مقالات مختارة

قصة السلاح: عنف أمريكا وخوف بريطانيا

مالك التريكي
1300x600
1300x600

لست أدري إذا كان معظم الناس يشاهدون نشرات الأخبار وبرامج شؤون الساعة على التلفزيون مشاهدة اندماجية (من الألف إلى الياء) أم انتقائية (بمفاضلة بين الفقرات حسب الميول والاهتمامات).

 

ذلك أني من المواظبين منذ عقود على مشاهدة نشرة العاشرة مساء على تلفزيون بي بي سي 1 ثم برنامج «نيوزنايت» في العاشرة والنصف على بي بي سي 2.

 

لكن التغيرات التي طرأت على الثقافة الإخبارية في السنوات الماضية صارت تجبرني في بعض الحالات على المقاطعة المؤقتة، أي الانقطاع عن المتابعة، ريثما يمر الخبر الذي لا يهمني أو الذي يزعجني.

 

إذ لا يندر هذه الأيام أن تكون منهمكا في متابعة النشرة راكنا لأمان توقعاتك الإخبارية الجادة في السياسة والاقتصاد (أما الثقافة فلا مطمع في نيل شيء من أخبارها لأن التلفزيون البريطاني معرض عنها تمام الإعراض، بعكس التلفزيون الفرنسي والإيطالي مثلا)، فإذا بالبي بي سي تباغتك بإعلان خبر نظر المحاكم في قضية طلاق زوجين شاءت الصدف أن يكونا من أقوام هوليود أو بوليود، أو خبر خصومة غير شريفة بين امرأتين شاءت الصدف أن تكونا زوجتي لاعبي كرة، أنعم وأكرم! وربما هان الأمر لو أنه تعلق بخبر واحد تسمعه ذات يوم عرضا.

 

لكنه أجلّ وأخطر: إنه قصف إخباري متصل لأيام أو أسابيع. قصف بماذا؟ بأتفه تفاصيل الحياة الشخصية التي يفترض، منطقا، أنها تعني المتخاصمين ولا تعني أحدا سواهما من بقية البشرية المسكينة.


ومن المظاهر الأخرى لتغير الثقافة الإخبارية أنه تكاثرت في الفترة الأخيرة الأخبار والفقرات المخصصة لمن يسمون بجماعات «الجيبيتي»، أي المثليين والمتحولين جنسيا الذين صار الساسة يحسبون لهم في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية ألف حساب.

 

وهؤلاء بالطبع مواطنون لهم، مثل بقية المواطنين في ديمقراطيات التسامح الليبرالي، حقهم في العيش كما يريدون.

 

لكن ما يصيب المشاهد بالملل هو استمرار الحديث عنهم والإصرار على تحويل حياتهم الشخصية (علما أنهم ينعمون بمطلق الحرية فيها) إلى قضية رأي عام وتوعية سياسية واحتفاء ثقافي.


والذي سبق ذكره أخبار من النوع الجديد نسبيا، لأنها ما كانت متواترة أو لافتة قبل بدايات هذا القرن. إلا أن ثمة أيضا أخبارا من النوع القديم أو المعهود أعترف أني قررت منذ زمن بعيد الانقطاع عن متابعتها وصرت أسارع إلى إطفاء الصوت أو تغيير القناة كلما وردت في النشرة.

 

وأولها هي أخبار جرائم القتل التي ترتكب في الولايات المتحدة كل أسبوع تقريبا. ذلك أن كثرة هذه الجرائم، بسبب سهولة امتلاك السلاح الناري، وتشابه مجرميها وضحاياها وملابساتها وأماكنها (مع تواتر ملحوظ للمدارس والمحال التجارية) قد أديا، بعد عقود، إلى القضاء على آخر ما تبقى لدي من قدرة على الاهتمام في ظل عجز نظام الاستغلال الرأسمالي وثقافة العنف المادي والرمزي في الولايات المتحدة عن وضع حد لهذه المجازر المتكررة.


والدليل على أن المسألة ثقافية في الأساس أن الاتحاد القومي البريطاني للأسلحة النارية قد أنشئ عام 1859، لكنه لم يستطع التدخل في مسار الانتخابات البرلمانية، سواء بالتمويل أو غيره، ولم يتمكن من تعميم ثقافة السلاح وليس له اليوم تأثير في الحياة العامة في بريطانيا.

 

أما نظيره الأمريكي الذي أنشئ بعده بسنوات (1871)، فسرعان ما أصبح، وهو لا يزال حتى اليوم، أقوى اللوبيات في الولايات المتحدة.

 

ذلك أن مبادئ الدستور الأمريكي وتعديلاته العشرة الأولى التي تمثل «ميثاق الحقوق»، بما فيها التعديلان الأول الحامي لحرية التعبير والثاني الحامي للحق في حمل السلاح، قد سرت في الوعي الاجتماعي منذ نشأة الجمهورية سريانا قويا بحيث صارت مقوما أصيلا من مقومات الثقافة السياسية الأمريكية.

 

وقد سبق أن تطرقنا في القدس العربي، أثناء عهدة الرئيس كلنتون الثانية، لهذه الثقافة السياسية وتمثلاتها وأوجزنا تعريفها بأنها الاتفاق الوطني الواسع حول مبادئ إدارة الشأن العام ووسائلها (بخلاف الأيديولوجيا السياسية التي تتعلق بالاتفاق الحزبي أو الفئوي الضيق نسبيا حول غايات الحكم ومقاصده).


ومن الطريف أن الحفل الأول للاتحاد القومي البريطاني للأسلحة قد نظم يوم 2 يوليو 1860 في ويمبلدون، إحدى أجمل المناطق في لندن، حيث دشنته الملكة فيكتوريا بإطلاق أول رصاصة (بمجرد جذب خيط من الحرير).

 

أما السبب في سماح حكومتها بإنشاء هذا الاتحاد (أي تشكيل قوة دفاع مدني من المتطوعين لحمل السلاح) فهو أن بريطانيا كانت خائفة عام 1859 من احتمال تعرضها لغزو فرنسي! وقد عملت الصحف الشعبية على تغذية هذا الخوف بالإشاعات وأنصاف الحقائق لأن الجيش البريطاني كان موزعا آنذاك بين مختلف مناطق الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وكان القلق يساور الجميع: من الذي سيرابط على أجراف مجاز دوفر عندما تصل سفن الغزاة الفرنسيين؟

 

(صحيفة القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل