كتاب عربي 21

القرضاوي وبعض التجليات الأشعرية المعاصرة.. عن النقد والموقف

ساري عرابي
1300x600
1300x600
كان يبدو في أوقات سابقة أن استهداف الشيخ القرضاوي، رحمه الله، من أوساط دينية وإسلامية، يأتي من السلفية المعاصرة بتجلّياتها المتعددة، لأسباب على الأرجح متعلقة بالمقولات الفقهية، واتخاذ بعض تلك التجليات من الإخوان المسلمين الذين يُحسب عليهم الشيخ، ومن العمل الحركي، مجالاً للاشتغال الهجائي الدائم، وذلك بالرغم من أنّ الطريقة الفقهية للشيخ، غير مفترقة جذريّاً عن الطرائق السلفية الشائعة، التي لا تنهج التقليد المذهبي، وإنما ما تسميه بفقه الدليل، مع تعظيم مرجعيات خاصّة، كالشيخ ابن تيمية رحمه الله.

ويمكن القول إن الشيخ القرضاوي، بالرغم من دراسته الأزهرية، هو سليل السلفية الإصلاحية، والامتداد الأبرز لمدرسة محمد رشيد رضا (المنار) على وجه الخصوص، التي اختطت نمطاً من السلفية، يجمع بين عقلانية محمد عبده، والالتقاء مع السلفية المعاصرة في التجاوز النسبي للمعطى الفقهي التاريخي، ومحاولة تكييف الأحكام الشرعية مع متطلبات الحداثة الراهنة.

فأسباب الموقف السلفي من القرضاوي تنافسية، وتنطلق من الاختيارات الجزئية، وإلا فالطرق الاستنباطية غير متباعدة، حتى لو اختلفت آراء ونتائج واهتمامات، لا سيما وأن الشيخ شديد الاحترام للمدونة الحديثية التي يهتمّ بها السلفيون، أكثر -مثلاً- من شيخه محمد الغزالي، رحمه الله. ويمكن أن يضاف إلى ذلك، في الموقف النقدي من الشيخ، موقف حزب التحرير، وهو أمر منبثق عن خطابات هذا الحزب تجاه عموم الحركيات الإسلامية المخالفة له في طريقة العمل.

بيد أنّه، ومع الإحيائية الأشعرية الراهنة، والعودة للدرس الفقهي التقليدي الذي يعتمد المرجعية المذهبية، بدأت الانتقادات من الأشعرية المعاصرة تتجه لطريقة الشيخ القرضاوي الفقهية، بل ولنمطه الدعوي العامّ، وما يتصل بذلك من خطاب للإخوان المسلمين، وفي تطابق في بعض المواقف مع النقد السلفي، الذي كان يأخذ على القرضاوي وعموم مدرسته وتياره شعار مدرسة المنار "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وما يتصل بذلك من شعار "وحدة الكلمة"، وهي مسائل تحتاج وقفات لن يحتملها هذا المقام.

النقد الأشعري المذهبي المعاصر للشيخ القرضاوي وتياره، أخذ مسارات مختلفة، وانطلق من دوافع متعددة، ابتداء من النقد العلميّ المنهجيّ الذي راجع طريقة الشيخ في التفقه، عودة بهذه المراجعة إلى محمد عبده، وما تلاه من تلاميذ، وشيوخ أزهر التزموها، وحركات إسلامية تبنّتها، وقد امتاز هذا النقد، بمراجعة أصولية لطريقة الشيخ، ولهذا النمط الدرسي الفقهي الذي ساد في الأعوام المئة الأخيرة، والذي أفرزته رؤية أعطت الأولوية في تفسير التراجع الحضاري للمسلمين، إلى التفسير الثقافي، الذي عاد بالهدم على المدونة التراثية، الأصولية والكلامية والفقهية والسلوكية، وإن كان الشيخ أكثر احتراماً لهذه المدونة والتزاماً بها، من الكثير من رموز السلفية الإصلاحية، وما يسمى الإسلام السياسي، وحتى من بعض شيوخ الأزهر.

يمكن القول إنّ هذا النقد هو مراجعة ضرورية، لا لطريقة الشيخ، وإنما للنمط الدرسي الذي ساد في الأوساط الإسلامية والعلمية الشرعية، حتى على المستوى الأكاديمي، ولم يختصّ به الإخوان المسلمون، أو ما يُسمى جماعات الإسلام السياسي، دون أن يقابله جهد نقديّ مقابل، من رواد هذا الموقف الدرسي المعاصر، يعيد النظر في مقولاته، ويفحص باحترام مقولات النقد الموجّه إليه، خاصة بعد هذه العقود كلّها، حتّى بالنسبة للشيخ القرضاوي نفسه، حيث التطوير في المسار الفقهي. وبالإضافة إلى ضرورة انبثاقه عن المنجز التاريخي، فينبغي أن يسوّغ نفسه بمحاولة أصولية متماسكة، وهو أمر لم يُنجَز، بخلاف المحاولات التاريخية التي تعدّ مرجعية على مستوى الاختيارات الجزئية لهذه الطريقة المعاصرة، كمحاولة ابن حزم الذي قدّم جهداً نظريّاً ضخماً في حقلي الأصول والفروع! ومن ثمّ فقد اتسمت هذه الطريقة المعاصرة بالانتقائية التي قد تتورّط في تناقضات أصولية واضحة، تفقد العملية الفقهية تماسكها!

وفي حين أنّ هذا بعض النقد الضروري الذي قُدّم، فقد استندت مواقف أخرى من الشيخ إلى أسباب ذات طابع سجالي مذهبي، ما بين الأشعرية والسلفية المعاصرة، يُتّهم فيها التيّار الإخواني بأنه كان حاملاً للتمدد السلفي في العقود الأخيرة، وإعادة تكييف الحقائق العلمية لأغراض سياسية، وبقدر ما في هذا النقد من صواب، فإنّه يرجع على بعض أصحابه بالتناقض.

فإذا كان يؤخذ على الإخوان تجاوز الحقيقة العلمية، لصالح الغرض الحزبي، فقد تحولت بعض الاتجاهات الأشعرية المذهبية المعاصرة، إلى نمط من الحزبية المقابلة، التي قد يتورط بعض رموزها فيما يؤخذ على القرضاوي، دون نكير مكافئ من الأتباع والمريدين. ولم تكن هذه الحالة المقابلة منفكّة عن التطورات السياسية من بعد هزيمة الثورات العربية، وانكسار الإخوان المسلمين، وتراجع دور الشيخ القرضاوي.

فعلى المستوى العلمي الصرف، لا يخلو شأن دور الإفتاء الرسمية، وبعضها بتوسّع واضح خاصة دار الإفتاء المصرية، من معالجات فقهية متنكّبة للمدونة الفقهية التراثية، مما يعني أن التيار التقليدي في إحيائيته لن يكون منفكّاً عن التوظيف السياسي من الدولة. وهذا لا يختص بالدور الرسمية، بل وبعض الرموز التي باتت تلتف حولها بعض هذه الاتجاهات، وأشهر هؤلاء الشيخ علي جمعة، مفتي مصر السابق، والذي يمكن إحصاء العديد من الفتاوى له التي تندرج في مسلك طريقة القرضاوي، وقد تتطابق مع بعض اختيارات القرضاوي الجزئية، بل إنّ بعض رموز دار الإفتاء من تلاميذ جمعة، عادوا بالنقد على مسألة "المعتمد المذهبي"، واتهام المدونة الفقهية بالجمود، فضلاً عن الاصطفاف السياسي، الذي يعيد تكييف الحقيقة العلمية والشرعية لصالح طرف سياسي، هو في هذه الحالة الدولة، وفي تطابق آخر مع السلفية الجامية!

ففي خطابه الشهير "اضرب في المليان"، والذي حاول أتباع جمعة، وجمعة نفسه، صرفه تالياً من أن يكون محرضاً على استباحة دماء الإخوان المسلمين، وإن كان السامع له، والسامع لتوضيحات جمعة التالية، لا يشكّ في كونه يحرض على استباحة الإخوان تحديداً بوصفهم خوارج.. في هذا الخطاب، بعد أن أكد جمعة أن الشريعة تؤيد مسلك السيسي وجيشه، بلا تأويل، زعم أن الرؤى (أي المنامات) تواترت بتأييد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والأولياء وأهل البيت، للجيش المصري الذي يخاطبه (أي الجيش الذي يقوده السيسي)، ثم نزّل حديثاً، متجاوزاً عمّا قيل في ضعفه، على جيش السيسي، وهو الأثر الذي يقول: "تكون فتنة، أسلمُ الناس فيها -أو قال خير الناس فيها- الجند الغربي"، (واستشهد بغيره مما لا يصحّ).

ويكفي هذا الموقف للتفوّق على الإخوان المسلمين في كل ما يُتّهمون به من توظيف سياسيّ للدين (وهم لا ينكرون أنهم جماعة لها اشتغال سياسي)، فكيف وفي أن فكرة إنزال الحديث على جيش معين في حقبة زمنية معينة أمر غاية في السفه، وعلى نحو لا يتفق مع ما يُزْعَم لجمعة من الدقة الأصولية والفقهية! (علماً أنه وصف حماس في الخطاب نفسه أنهم خوارج، حينما استدعى هجوم حماس على جماعة "جند أنصار الله" المتحصنة في مسجد ابن تيمية برفح الفلسطينية، فقال: "خوارج يقاتلون خوارج"، وفي الخطاب نفسه كان يبيح استباحة من صنفهم أنهم خوارج).

لقد كان خطابه صريحاً في التعقيب على أحداث مسجدي رابعة والفتح، ومحاولة نقض دعوى الإخوان عن الشرعية، واتهامهم بأنهم يستغلون الديمقراطية سلّماً للتفرد بالحكم، وقال مباشرة بعد مناقشته دعوى الشرعية: "هؤلاء البغاة، الخوارج، إذا أطلق من طرفهم، منهم، أو ممن كثر سوادهم، ولم يكن منهم، أو كان من جهتهم، طلقة رصاص واحدة، اضرب في المليان"، ثمّ تألّى على الله وقال: "فالدين معك، والله معك، ورسوله معك، والمؤمنون معك، والشعب بعد ذلك ظهير لك، والملائكة تؤيدكم في السماء". وبالإضافة إلى هذا الخلط بين مفاهيم البغي والخروج، فقد استخدم تعبيرات لا معنى لها في السياق الفقهي، كوصفه خصوم السيسي بأنّ رائحتهم نتنة، وهو أمر لا يعرف المرء موقعه من مناطات استنباط الأحكام الفقهية!

لم تكن هذه الوقفة الطويلة نسبيّاً مع كلمة علي جمعة، والتي بلغت 37 دقيقة بلا اقتطاع ولا اجتزاء، لإعادة تقييم موقفه أو نقد شخصه، ولكن لبيان المغالطة التي تتورط فيها بعض التجليات الأشعرية المعاصرة، في تولي جمعة والدفاع عنه، ثمّ إسقاط القرضاوي بالكلية، إلى درجة الامتناع عن الترحم عليه، واختصار تاريخه بفتوى كانت إجابة تلفزيونية عن سؤال حول مقاتلة النظام السوري وأنصاره وداعميه حتى لو من العلماء والمدنيين، ونسخ تاريخه بها، والاتكاء عليها لاتهامه بدم الشيخ البوطي رحمه الله. وقد كان ما ذُكِر عن جمعة، سواء في مراعاة متطلبات الدولة والحداثة في الخطاب الفقهي، أو الاصطفاف السياسي، أو تجاوز المدونة الفقهية، يمكن ذكره عن غيره من رموز أخرى لبعض هذه التجليات، يضيق المقام عن ذكرها.

الحاصل أنّ ما يؤخذ على القرضاوي في منهجه، وإن كان نقده حقّاً، فإنّه لم يتفرّد به بين الأزهريين، بل كان القرضاوي أحسن حالاً في موقفه من التراث وتاريخ المسلمين والالتزام بالمدونة الفقهية، كما سلف قوله، من بعض شيوخ الأزهر، وكذلك من بعض رموز الحركات الإسلامية ومدرسة المنار، وما يؤخذ عليه في بعض مواقفه السياسية، أو فتاواه المستعجلة ذات الطابع السياسي، أو المتأثرة بظروف الثورات العربية أو بعض المحيطين به، قد تورّط فيما هو أسوأ منه أزهريون، ومنسوبون للتصوف والمذهبية والأشعرية، مما يعني أنّ هذا الاصطفاف ضدّ الرجل، من البعض على الأقل، باعثه عصبيات مشيخية، أو دواع سياسية، أو مصالح طرأت بعد هزيمة تيار الإخوان المسلمين، أو ضغائن نفسية، وإلا فعلي جمعة، وغيره من رموز هذه التجليات، لم يكن في بعض أوقاته بعيداً عن بعض نشاطات ما يسمى الإسلام السياسي، وبعض رموزه، ومنهم القرضاوي!

إن المدونة التراثية، بمضامينها الكلامية والأصولية والفقهية والسلوكية، هي الخطّ العمودي في هذه الأمة، وهي التي احتفظت بوحدتها الاجتماعية في بعض أصعب أوقاتها محنة، فهي فوق الاحتكار والتسييس، وإنقاذها من التسييس الذي يعود عليها بالتشويه، من واجبات الصادقين ممن يهتمون بأمر إحياء هذه المدونة من جديد، وإعادة الاعتبار لهذا العمود الفقري في تاريخنا.

twitter.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل