية. وكان شعار تلك الثورة "مصر للمصريين"، وهو شعار يدل على ما وصل إليه الشعب من وعي ثوري بسبب ما يتهدد البلاد من خطر سيطرة الأجانب عليها.

نجحت ثورة عرابي ووافق الخديوي على مطالب الثوار، وتم تشكيل وزارة سميت وزارة الثورة.

لكن الفشل الذي لحق بمكتسبات الثورة كان نتيجة الخيانة فتحالف الخديوي مع الإنجليز وخيانة ديليسبس وبعض البدو، وخيانة بعض ضباط الجيش. باختصار الجميع تآمر واتفق على تركيع المصريين.

خبت جذوه الثورة نعم إلا أنها لم تنطفئ، ظلت مشتعلة تحت رمادها إلى أن أتت رياح ثورة 1919م فنفضت الرماد عن كل مصر.

لكل ثورة مقدمات وأسباب ووسائل وقيادة، وحتى أغاني تعبر عن حال الناس كل هذا توفر لثورة 1919.

"يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي.. بلدي يا بلدي"، تلك الكلمات جسدت مقدمات وأسباب وحال المصريين الذين تم اقتياد أولادهم عنوه من قبل السلطة ليشاركوا بريطانيا بحربها التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل.

أكثر من مليون مصري سيقوا إلى معسكرات الإنجليز للخدمة العسكرية. ضج المصريون من معاملة الإنجليز السيئة لهم، ومن الأحكام العرفية التي صدرت بحقهم، ونُفي سعد زغلول لطلبه السفر لمؤتمر الصلح ورفع المطالب المصرية بالاستقلال.

لذا، انفجر البركان فكانت ثورة شملت كل فئات الشعب وطوائفه طلاب المدارس، والأزهر والكنيسة، والفلاحين والحرفيين، ولأول مره شاركت النساء في المظاهرات.

تلا المظاهرات إضرابات عامة بمختلف القطاعات، وتم قطع السكك الحديد مما اصاب البلاد بالشلل، فاضطرت بريطانيا للإفراج عن سعد زغلول والسماح له بالسفر وهناك تم رفض طلب مصر؛ فعاد الشعب للثورة وقاطع البضائع الإنجليزية، وفشلت قوة بريطانيا العظمى في إخماد وثورة المصريين التي استمرت من 1919 حتى شباط/ فبراير 1922 فأصدرت بريطانيا تصريح بإلغاء الحماية البريطانية عن مصر، وهكذا انتصرت إرادة الشعب.

لأول مرة يذكر التاريخ الجيش المصري الغائب دائما عن المشهد، ففي ظروف يلفها الغموض يرحل جنود بريطانيا العظمى منسحبين من مصر أمام انقلاب عسكري لبعض الضباط على الملك فاروق سنة 1952 ليخلوا من بعدها المشهد لاحتلال جديد من نوعه، احتلال عسكري بمذاق مصري أذاق المصريين الويلات طوال 59 سنة من ديكتاتورية ناصرية، لانفتاح ساداتي، لليبرالية مباركية أفقرت الشعب، حتى كانت رياح يناير التي بددت الرماد لينفجر بركان الثورة من جديد بوجه رأس النظام العسكري لتكن الثورة الخامسة.

ثورة الياسمين يناير 2011

المكان كل مصر

تركزت مطالب الثورة على عيش حرية عدالة اجتماعية أبسط حقوق البشر على الأرض، ولكن استكثر العسكر علينا أبسط حقوق البشر، وانقلبوا على مكتسبات تلك الثورة الوليدة. ولأننا كنا حديثي عهد بالحرية لم نستطع الحفاظ عليها، وعاقب العسكر شعب مصر كما لم يعاقبه محتل فأوغل في دمائنا في أبشع مجزرة عرفها التاريخ.

لم تر مصر أسوأ من هذه الحقبة من بيع لأرضها ونيلها وغازها ومؤسستها ومقدراتها.

لم يذكر التاريخ أن اعتقل في مصر ما يزيد عن 60 ألف معتقل رأي، بل ولأول مرة تم اعتقال النساء، بل واغتصابهن داخل المعتقلات.

في تلك السنوات التسع الأخيرة تم تدمير مصر اقتصاديا وزراعيا وصحيا وتعليميا، بل وأخلاقيا والأخطر أنه يتم التلاعب بعقيدة الشعب.

وسط هذا السواد الحالك ظهرت دعوات للنزول يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصر التي أغرقوها بالديون ليعودوا بها إلى حقبة فرض الوصاية الاقتصادية، وعودة النفوذ الأجنبي، وإفقار الشعب الذي لم يعد يجد ضروريات الحياة.

الآن الشعب أمام أمرين: إما الثورة والتحرر ونصبح أسيادا في وطننا، أو أن يبقى الحال على ما هو عليه ويظل العسكر متسيدين البلاد والشعب، ولكن حتى هذا لن يستمر طويلا أمام هذا الانهيار الاقتصادي فإن آجلا أو عاجلا سيهرب السيسي من المشهد بعد إكمال صفقة البيع وعجزه عن الدفع لمن يحمونه.

لكن العسكر سيحاولون البقاء من أجل مكتسباتهم من خلال طرح وجوه أخرى، ربما مدني موال لهم تم إظهاره بالفعل، أو عسكري ظهر منذ فترة كمؤيد لحقوق المواطن السيّد في الوطن السيّد، أو ربما أحد جنوده؛ لتظل الفريسة بين أنياب العسكر، ويظل الشعب كومبارس صامتا يظهر بالمشهد وقتما يشاؤون والثمن لقيمات.

حل الأحجية الآن عندك أنت، نعم أنت عزيزي المواطن فهذا هو تاريخنا وهذه هي معظم السيناريوهات المطروحة أمامك لتقوم ببطولتها أو أن تكون كومبارس بها.

لكن الأكيد أنت مشارك فيها لا محالة. الكرة الآن بملعبك وعليك أن تختار أي سيناريو ستشارك به.. ونحن بانتظار "ثورة القاهرة السادسة".
التعليقات (0)