أفكَار

الشيخ القرضاوي (1926- 2022).. آخر الإصلاحيين الكبار (1من2)

بشير نافع: تكشف الخلفية التعليمية للقرضاوي عن عالم سلفي- إصلاحي التكوين
بشير نافع: تكشف الخلفية التعليمية للقرضاوي عن عالم سلفي- إصلاحي التكوين

يعد الشيخ يوسف القرضاوي أحد أبرز العلماء المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين وأكثرهم تأثيراً. نشر القرضاوي، منذ الخمسينيات، عشرات الكتب والرسائل في مجالات الفقه والعقائد والثقافة الإسلامية، إضافة إلى عدة مجموعات من الفتاوى، تضمنت آراءه واجتهاداته التي طالما أثارت الجدل وردود الفعل. هذا استطلاع للمؤثرات الفكرية التي ساهمت في تشكيل القرضاوي الشاب، طالباً في جامعة الأزهر، ونشطاً في صفوف حركة الإخوان المسلمين؛ ومن ثم محاولة لقراءة الخلفية الفكرية التي انطلق منها في عدد من أعماله. 

إلى أي درجة، مثلاً، يعتبر القرضاوي امتداداً للحركة الإسلامية الإصلاحية الحديثة، التي ضم جيلها الأول قطاعاً كبيراً من العلماء والجمعيات العلمائية، مثل: محمد عبده (1849ـ 1905) والسيد محمد رشيد رضا (1865ـ 1935) في مصر، جمال الدين القاسمي (1866ـ 1914)، وطاهر الجزائري (1852ـ 1920) في دمشق، ونعمان خير الدين الألوسي (1836ـ 1888) ومحمود شكري الألوسي (1857ـ 1924) في بغداد، والطاهر بن عاشور (1879ـ 1973) في تونس، وعبد الحميد بن باديس (ت 1946) وجمعية العلماء في الجزائر، وندوة العلماء في الهند، وجمعية محمدية في إندونيسيا. 

أخذت الساحة الفكرية الإسلامية تشهد حراكاً ملموساً منذ نهايات القرن السابع عشر، أصبح أكثر تبلوراً خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، سواء مع ظهور حركات إصلاحية سلفية مدوية، مثل الحركة الوهابية، أو بروز عدد من العلماء الإصلاحيين سلفيي التوجه في عدد كبير من الحواضر الإسلامية. وقد تركت رياح التحديث، التي انطلقت بقيادة رجال دولة مسلمين، أحياناً، أو على بدفع من الإدارات الاستعمارية، في أحيان أخرى، بصماتها على الفكر الإسلامي الحديث وتوجهاته. ويمكن القول أن تحدي الحداثة كان أكبر تحد واجهه الفكر الإسلامي منذ القرون الإسلامية الأولى ونشوء العلوم الإسلامية. ولكن من التبسيط، وغير التاريخي، إغفال الرافد الفكري الداخلي، والذهاب إلى أن الإصلاحية الإسلامية كانت مجرد رد فعل على تحديات الحداثة. ستحاول هذه الدراسة قراءة تراث القرضاوي من زاوية تموضعه في سياق حركة الإحياء السلفي والإصلاحي الإسلامي، ومحاولة المسلمين المحدثين الاستجابة للتحديات التي فرضتها رياح التحديث وقيم الحداثة الغربية، في آن واحد.  

النشأة والتكوين
 
ولد يوسف القرضاوي عام 1926 بقرية صفط تراب قرب مدينة المحلة في الدلتا المصرية، وهي القرية التي يضم ترابها رفات الصحابي عبد الله بن جزء الزبيدي، آخر من توفي من الصحابة بمصر. ونظراً لوفاة والده وهو طفل صغير، ثم وفاة والدته وهو في الخامسة عشرة من عمره، انتقل يوسف القرضاوي إلى رعاية عمه وخالاته وجدته. 

تلقى القرضاوي تعليمه الأولي في الكتَاب التقليدي والمدرسة الابتدائية بقريته، القرية التي يذكر طقوسها الحياتية بمزيج من العطف والحنين والانتقاد. فأهل القرى المصرية مؤمنون بطبعهم، متضامنون، وكادحون بتصميم لا يكل من أجل الحياة الكريمة. ولكن تصوف القرون الأخيرة، في رأيه، هو الغالب على تفكير العامة، بما فيه من سلبيات، مثل الجبرية في الاعتقاد، والشركيات التي تشوب التوحيد، بما في ذلك التبرك بالأحجار واستخدام التمائم والأحجبة والمبالغة في تعظيم الأولياء والصالحين.

في سيرته الذاتية، يقف القرضاوي موقفاً نقدياً من مناهج التعليم الإسلامي في المعهد الأزهري، لاسيما نزعة التقليد، التي صبغت تدريس الفقه الإسلامي، على وجه الخصوص. ولم تلبث المؤشرات الأولى على توجهات القرضاوي السلفية الإصلاحية أن بدأت في التكشف، سيما في شعوره المبكر بالاغتراب عن الطريقة التي يدرس بها علم التوحيد، أو علم الكلام، الذي غلب عليه المنظور الأشعري المتأخر ذي المقدمات العقلية المتأثرة بالفلسفة اليونانية. وكما أغلب السلفيين الإصلاحيين، سيوجه القرضاوي، بعد ذلك نقداً صارماً لهذا الأسلوب التعليمي للعقائد، ويصفه بمخالفة طريقة القرآن، التي تقوم على مقدمات فطرية تنشئ العقيدة وتنميها.

أصبح القرضاوي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين في مطلع الأربعينات، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية القلقة. وكما عدد كبير من المتعلمين المصريين الشبان في ذلك الوقت، كانت شخصية حسن البنا (1906ـ 1949) ولغته الدعوية الجديدة هي التي جذبت القرضاوي للإخوان. وكان في صفوف الإخوان المسلمين، على وجه الخصوص، أن تعرف القرضاوي على عدد كبير من أولئك الذين سيساهمون مساهمة هامة في تشكيل رؤيته للإسلام والعالم، كما على عدد ممن سيرافقونه خلال مسيرته الفكرية والدعوية. أول هؤلاء، بالتأكيد، هو حسن البنا، الذي يذكره القرضاوي بقدر هائل من الإعجاب، بالرغم من أنه خالفه بعد ذلك في عدد من المسائل الفقهية والاجتماعية، بما في ذلك الموقف من الولاية العامة للمرأة، والفصل القاطع والتمييزي بين الجنسين. وبينهم البهي الخولي، الذي لا يخفي القرضاوي جدله المبكر مع نزعته الروحية، وعلاقته الوثيقة به بعد ذلك. كما الشيخ محمد الغزالي، الذي ستترك توجهاته الإصلاحية أثراً واسعاً على الثقافة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين؛ والشيخ أحمد العسال، الفقيه والعالم الكبير؛ وآخرين من الجيل نفسه. 

وبفعل علاقته مع الإخوان المسلمين، تعرف القرضاوي على عواقب العمل السياسي الإسلامي في ظل الدولة العربية الإسلامية الحديثة، العواقب التي بدأت باعتقاله عدة شهور في معتقلي الهايكستب، شرقي القاهرة، والطور، جنوبي شبه جزيرة سيناء، بعد صدور قرار الحل الأول للجماعة في ديسمبر/ كانون الأول 1948.     

انتقل القرضاوي في 1950 من طنطا إلى القاهرة للدراسة في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، خلال فترة بالغة الاضطراب من تاريخ مصر الحديث، فترة الانهيار المتسارع للنظام الملكي، وصعود حركة الإخوان المسلمين، ومن ثم قيام ثورة يوليو/ تموز 1952. وكما كل الإصلاحيين الإسلاميين الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات الإسلامية القديمة في القرن العشرين، وجه القرضاوي بعد ذلك نقداً صريحاً وشاملاً لأساليب ومحتوى التعليم الجامعي الأزهري. 

 

حمل الإخوان هم أيضاً توجهات سلفية لا تخفى، لعل أوضحها تلك التي تسجلها "رسالة التعاليم" لحسن البنا، التي تعهد القرضاوي شرحها في أكثر من مناسبة. بل إن الشيخ سيد سابق نفسه، الذي كان كتابه "فقه السنة" أحد المصادر المبكرة للقرضاوي، كان هو الآخر عضواً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين.

 



خلال مرحلة الدراسة بالأزهر، قرأ القرضاوي مع، أو تعرف على، عدد من أبرز أهل العلم والفكر الإسلامي الحديث؛ بما في ذلك الشيخان محمود شلتوت (1893 ـ 1963) وعبد الحليم محمود (1910ـ 78)، اللذان سيتوليان مشيخة الأزهر بعد ذلك؛ الشيخ الطيب النجار (1916ـ 1991)؛ الشيخ موسى صالح شرف العدوي (1894ـ 1985)؛ د. محمد البهي (1905 ـ 82)؛ د. محمد يوسف موسى (1899ـ 1963)؛ د. عبد الوهاب خلاف (1888ـ 1956)؛ الأستاذ سيد قطب (1906ـ 1966)؛ وبالطبع، الشيخ سيد سابق. 

وقد توثقت العلاقة بين العالم الشاب يوسف القرضاوي والفقيه الكبير، شيخ الأزهر، الشيخ محمود شلتوت، حتى أن شلتوت كلف القرضاوي وصديقه أحمد العسال بإعداد المقالات التي تضمنت نظراته في الأجزاء العشرة الأولى من القرآن، لنشرها في صورة كتاب. وفي دوائر الإخوان المسلمين، تعرف القرضاوي بالمفكر والمؤرخ الهندي الإسلامي أبي الحسن الندوي (1914– 1999)، كما بالعالم والمفكر السوري، والمراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، مصطفى السباعي (1915– 1964). 

أودع القرضاوي المعتقل بعد انفجار الصراع بين قادة ثورة يوليو/ تموز والإخوان المسلمين في أكتوبر/ تشرين ثاني 1954. كانت حملة الاعتقالات هذه المرة قاسية، وقد مارست خلالها الأجهزة الأمنية المصرية التعذيب على نطاق واسع، وأهدر فيها ما تبقى من سلطة القانون والقضاء. 

كان القرضاوي بدأ المرحلة الأولى من دراسته العليا بكلية أصول الدين، حيث أضيف إلى قائمة العلماء الذين أثروا على مسيرته الفكرية العالم المقاصدي الكبير محمد عبد الله دراز (1894ـ 1958). ويذكر القرضاوي أنه حرص عندما أرسل للمعتقل على اصطحاب كتابين معه: "الموافقات" للشاطبي (ت 790هـ/ 1388)، الفقيه الأندلسي المقاصدي، و"إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن قيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية الشهير. وفي المعتقل، سيتدارس وبعض رفاقه فصولاً من كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني (1760ـ 1834)، الفقيه الزيدي، الذي يعتبر أحد مجددي المدرسة السلفية في الفترة الحديثة المبكرة.

في خريف 1961، وبعد موافقة أمنية مصرية متأخرة، غادر الشيخ القرضاوي القاهرة إلى الدوحة، حيث عين مديراً للمعهد الديني القطري. وبالرغم من أن القرضاوي كان قد وصل مرحلة النضج الفكري، وأن توجهاته كانت استقرت إلى حد كبير، إلا أن من الصعب تصور أنه لم يتأثر بمناخات قطر الإسلامية، حيث أن قطر هي إحدى المناطق القليلة في الجزيرة العربية، خارج نطاق المملكة العربية السعودية، التي انحازت لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703- 1792)؛ وينتمي أغلب علماء قطر إلى المدرسة السلفية التقليدية. وفي الوقت الذي كان الأزهر قد أصبح ميداناً لحركة إصلاحية غير مسبوقة، أجرى القرضاوي هو الآخر حركته الإصلاحية في المعهد الديني بالدوحة، مضيفاً المنهج الرسمي التعليمي الحديث إلى مساقات العلوم الإسلامية التي يقوم عليها المعهد. وحتى العلوم الإسلامية تعرضت هي الأخرى، تحت إشراف القرضاوي، للتغيير، منهجاً، وكتباً، وطريقة تدريس.

تكشف الخلفية التعليمية للقرضاوي عن عالم سلفي ـ إصلاحي التكوين، تأثر مبكراً بكتابات سيد سابق ومحمود خطاب السبكي، وبتوجهات المراغي وشلتوت والبهي الإصلاحية، وميراث ابن تيمية وابن القيم والشوكاني، كما بأعمال الفقه المقاصدي. وإن ربطه الالتزام الإسلامي السياسي بجماعة الإخوان المسلمين، فقد حمل الإخوان هم أيضاً توجهات سلفية لا تخفى، لعل أوضحها تلك التي تسجلها "رسالة التعاليم" لحسن البنا، التي تعهد القرضاوي شرحها في أكثر من مناسبة. بل إن الشيخ سيد سابق نفسه، الذي كان كتابه "فقه السنة" أحد المصادر المبكرة للقرضاوي، كان هو الآخر عضواً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين.

 

السؤال المهم الآن هو أي سلفية هي تلك التي يمثلها القرضاوي؟ وكيف يمكن قراءة الموقع الذي وقف فيه القرضاوي في الخارطة الفكرية الإسلامية، من حيث الصلة بتاريخ التيار السلفي الإصلاحي؟ 

 

هذا مدار ما يأتي من قول في الجزء الثاني من هذه القراءة.. 


التعليقات (1)
"الشريعة و الحياة"
الخميس، 29-09-2022 07:56 م
العلامة يغادر محراب الحياة .. عرفت الشيخ من خلال أشهر برنامج في العالم الإسلامي "الشريعة و الحياة" الحلقة الأولى من برنامج الشريعة و الحياة بتاريخ 03 ـ 11 ـ 1996 م عن الشريعة و الحياة و مفهومها و دورها في حياة المسلم .. ناقش برنامج الشريعة و الحياة في أولى حلقاته مع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مفهوم الشريعة و دورها في تنظيم حياة الناس ، و ما إذا كان من السليم ترك الحياة للعقل ... كما فقدت الجزيرة المذيع ماهر عبد الله من أصل فلسطيني مقدم برنامج الشريعة و الحياة الذي توفي في حادث مروري يترك الشريعة و الحياة يتيماً حيث ارتبط إسمه ببرنامج الشريعة و الحياة الذي إستضاف عدداً من المعنيين بالشأن الديني و السياسي في العالم الإسلامي إضافة إلى تقدمه برامج حوارية أخرى رحمه الله و أسكنه فسيح جناته.