كتب

ما الذي يمكن لفلسطين تعلمه من الحركة الوطنية الإيرلندية؟

عدلي صادق.. كاتب فلسطيني يؤرخ للحركة الوطنية الإيرلندية
عدلي صادق.. كاتب فلسطيني يؤرخ للحركة الوطنية الإيرلندية

احتلت القضية الفلسطينية مكاناً مميزاً في ضمير الإيرلنديين منذ أمد طويل بما يتجاوز كثيراً الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية أو السياسية، ووفقاً لتوازي وتطابق محنة الفلسطينيين مع تجربة الإيرلنديين القومية، فقد أوجد ذلك اتصالاً وتواصلاً عاطفياً ووجدانياً مع فلسطين.

وقد عبر عن هذا الشعور الروائي الإيرلندي الشهير سين أوفلون في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947 بعدما أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، حيث رفض المقارنة بين نضال كل من الإيرلنديين والصهيونيين بقوله "لو تصورنا أن البريطانيين حولوا إيرلندا لتكون وطنا قوميا لليهود، فليس لدي أدنى شك في أي جانب ستكون".

من هنا؛ تأتي أهمية كتاب "تاريخ إيرلندا وحركتها الوطنية"، للكاتب الفلسطيني عدلي صادق، الصادر عن دار صفحات للنشر والتوزيع ـ دمشق (ط1، 2022).

بدأ المؤلف كتابة بالإهداء "لأرواح شهداء إيرلندا الذين بذلوا حياتهم... من أجل الحرية والاستقلال والجمهورية".

ألحق الكاتب الإهداء بتوطئة، مشيراً فيها إلى "الكثير من نقاط التشابه بين تاريخ إيرلندا وتاريخ فلسطين" ولاحظ الكثير من "العبر والدروس التي يمكن أن يستفيد منها الفلسطيني".

يوضح المؤلف في المدخل ما الذي تعنيه الجغرافيا بالنسبة للتاريخ. فقد "بدت الجزيرة البريطانية الأكبر، كأنها الأم التي تحتضن رضيعها، وذلك رسمٌ انعكس في السيكولوجيا البريطانية، جموحاً مديداً إلى الإستحواذ والتأكيد على الغَلَبة، مثلما انعكس في الوعي الباطني الإيرلندي، إحساساً عميقاً بالمظلومية، واستقواء الطرف الأقوى، حتى لم يعد هناك خيار، سوى المقاومة والتحدي ببسالة". 

دلف المؤلف بعدها، إلى عدة عناوين ، خصص الأول منها لـ"أمة تتحقق من جديد"، وكيف خرجت جمهورية إيرلندا إلى حيز الوجود عام 1922، بحيث تتشكل ما تُسمى "إيرلندا الحرة" من ستٍ وعشرين مقاطعة، على أن تظل المقاطعات الست المتبقية، تحت حكم التاج البريطاني المباشر، كمنطقة حكم ذاتي، وتسمى إيرلندا الشمالية، التي يتأسس لها برلمان خاص، تحت السيادة العامة، لحكومة التاج البريطاني، وبرلمان ويستمنستر! يحدثنا صادق عن رمزيات التاريخ والجغرافيا؛ التي كان لها تأثيرها على القلم الذي يرسم الحدود بين جمهورية إيرلندا ومقاطعات إيرلندا الشمالية (البريطانية).

العنوان الثاني "معركة جميس الثاني الأخيرة لعنة كرومويل / لوثة الحقد والجرائم البشعة"، يعود بنا المؤلف إلى ما قبل العام 1690، للإجابة على بعض الأسئلة من بينها: ما هو المنطق في أن يرفض هؤلاء الذين جاءوا أجدادهم إلى إيرلندا قبل نحو 300 سنة، فكرة الاستقلال الوطني للايرلنديين أصحاب الأرض؟ 

فالعنوان الثالث، "أوكونيل يؤسس الوعي السياسي الأول وإيميت يغامر ويترك الوصية"، تناول صادق فيه كيفية تشكل فكرة الأمة الايرلندية، وعرج على سيرة المحامي دانيال أوكونيل، الذي سيقود الكاثوليك إلى وعيهم الوطني الأول. وتوقف أمام شخصية روبرت إيمت، التي صنعت أكثر الأحداث الأسطورية انتشاراً في تاريخ إيرلندا.

 

"بدت الجزيرة البريطانية الأكبر، كأنها الأم التي تحتضن رضيعها، وذلك رسمٌ انعكس في السيكولوجيا البريطانية، جموحاً مديداً إلى الإستحواذ والتأكيد على الغَلَبة، مثلما انعكس في الوعي الباطني الأيرلندي، إحساساً عميقاً بالمظلومية، واستقواء الطرف الأقوى، حتى لم يعد هناك خيار، سوى المقاومة والتحدي ببسالة".

 



سرد المؤلف في العنوان الرابع، "المجاعة الكبرى: إمبرياليون يهزّون أرجوحة الموت"، وأشار إلى أن ما حدث "في المجاعة لا زال حتى الآن، يترك إرثه العاطفي في وجدانهم الوطني، ويراه المؤرخون أمراً يضاهي في تأثيره، ما أحس به اليهود الألمان، عندما أعلنت النازية عن مبدأ "الحل النهائي" التصفوي لهم، ذلك على الرغم من اختلاف وسائل وشكل الإبادة التي دبرهما الإنجليز لشعب إيرلندا!".

تحت عنوان "رجال (فانيان) الشجعان"، تحدث المؤلف عن مصطلح "فينيان" الذي "انبثق أصلاً عن مرويات الأساطير الغايلية الضبابية التي لا تقوم عليها شواهد. فكل ما هو معلوم، أن المصطلح قد استخدمته للمرة الأولى منظمة جمهورية ايرلندية في خمسينيات القرن التاسع عشر، وبدا أنه مأخوذ من إسم فرقة محاربين أبطال، قُدامى وأسطوريين!". ويعرج على انتفاضة العام 1867 ضد الحكم البريطاني، وأشار إلى أن "الأمة الأيرلندية انتفضت ورفعت السلاح، ست مرات خلال القرون الثلاثة الماضية، لكي تؤكد سيادتها على أرضها وتنتزع حريتها". 

رصد العنوان السادس "تشارلز ستيوارت بارنيل: المرأة الخطأ تُفسد السياسة الجيدة"، قصة صعود وسقوط ستيوارت بارنيل، الذي اعتبره المؤلف "رجلاً برتستانتياً استثنائياً في تاريخ إيرلندا، لم يسبق أن استطاع رجل، إزعاج المشهد السياسي البريطاني، بشكل أعمق وأطول، مما فعله الرجل". وبحسب المؤلف "بين عشية وضحاها فقد قوته بعد واحدة من أكبر الفضائح الجنسية في تاريخ السياسة". 

ألقى المؤلف في العنوان السابع حزمة من الأضواء على "إرهاصات انتفاضة عيد الفصح 1916".

وفي العنوان الثامن انتقل إلي قراءة مشهد "انتفاضة عيد الفصح ونتائجها"، التي اندلعت عام 1916، وكانت "بمثابة تمرد مسلح في إيرلندا، خلال أسبوع عيد الفصح في شهر إبريل، وقد أطلق الجمهوريون الأيرلنديون على الحدث تعبير الإنتفاضة، بهدف تأسيس الجمهورية الأيرلندية وانتزاع الإستقلال من بريطانيا". والتي كانت من نتائجها إعادة "الزخم السياسي لفكرة الإستقلال والجمهورية، وجعلتها في واجهة السياسة الوطنية".

خصص العنوان التاسع للقائد الثوري"مايكل كولينز"، الذي اعتبره الكاتب "بمثابة فلاديمير لينين الأيرلندي، الذي يمكنه أن يؤسس وضعاً ثورياً في بلاده، يمضى إلى طريق الإنتصار!".

بينما رصد العنوان العاشر "الحرب الأهلية.. الواقعية والطوباوية"، بعد شهور من المفاوضات الصعبة في لندن، وُقعت في السادس من ديسمبر 1921، ما سُميت بــ "المعاهدة الأنجلو ـ أيرلندية". كانت المعاهدة تنص على منح ست وعشرين مقاطعة أيرلندية، من أصل 32 الحكم الذاتي. فلم يحصل الوفد الأيرلندي على "الجمهورية الأيرلندية"، التي قاتل من أجلها الجيش الجمهوري الأيرلندي. فما أحرزه الوفد الأيرلندي، له كان تسمية أخرى مخادعة، هي "الدولة الأيرلندية الحرة".

اندلعت الحرب الأهلية بين أفراد الجيش الجمهوري الإيرلندي القديم، بين أولئك الذين انتقلوا من تلك القوة، وأصبحوا جزءًا من الجيش الجديد لـ "دولة إيرلندا الحرة" وأولئك ظلوا يحملون أسلحتهم، ومنظمون، على الرغم من أنهم ما زالوا يحتلون ثكنات بريطانية سابقة.

ناقش العنوان الحادي عشر "جمهورية إيرلندا المستقلة الحرة"، الصراع والعداوة بين الجيش الأيرلندي. ويشير الكاتب إلى محاولات الزعيم الاستقلالي إيمون دي فاليرا، مشروعه السياسي من وسط واقع الإحباط الذي تفشى بعد مقتل مايكل كولينز.

 

يتطرق الكاتب في العنوان الخامس عشر "ستورمونت هاوس مرة أخرى"، إلى اتفاقية «ستورمونت هاوس» (التي أعلن عنها في الثالث والعشرين من ديسمبر 2014) الهادفة إلى ربط الأطراف والمجتمعات الأيرلندية، بشكل أوثق، لحل قضايا الهوية، والتوصل إلى تسوية بشأن إصلاح الرعاية الاجتماعية، وجعل التمويل الحكومي في إيرلندا الشمالية أكثر استدامة.

 



استعرض المؤلف في العنوان الثاني عشر "قبل سونينغديل وبعدها"، تاريخ إيرلندا من سنة 1921 إلى سنة 1985. بعد الحفاظ على السلطة البروتستانتية في الكيان الجديد، ساد التمييز ضد الأقلية الكاثوليكية، في الوظائف والإسكان والخدمات، بالإضافة إلى الاستبعاد من السلطة السياسية. ما أدى إلى أعمال العنف بين البروستانت والكاثوليك استمرت من 12 إلى 14 أغسطس 1969. ويعرج على الاتفاقية الأنجلو أيرلندية، التي وقعتها الحكومتان الأيرلندية والبريطانية في عام 1985.

رصد العنوان الثالث عشر "مقدمات الجمعة العظيمة"، منذ اتفاق وقف إطلاق النار في إيرلندا الشمالية، مع الجيش الجمهوري، في الحادي والثلاثين من أغسطس 1994؛ إلى قيام الرئيس الأمريكي بيل كيلنتون بالوساطة بين الجيش الايرلندي وبريطانيا. 

انتقل الكاتب في العنوان الرابع عشر "اتفاق الجمعة العظيمة وما بعده"، للحديث عن الاتفاقية التي عُرفت أيضاً بـ"اتفاقية بلفاست"، فقد كانت الاتفاقية، في منطوق نصها المتفق عليه، تتيح "لشعب جزيرة إيرلندا، وَحْدَهُ حصراً، إن أراد، أن يقرر توحيد الجزأين بالاتفاق بينهما". تمخضت الاستفتاءات التي جرت في مايو 1998 عن تأييد الاتفاق، بأكثر من 90% من الشعب الأيرلندي في الجمهورية، و71% في إيرلندا الشمالية. 

يتطرق الكاتب في العنوان الخامس عشر "ستورمونت هاوس مرة أخرى"، إلى اتفاقية «ستورمونت هاوس» (التي أعلن عنها في الثالث والعشرين من ديسمبر 2014) الهادفة إلى ربط الأطراف والمجتمعات الأيرلندية، بشكل أوثق، لحل قضايا الهوية، والتوصل إلى تسوية بشأن إصلاح الرعاية الاجتماعية، وجعل التمويل الحكومي في إيرلندا الشمالية أكثر استدامة. وبعد عشرة أسابيع من المحادثات الإضافية، تم التوصل إلى اتفاقية "البداية الجديدة" في نوفمبر 2015 التي تهدف إلى ضمان التنفيذ الكامل لاتفاقية Stormont House والتعامل مع تأثير استمرار النشاط شبه العسكري، بتدابير اجتماعية وقائية، وقد سُميت الاتفاقية على اسم المبنى الذي جرت فيه المفاوضات؛ وهو ستورمونت هاوس نفسه، المقر الإقليمي لمكتب إيرلندا الشمالية.

أخيراً، فنحن أمام عمل تاريخي متميز، جاء على مدى 352 صفحة من القطع المتوسط، خيرًا فعل الكاتب والباحث الفلسطيني عدلي صادق باختياره "تاريخ إيرلندا وحركتها الوطنية"، لأنه تاريخ مجهول عربياً، لم يتناوله الباحثون العرب في حدود قراءاتي، فنجح صادق في رصد هذا التاريخ. 


التعليقات (0)