كتب

النظرة التقليدية للمسألة الوطنية السورية.. قراءة في كتاب (2/2)

التخبّط السياسيّ الذي اعترى الزعماء في سوريا ولبنان يحتاج إلى أكثر من فك التشابك لترتيب أحداث تلك المرحلة
التخبّط السياسيّ الذي اعترى الزعماء في سوريا ولبنان يحتاج إلى أكثر من فك التشابك لترتيب أحداث تلك المرحلة

الكتاب: "استقلال سورية بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية 1927- 1946"
الكاتب: د. محمد الحوراني
الناشر: دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2022

(443 صفحة من القطع الكبير)

من تداعيات معاهدة 1936 خسارة لواء الإسكندرون

في الفصل الثالث تحدّث الباحث محمد الحوراني عن أحداث ما قبل معاهدة 1936 وعن الظروف التي أدّت إلى توقيعها، والجهود المبذولة في ذلك، وما أحاط بأعضاء الوفد السوري المفاوض من شبهة العلاقة بالماسونية والانتساب لها، فضلاً عن المقارنة بين المعاهدة وما سبقها من معاهدات بدءا من اتفاق فيصل ـ كليمنصو، وما رافق تلك المرحلة من أحداث، وظروف استئثار الكتلة بالحكم، والظروف التي أدت إلى ضياع حكمها، وتأسيس الكتلة لفرقة القمصان الحديدية، في مقابل عصبة العمل القومي.
 
أما الفصل الرابع: فقد تحدّث الباحث الحوراني عن نتائج المعاهدة على أرض الواقع، وما سبّبته من انقسامات، وعن المحاولات الحثيثة لوضعها قيد التنفيذ، ما قُدّم من تنازلات في سبيل ذلك، وعن احتمال وجود دور يهودي معرقل، وعمّا إذا كانت المعاهدة قد حقّقت هدفاً، خاصة تجاه التهاون الذي ضيّع لواء اسكندرون وحكم الكتلة، وصدى ذلك في الصحافة.
 
أما في الفصل الخامس: فقد تحدث عن تأثيرات الحرب العالميّة الثانية في الوضع العالمي والمتغيّرات الدوليّة، وانعكاس ذلك على سوريّة، الأمر الذي أدّى إلى الكتلة إلى الحكم، في ظلّ تنافس فرنسيّ - بريطانيّ، واستماتة فرنسا للبقاء مستخدمةً كلّ وسائل العدوان، وما عانته البلاد من ثورات عامّة واضطرابات كانت السبب الرئيس في جلاء القوات الفرنسيّة وتحقيق الاستقلال، إضافةً إلى الموقف من المشاريع الاتحاديّة العربيّة.
 
وفي الفصل السادس: تحدّث عن الكتلة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وانقسامها إلى حزبين هزيلين، وعن فرحة الاستقلال التي لم تتمّ بسبب ضياع فلسطين، وعن دور الكتلة في القضايا العربيّة، ودورها الدوليّ ولا سيّما في مرحلة ما بعد النكبة، والظروف الداخليّة والخارجيّة والتأثيرات الدوليّة التي نتج عنها الجلاء نهائياً عن البلاد.

ويتساءل الباحث محمد الحوراني في كتابه، ما مسؤوليّة قادة الكتلة ولاسيّما في التوقيع على اتّفاقيّة 1936 وخسارة جزء مهمّ من الأراضي السوريّة، لا سيما لواء الإسكندرون ؟ وهل كانَ بعضهم ـ على الأقلّ ـ متواطئاً مع المُحتلّ الفرنسيّ في توقيعه على التنازلات؟ وهل كانَ هؤلاء حقاً هم من ساعد المستعمر الفرنسيّ في تنمية النزعات الطائفيّة والقوميّة فأضعفوا بلدهم وأوهنوا من عزيمة أبناء أمّتهم؟ وهل صحيحٌ أنّ معظم القادة في الكتلة الوطنيّة من الماسونيّين؟ وهل كانوا على علم ودراية بحقيقة الماسونيّة ومخطّطاتها؟ وما حقيقة ما قِيل ويُقال عن علاقاتهم بالوكالة اليهوديّة التي كانت تسعى لتأسيس (وطن قوميّ لليهود في فلسطين)؟ وهل نجح قادة الكتلة في الوصول إلى الاستقلال الحقيقي والناجز لبلدهم؟

وعندما وُقعت معاهدة الاستقلال بين سوريا وفرنسا العام 1936، كان لواء الإسكندرون مشمولاً ضمن مناطق الدولة السورية. وبعد انضمام الدولة السورية إلى عصبة الأمم عام 1936 وشمول أراضيها لواء الإسكندرون، بادرت تركيا برفض إبقاء اللواء ضمن الدولة السورية، وطالبت بتحويله إلى دولة مستقلة، تمهيداً لضمه لاحقاً. ورفعت تركيا القضية إلى عصبة الأمم بالتعاون مع فرنسا، وهو ما اعتبر مخالفةً فرنسية لصكّ الانتداب الذي يمنع الدولة المنتدَبة من التنازل عن أيّ جزء من الأراضي المنتدبة عليها.

وكانت المرحلة الممتدة من العام 1927 إلى 1936 هي المرحلة الذهبية لقيادة الكتلة الوطنية مسيرة النضال الوطني، المتركز بصورة رئيسية في خوض المعارك الانتخابية، والصراع السياسي المباشر بواسطة الاضرابات والمظاهرات، والمواجهات السياسية النيابية والصحافية، بهدف تحسين شروط مضمون المعاهدة التي رفضتها الكتلة الوطينة في صيغتها الأولى للعام 1934، ثم أبرمتها مع الحكومة الفرنسية في العام 1936، بعد أن حققت استقلالاً منقوصاً لسوريا تمثل في وحدة جميع المناطق السورية (استثناء لبنان  ثم لواء الإسكندرون). و"في 14 تشرين الثاني سنة 1936 جرت الانتخابات في جميع المدن السورية، ففازت قوائم الكتلة الوطنية في جميع المدن، وأغلب الأقضية"..

وسارعت الكتلة الوطنية إلى قطف ثمار نجاحها في إقرار المعاهدة التي اعتبرت آنذاك كسباً محققاً لسورية خصوصاً على صعيد وحدة البلاد. في وقت كانت المعاهدة فيه توضع في أيامها ثلاث سنوات تالية [بفترة يسميها البعض فترة "الحكم الوطني"] تجاهل الاعتراف الكامل بالمعاهدة خصوصاً لجهة التلكؤ في عرضها واقرارها في البرلمان الفرنسي. هذا الأمر وضع الحكومة الوطنية في وضع صعب جداً تجاه المعارضة، مقابل أن الكتلة الوطنية لم تكن ذات بنية حزبية متماسكة، بل كانت تجمعاً مناطقياً تحت شعارات وطنية عامة، سرعان ما ظهرت تناقضاتها عندما استلمت الحكم وأخذ "تماسكها" يتراجع أمام إغراءات السلطة نفسها، فضلاً عن أنها هي غير المجربة في السلطة تبدأ مرحلة جديدة لم تعد "سلبية" أي في المعارضة".
 
ويمكن اعتبار إبرام المعاهدة 1936، والسنوات القليلة التي تلتها بداية مسلسل الانحدار التاريخي للكتلة الوطنية، ولهيمنتها المطلقة على الحياة السياسية في سوريا. فضيق أفق البرجوازية السورية جعلها لاترى إلا مصالحها، ولم تكن قادرة على بلورة برنامج وطني لقيادة الجبهة الداخلية، وكانت معنية وحريصة على دمج التحالف الطبقي من كبار الملاكين والاقطاعيين والتجار في بنيتها السياسية، ومقولاتها الايديولوجية، فضلاً عن أن تشكلها التاريخي الضعيف، ونموها البطيء على هامش السيطرة الكولونيالية، قد جعلها تستخدم الشعب كفزاعة في إطار تحسين موقعها التفاوضي مع المستعمرين، ليس إلا.

 

يمكن اعتبار إبرام المعاهدة 1936، والسنوات القليلة التي تلتها بداية مسلسل الانحدار التاريخي للكتلة الوطنية، ولهيمنتها المطلقة على الحياة السياسية في سوريا. فضيق أفق البرجوازية السورية جعلها لاترى إلا مصالحها، ولم تكن قادرة على بلورة برنامج وطني لقيادة الجبهة الداخلية،

  

ولا تنفصل معاهدة 36 عن نمو الحركة السياسية الوطنية المطالبة بالاستقلال، والتي اتخذت في أحيان كثيرة شكل انتفاضات مسلحة، وشعور المستعمرين بضرورة تحويل هذه الحركة عن مجراها بعد أن فشلوا في لجمها.

فكانت سياسة التفاوض والوعود بالاستقلال سياسة متبعة عند الإنكليز والفرنسيين على حد سواء، نابعة من رؤية هؤلاء المستعمرين الاستراتيجية إلى ما كانوا يسمونه الشرق الأدنى والشرق الأوسط، وموقعه في سياستهما، وفي مسار التوسع الرأسمالي العالمي. وكان ذلك يلقى استجابة لدى البرجوازية في سائر الأقطار العربية، التي كانت تطمح في نيل الاستقلال لتحرير مصالحها الاقتصادية، وتحسين مواقعها في السوق العالمية، أو لم يكن يتاح لها ذلك إلا بالهيمنة على السوق المحلية.
 
إن توقيع معاهدة 1936، حقق ما كانت تريده البرجوازية السورية، أي إلغاء الانتداب وتبديله بمعاهدة، وتكريس وحدة " الدويلات السورية " السابقة في دولة واحدة، بعد أن ألحقت الأقضية الأربعة بلبنان، ولواء الاسكندورن الذي تخلت عنه فرنسا لمصلحة تركيا في العام 1939. وتوقيع المعاهدة، هو أقصى ما كانت  تقدر عليه البرجوازية السورية، مستغلة التناقضات والتواترات داخل المعسكر الامبريالي الغربي بعد انتهاء أزمة الرأسمالية العالمية 1929-1932، وميل فرنسا إلى عقد تسوية تحمي بها ظهرها في مستعمراتها، في حال دخولها في حرب جديدة. وقد مكنت هذه المعاهدة من انتقال البرجوازية السورية في علاقتها مع الاستعمار إلى مرحلة جديدة نسبياً، إذ تولت الكتلة الوطنية تشكيل حكومة وطنية برئاسة جميل مردم بيك، كما انتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، وفارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي.
 
ولكن سرعان ما دبت الانشقاقات العُلْوِيَة داخل الكتلة الوطنية بداية من العام 1937، وهي انشقاقات ناجمة عن تفجير الصراع بين شرائح البرجوازية السورية ذاتها، حين اتجهت أقسام منها إلى استغلال الأيدي العاملة الرخيصة والمواد الخام، في سبيل تحقيق السيطرة الوطنية على التراكم من خلال بناء قاعدة صناعية، في حين أن الشرائح الكمبرادورية منها اتجهت إلى مشاركة الرأسمال الأوروبي. فضلاً عن ذلك، فإن التطورات التي شهدها الوضع الدولي آنذاك، خصوصاً مع صعود النازية في المانيا واستعادتها شبابها الاحتكاري، وكذلك الفاشية في ايطاليا، والغزو البريطاني ـ الفرنسي لسوريا عام 1941، واحتداد التناقضات بين الاستعمار الفرنسي والجماهير الشعبية، كل هذه العوامل مجتمعة، عمقت من ملامح الانفضاض الطبقي للجبهة الوطنية الداخلية التي كانت إحدى مكاسب ثورة 1925، والتي استفادت منها الكتلة الوطنية، فكان انسلاخ الفئات الوسطى وجماهير البرجوازية الصغيرة في المدن، وهي القوى الاجتماعية الجديدة التي تبلورت في ظل السيطرة الاستعمارية. وبما أنها كانت أكثر ثورية، فإنها ستشكل المعارضة الراديكالية التي قاعدتها الأساسية دخول الجماهير الشعبية إلى حلبة الصراع ضد الاستعمار، والاقطاع، والرجعية الداخلية، لتتجاوز بذلك قدرة البرجوازية السورية ومطامحها المنحصرة في إطار الاستقلال، والديمقراطية الليبرالية الخجولة، واعتمادها أسلوب المفاوضات، كأسلوب وحيد لحل المسألة الوطنية السورية، وعجزها عن صياغة برنامج سياسي حقيقي يجند الطبقات الشعبية حولها لخوض الصراع ضد الاستعمار الفرنسي، وهوالأمر الذي جعلها دائماً تقبل التحكيم الامبريالي.

 

ولاشك أن هذه المعارضة ستكون متكونة من أحزاب سياسية جديدة، ذات انتماءات ايديولوجية واضحة المعالم، حيث أن الخيارات الايديولوجية التي طرحتها هذه الأحزاب كانت نابعة من تصدي هذه الأخيرة للمسألة الاجتماعية في رسم برامجها، ولكن "هذه الخيارات الأيديولوجية لم تصل إلى مرحلة الاستقطاب إلا بعد الحرب العالمية الثانية".
 
إن معاهدة 1936 التي عممت في بلدان المشرق العربي الثلاثة سوريا ـ العراق ـ مصر، التي كانت خاضعة للانتداب الفرنسي والبريطاني، قد أرست بداية التحالف بين الفئات البرجوازية الحاكمة، والإقطاع القبلي السائد في العراق وسوريا، والإقطاع السياسي في لبنان، ونظام العزبة في مصر، والمراكز الرأسمالية الغربية، وهو الأمر الذي جعل حل المسألة الوطنية في منظور هذه الفئات، لا يمكن رؤيته إلا في إطار الارتباط بالغرب. فضلاً عن ذلك، فإن معاهدة 1936، بمقولاتها السياسية والايديولوجية والاجتماعية المحددة من قبل الدول الاستعمارية، وبارغامها طبع المسألة الوطنية في سوريا والعراق ومصر بطابع "الوطنية السورية" و"الوطنية العراقية" و"الوطنية المصرية"، قد أرست أسس الدولة القطرية الحديثة، حيث تسيطر فيها طبقات وفئات آنفة الذكر، تشكلت ونمت ضمن إطار الوضع الكولونيالي، وذات مصالح قطرية محدودة، ومتناقضة مع القضية القومية العربية، ولم يكن كل مطمحها من طرح قضية الاستقلال سوى تحسين شروط العلاقة مع الدول الاستعمارية الأوروبية، لا التصفية المادية لقاعدة السيطرة الامبريالية تماماً، ولهذا كان الاستقلال السياسي الذي حققته مقيداً بهذه المعاهدة.

 

إن معاهدة 1936 التي عممت في بلدان المشرق العربي الثلاثة سوريا ـ العراق ـ مصر، التي كانت خاضعة للانتداب الفرنسي والبريطاني، قد أرست بداية التحالف بين الفئات البرجوازية الحاكمة، والإقطاع القبلي السائد في العراق وسوريا، والإقطاع السياسي في لبنان، ونظام العزبة في مصر، والمراكز الرأسمالية الغربية،

 



في الختام، هدف الباحث محمد الحوراني إلى قراءة الأحداث بوساطة وثائق ومذكّرات رجال الدولة أولاً، وآراء أعداء الكتلة وأصدقائها ومدوّنات شخصيّاتها ثانياً، كما هدف إلى إجراء لقاءات مع بعض المعمّرين الذين عايشوا أحداث تلك المرحلة، وبحسب الاستطلاع الذي أُجري قبل اعتماد موضوع الكتاب، تبيّن أنّ شخصيّات تمتُ بصلة القرابة والنسب إلى بعض قادة الكتلة، تمتلك أوراقاً مهمّة كأوراق هاشم الأتاسي، وأوراق شكري القوّتلي، وأوراق فارس الخوري، وحسني البرازي إلى الجابري حمص ودمشق وحلب، على الرغم من الصعوبات التي تكمن في ترتيب الأحداث التاريخيّة المتسلسلة لأعضاء الكتلة، ومعرفة مساعيهم العمليّة في التنسيق مع قادة الكفاح المُسلّح لإبقاء البندقية نقطة قوّة وورقة الضغط الأهمّ التي تجبر العدو على قبول إرادة الشعب، فإنَّ التخبّط السياسيّ الذي اعترى الزعماء في سوريّة ولبنان يحتاج إلى أكثر من فك التشابك لترتيب أحداث تلك المرحلة.

 

إقرأ أيضا: النظرة التقليدية للمسألة الوطنية السورية.. قراءة في كتاب (1/2)


التعليقات (0)