كتب

جولة في أروقة البيت الأبيض.. مذكرات هيلاري كلينتون

هيلاري كلينتون من أكثر النساء تأثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية
هيلاري كلينتون من أكثر النساء تأثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية

الكتاب: "مذكرات هيلاري رودهام كلينتون: خيارات صعبة"
الكاتب: هيلاري رودهام كلينتون

ترجمة: ميراي يونس
الناشر: شركة المطبوعات التوزيع والنشر، 2015
عدد الصفحات: 573

1 ـ بين يدي الكتاب

يكتب المشاهير مذكراتهم الشخصية بعد تراجع أدوارهم في الحياة العامة أو إحالتهم على التقاعد. فيستجيبون عبر إحياء الأحداث التي شاركوا فيها لرغبتهم في تخليد الذات، خاصة بعد أن ينفض من حولهم الملأ. وفي الآن ذاته يمنحون، بالعودة إلى الذاكرة، ذواتهم الفرصة للتعبير عن ذاتها لإعادة فهم الماضي وتقييم أدوارهم فيه من منظور مختلف أقرب إلى الموضوعية بعد أن يكون الزمن قد بدّد الطموحات الشخصية ونال من الرهانات الخاصة. 

وتبقى المذكرات السياسية أكثر هذه الكتابات تعقيدا بين نظيراتها. فحياة السّياسي مرتبطة بتدبير الشأن العام وتاريخه على صلة وثيقة بالتاريخ الجماعي أكثر مما هو شأن شخصي. فتتجاوز حياة هيلاري كلينتون، على سبيل المثال، الشأن القومي الأمريكي إلى الشأن العالمي باعتبارها من أكثر النساء تأثيرا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كانت السيدة الأولى خلال حكم بيل كلينتون 1993 ـ 2001. ثم تولت عضوية ومجلس الشيوخ الأمريكي بمدينة نيويورك في الفترة من عام 2001 وحتى عام 2009. وخاضت بعد ذلك انتخابات الترشيح لتمثيل الحزب الديمقراطي وخسرتها لفائدة باراك أوباما لتتولى منصب وزيرة الخارجية الأمريكي في عهدته الأولى 2009  ـ 2013. 

وبعد أن تفرغت لكتابة مذكراتها عادت إلى المشهد السياسي من جديد ومثّلت الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية لعام 2016 ولكنها خسرتها لفائدة دونالد ترامب. ولا شك أن مذكراتها الشخصية ستكتسب من هذه السيرة أهميتها المضاعفة.

2 ـ الدّخول الآمن إلى الغرفة السّابعة

على خلاف الخرافات التي تحظر على الزائر دخول الغرفة السّابعة من القصور السحرية تأخذنا هيلاري كلينتون من أيدينا لنقتحم تلك الغرفة من البيت الأبيض. ولا شكّ أنّ الرحلة ستكون مذهلة لما يشاع عنها من أساطير تروي ما للمخابرات ولأصحاب رأسمال وللوبيات المتنفّذة من دور في رسم سياسات العالم بأسره. فتمثّل مذكّراتها إذن فرصتنا لنكتشف هذا العالم أو هكذا نعتقد على الأقلّ. 

ولكن إلى أي مدى يمكن التسليم بكل ما جاء فيها، خاصّة أنها نشرتها قبيل ترشحها لمنازلة الانتخابات الرئاسية عساها تكون السيدة الأولى التي تعتلي هذا المنصب في الولايات المتحدة. فلا شك أن مذكراتها ستمثل حجز الزاوية من خطتها وستختلف بالضرورة عن مذكرات شيخ متقاعد باتت حياته أشبه بميناء قديم هجرته سفنه.

جاءت هذه المذكرات في ستة أجزاء هي "بداية جديدة" و"عبر المحيط الهادي" فعرضت التحديات التي تواجه والنفوذ الأمريكي في عالم منفلت. وتوسعت في كيفية مواجهة العملاق الصيني الذي يخوض معركته ضدها بطريقة ناعمة، و"بين الأمل والتاريخ" فعرضت السياسة الأمريكية في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وفي "المستقبل الذي نريد" عبّرت عن مواقفها من القضايا العالمية كالمناخ وسبل مجابهة الكوارث والإنترنت وحقوق الإنسان. ولكننا لن نعرض كامل مادتها. ولن نهتم إلا بما كان على صلة بالعالمين العربي والإسلامي الواردة في الجزء الثالث بعنوان "الحرب والسلام" الذي قدّمت فيه عملها على تخليص أمريكا من المستنقع الأفغاني أو الوارد في الجزء الخامس بعنوان "اضطرابات" وفيه أبرزت كيفيّة تعاطيها مع عناصر التوتر في العالم العربي.

3 ـ أفغانستان أو أمريكا العالقة في الوحل

تنطلق هيلاري كلينتون من عرض وقائع اجتماع الرئيس أوباما بكبار مساعديه لتحديد القرار الذي يجب اتخاذه بشأن المأزق الأفغاني في أيامه الأولى بالبيت الأبيض. فـ"ـالصيف كان مريرا" على عبارتها والخسائر الأمريكية كانت كبيرة. والجميع بات يدرك أنّ الولايات المتحدة قد وقعت بعد في المستنقع الذي لم يتوقعه بوش الابن حينما أعلن الحرب. وكان على الاجتماع أن يصادق على مقترح إلحاق 17 ألف جندي بساحة المعركة و4 آلاف مدرب عسكري لتدريب القوات المحلية والعمل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فيكشف تدبر الأحداث وتأمل النقاشات عن مواجهة عاتية بين صقور البنتاغون الطامحين إلى المزيد من العمليات العسكرية واستقدام المزيد من الجنود والإدارة الجديدة التي تطمح إلى التخلص من حرب أورثها إياها الجمهوريون دون يفكروا في كيفية الخروج منها. 

 

على خلاف الخرافات التي تحظر على الزائر دخول الغرفة السّابعة من القصور السحرية تأخذنا هيلاري كلينتون من أيدينا لنقتحم تلك الغرفة من البيت الأبيض. ولا شكّ أنّ الرحلة ستكون مذهلة لما يشاع عنها من أساطير تروي ما للمخابرات ولأصحاب رأسمال وللوبيات المتنفّذة من دور في رسم سياسات العالم بأسره. فتمثّل مذكّراتها إذن فرصتنا لنكتشف هذا العالم أو هكذا نعتقد على الأقلّ.

 



ولا تسعف القارئ بالمعلومات الكثيرة ليتأوّل دوافع العسكر، إن هو الكبرياء الزائف أم هو تأثير لوبيات تجارة السلاح أم هي الخلفيات الإيديولوجية التي تؤمن بضرورة السيطرة على العالم سيطرة مباشرة. ولكن سردها يكشف حالة اليأس التي باتت تعيشه الطبقة السياسية، بحيث غدا الجيش الأفغاني المتهالك أملها الوحيد في الخلاص. تقول "أملنا أن تكون الحكومة والجيش الأفغانيان، في النهاية، قويين كفاية ليتحملا المسؤولية ويوفرا الأمن لبلديهما، ويصدّا التمرد ويبقياه بعيدا. عند هذا الحد ستنعدم الحاجة إلى المساعدة الأمريكية وتبدأ قواتنا بالعودة إلى الوطن". 

وفي هذا السياق تظهر أطروحة بايدن، نائب الرئيس حينها والرئيس الحالي اليوم، التي سيتبناها أوباما وأساسها المباعدة بين القاعدة وطالبان لتفكيك الأولى ومحاولة إيجاد أرضية تفاهم ما مع الثانية أو مع طيف منها على الأقل لإنهاكها. ولا عجب في التّمييز بين تنظيمين يشتركان في الأرضية الأيديولوجية نفسها. فخطر طالبان موجه إلى السكّان المحليين أم ا القاعدة فتستهدف العالم الخارجي وأمريكا تحديدا. 

4 ـ العالم العربي.. الاضطرابات

ورد حديثها عن العالم العربي (وإيران) بعنوان اضطرابات واستغرق 7 فصول تحدثت فيها عن السلام في الشرق الأوسط والربيع العربي والحرب في كل من ليبيا وسوريا. والجامع بين هذه الفصول وصفها لمدى تردي الأوضاع العربية من غياب للديمقراطية وفساد للطبقة الحاكمة وتزوير للانتخابات وضعف المجتمع المدني وهيمنة للسلطة على القضاء. وجاء عرضها خطيا أشبه باليوميات، يوازي بين وصف الواقع البائس وجلسات التوبيخ التي كانت تعقدها مع زعمائه. ويصل تبجحها حدّ الإيحاء بأنها صانعة الربيع العربي بشكل مّا. 

تقول عن كلمتها في الزعماء العرب بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي "منتدى المستقبل"، "التفتّ إلى كاتبي خطبي، ميغان روني ودان شفيرين وقلت لهما: سئمت العبارات المعتادة كلّما ذهبت إلى هناك. أريد قول شيء مدوّ فعلا هذه المرة" وتكرر مرارا شعورها بضرورة أن يكون صوتها مميّزا. فتبدو كمن يعمل على قلب المعادلة من أجل الانتصار إلى القيم الأصيلة بعيدة عن البراغماتية السياسية التي تربط العمل بالمصالح الضيقة للدول. 

وتحاول أن تقطع مع تقليد الولايات المتحدة التي تقدّم مشاغلها الأمنية على حساب الإصلاح ونشر الديمقراطية. والحالة اليمنية تختزل هذه السياسة المرتبكة او الانتهازية، تقول: "وكانت علاقة أميركا بالرئيس صالح رمزا للخيار المحيّر الذي تعانيه سياستنا في منطقة الشرق الأوسط. كان فاسدا ومستبدا، لكنه التزم أيضا بمحاربة تنظيم القاعدة". 

وبالمقابل تعتقد أن" قلة من الزعماء العرب" [تعودوا] سماع الانتقادات تقال علنا ومباشرة. وعلى الرّغم من تفهمي مشاعرهم وعاداتهم، قضت الضرورة بأن يأخذوا على محمل الجد السرعة التي يتغيّر بها العالم من حولهم. وجب عليّ أن أعبر عن ذلك بطريقة غير ديبلوماسية، ففعلت، وقلت ختاما: "دعونا نواجه هذا المستقبل صراحة، ونناقش علنا ما يجب القيام به. دعونا لمرّة نتجاوز الخطب الرنّانة ونتخلى عن الخطط الخجولة والتدريجية، ونلتزم المحافظة على تحرّك هذه المنطقة في الاتجاه الصحيح. حين أنهيت علّق الصحافيون الأمريكيون الذين يرافقونني في جولتي على كلامي القاسي في رأيهم. تساءلت هل يلي ذلك أي إجراء"؟

5 ـ السياسة الخارجية الأمريكية.. العصا دون جزرة

تساعدنا هذه المذكّرات على فهم العناصر الثابتة في السياسة الخارجية والمتحولة منها. فمن هذا القار الثابت هاجس تحقيق المصالح الأمريكية والحفاظ على حياة الجنود مهما كان الثمن مكلفا للشعوب التي يعلنون دعمها وحمايتها. وما ذلك غير نأي عن ردود الأفعال المحلية ذات الوقع الثقيل في السباقات الانتخابية. أما الآخر الذي يتم غزوه أو عقد الشراكات معه فلا ينظر إليه إلاّ بصفته موضوعا تتمّ الاستفادة القصوى منه دون أن تؤخذ حاجاته الإنسانية بعين الاعتبار. وسياستها تظل قائمة على الإرغام والغصب وعلى العصا دون جزر. وعرض هيلاري كلينتون لمفاوضات دايتون للسلام خير تعبير على ذلك فـ"ـفي أحد الأيام الصعبة من محادثات السلام التي استضافتها الولايات المتحدة في دايتون، في ولاية أوهايو، وحين رفض ميلوسيفيتش تقديم أي تنازل، اصطحبه ريشارد إلى حظيرة مملوءة بالطائرات العسكرية في قاعدة رايت باترسون للقوات الجوية، ليدله بالعين المجردة إلى قوة أمريكا العسكرية. كانت الرسالة واضحة: اختر بين امرين، إما الحل أو مواجهة العواقب. كانت المفاوضات عرضا مبهرا من المهارة الديبلوماسية، والحرب التي بدت مستعصية، انتهت".

 

لقد غلب على هذه المذكرات التبجح فكانت كاتبتها تعلن على رؤوس الملإ أنها خبيرة بعالم السياسة وكواليسها قادرة على فرض سلطان الولايات المتحدة الأمريكية في العالم وتلحّ ضمنا على تقديم نفسها بصفتها ندّا لأوباما.

 



أما المتحوّل فيتعلّق بموقف الولايات المتحدة من المغامرات العسكرية بعد مأزقي العراق وأفغانستان. ففي هذه المذكرات عن جذور موقف بايدن الذي تخلى عن أفغانستان وعن حكامها الموالين لهم لصالح طالبان. فقد بدا قادة الحزب الديمقراطي يائسين تماما من تحقيق أي نصر عسكري كامل في مثل هذه المهام. ويتزعم بايدن هذا الموقف وعبّر عنه أكثر من مرّة. تقول عن موقفه من الوجود الأمريكي في أفغانستان "وكان نائب الرئيس بايدن أكثر المعارضين حدة لمقترحات البنتاغون. كانت زيادة عدد القوات بالنسبة إليه فكرة لا أمل لها في النجاح. أفغانستان ليست العراق. والجهد لـ"ـبناء الأمة" على نطاق واسع، في مكان تنعدم فيه البنية التحتية والسلطة في الحكم، محكوم عليه بالفشل. وأعتقد أن طالبان لا يمكن أن تهزم وإرسال مزيد من القوات الأمريكية دعوة إلى مستنقع دموي آخر". وانطلاقا من هذه القناعات نفهم مختلف تصريحات الرئيس الأمريكي اليوم من الحرب الأوكرانية الروسية أو من استعمال القوة ضد إيران في المفاوضات النووية المتعثرة.

6 ـ خيارات صعبة.. وبعد؟

لقد غلب على هذه المذكرات التبجح فكانت كاتبتها تعلن على رؤوس الملإ أنها خبيرة بعالم السياسة وكواليسها قادرة على فرض سلطان الولايات المتحدة الأمريكية في العالم وتلحّ ضمنا على تقديم نفسها بصفتها ندّا لأوباما. فتسيّر سياسة أمريكا بكفاءة وفق رؤيتها هي وتفرض احترام خياراتها فرضا. وكانت تحاول باستمرار أن تنأى بنفسها عن الأخطاء الامريكية القاتلة ومنها غزو العراق وإن صوتت لفائدته بنعم في مجلس النواب الأمريكي عام 2002. تقول "ولم يكن السبب المصلحة الخاصّة السياسية، إذ طالبني ناخبيّ الأساسيون والصحافة في النهاية بأن أقول الكلمة. حين صوت على التفويض إلى السلطة عام 2002، قلت إنه أصعب قرار اتخذته مطلقا". اعتقدت أنني تصرفت بحسن نية واتخذت أفضل قرار ممكن مع ما توفر لي من معلومات، ولم أكن الوحيدة في الوقوع في الخطإ. لكنني ما زلت أتصرف على هذا النحو، بكل بساطة وسهولة". وتحاول أن تقلب الموقف لصالحها. فالاعتراف بالخطإ يعدّ في الثقافة السياسية، دليل ضعف، "فيما هو في الواقع علامة قوة الشعوب والأمم وترقيها. هذا درس آخر تعلمته وخبرته كوزيرة للخارجية".

كثيرا ما ينظر المؤرخون والباحثون إلى المذكرات الشّخصية باعتبارها مصادر ثانوية لكتابة التاريخ، بعد تحليلها وتخليصها من الذاتية. ولكن مذكرات هيلاري كانت مغرقة في الانحياز بعيدة عن الرصانة التي يحتاجها المؤرخ. وهذا طبيعي. فالكاتبة بدت مقيدة بقيدين: واجب التحفظ الذي تقتضيه وظائفها المرموقة في صلب الإدارة الأمريكية وطموحها السياسي. فقد جاء الكتاب أقرب إلى العمل الدعائي ضمن حملة انتخابية سابقة لأوانها، منه إلى الاعتراف وإلى كشف ما يفشل المرء في كشفه أثناء مزاولته لعمله لإكراهات تتعلق بالوظيفة.


التعليقات (0)